22/08/2011 - 15:41

أمر عالمي بإنهاء الاستبداد العربي!../ مطاع صفدي

أخيراً هذا المشهد السريالي: دول الهيمنة الغربية التقليدية تصدر أوامرها المتلاحقة بتنحي أباطرة العهد الاستعماري المشؤوم، واحداً بعد الآخر. لكن الشعوب (المتحررة) هل ستعرف كيف ستتمتع بالشمس المشرقة الجديدة قبل أن تعصف بها غيوم التزييف من كل جانب..

أمر عالمي بإنهاء الاستبداد العربي!../ مطاع صفدي
العالم يتغير. هل تسبق متغيرات المحيط هذه المرة متغيرات المركز، القارة العربيةالإسلامية مُقْدِمة على تمزيق خارطتها الإستعمارية القديمة. كل الغرب المتخبط فيحقبة النزع لرأسماليته المتهالكة، لا يدري بعد كيف يمكنه أن يتدبّر انفلات هذهالغارة من تحت يده، في الوقت الذي يعجز عن ابتكار شباب آخر ما بعد شيخوختهالمزمنة.

يدرك العقل الغربي أن إمبراطوريته العسكرية عفا عليها الزمن، وطولُالتوغّل في دمار الشعوب الأخرى، وأن قائدته العظمى أمريكا مشغولة برهان إمكانيةالبقاء لما بعد انسحاب خارطتها العسكرية عن وجه ثلثيّ الكرة الأرضية، وأنه لا أملكذلك ببقاء إمبراطورية أخرى بديلة للغرب موصوفة بالمدنية، تُفاخر بها بقيةالإنسانية وتُعزّي شعوبها الضعيفة بالإستتباع الطوعي لسلطانها الشفاف، لكن بعضالفكر الأوربي له رهان آخر معتمداً على الفلسفة القائلة: أن الهيمنة المدنية ليسشرطها بقاء الهيمنة العسكرية، بل الأمر على العكس، فان امتحان الأصالة للهيمنةالمدنية هو في قدرتها على ابتكار سلطتها المعنوية من ذاتها، ضداً على كل قهر عنفيمادي. وقد لا يأتي هذا الامتحان من صميم المدنية الغربية الرافضة حتى اليوم تجاوزَشرنقتها العنصرية؛ هنا تأخذ الثورة العربية الوليدة زمام المبادرة فيما أنجزته حتىالآن من تجارب مبدعة تتعلّق بإمكان إنتاجٍ لقانونها ضداً على مختلف الضروراتالواقعية المترسّخة في بنية مجتمعاتها وسلطاتها الحاكمة. فقد باشرت عصرَها المختلفبالبرهنة اليومية على أن للمقاومة المدنية عنفَها الإنساني القادر على دحض العنفالدموي الفالت من كل عقال أخلاقي أو قانوني.

قد لا تتهاوى جميع عروش مركّبالاستبداد/الفساد، بين عشية وضحاها. لكن الثورة، بالحرف الكبير، أَفقدت هذه العروشحتى الثقة بقلعتها الأمنية. فما يعنيه استنفاد أو استهلاك الحل الأمني هو أنالطغيان لا حماية له في محصّلة الصراع السياسي، الذي سوف تفرضه عليه قوى جماهيريةغاضبة، غير قابلة أصلاً لمنطق القوة، وإن كان يتهدد حياتها. ذلك أن الحل الأمني لايفقد جدواه عربياً فحسب، بل ربما هي نهاية حقبة كونية كاملة من تراكم أشكال العنففي العلاقات الدولية والمجتمعية الداخلية، تحت سطوة القهر الاقتصادي الذي دأبت علىتسويغه وتسويقه إقليمياً وعالمياً الليبراليةُ التي تصف نفسها بالجديدة، وهي فيحقيقتها ليست سوى ردة عمياء إلى قانون الغاب، وإن كانت تتسمَّى بقانون السوقوحدانياً فحسب.

الاعتراف بأنه العصر الإنساني للثورة، المتميزة بجمهورها الطليعيمن الشباب، هو اليوم مفتاح الفهم لاستراتيجية دولتية على مستوى المعمورة، لم يكتبهاأحد، إذ تنبع من تحولات التاريخ الكوني عينه. إنه عنصر الشباب الذي يُمسك بزمامالمبادرة، فهو المتحسّس أولاً بهزات الزلزال قبل تعميم انفجاراته. وقد اهتزتالشوارع الخلفية لعاصمة المال العالمي لندن بالموجات الغاضبة الأولى من الشبيبةالعاطلة عن العمل، والتي تحرمها سياسة التقشف من فتات المساعدات الحكومية التي كانتتبقيها على قيد الحياة. اتهمت الدولةُ الغاضبين بأنهم من العناصر الملونة الطارئة،لكن كشفت كاميرات بعض الإعلام، أن العنصر الأبيض الأشقر كان مخالطاً لزملائه السودوالسمر؛ فأوربا (الرسمية) ترفض مقدماً التوقعات الاجتماعية حول الحراك الطلابيالمنتظر مع العودة القريبة إلى الجامعات والمعاهد العليا في معظم مدن القارةالعجوز، حيثما سينتقل الرد على الجولة الجديدة لأزمة الاقتصاد المالي الافتراضي، منأوساط الساسة والخبراء الفاشلين، إلى جماهير الشعب، بدءاً من الطلائع الطلابية التيسترافقها النقابات العمالية منذ البداية، مما يجعل هذه الانتفاضة مختلفة عن سابقتهاورائدتها، ثورة الثامن والستين الفرنسية، إذ بقيت هذه الحركة الأولى طلابية إلى مدىبعيد، قبل انضمام شرائح متزايدة من الطبقة المتوسطة.

قال بابا "روما" معنّفاًقادة أوربا: إنهم لا يزالون يختلفون حول سعر الفائدة، بينما يكاد ينهار النظامالمالي كلياً على أغنيائه وفقرائه معاً. وإن كان لأغنياء هم صانعو الأزماتوالمستفيدون الأوائل من (فوائد) أعطالها، في الحسابات الأخيرة.

إذن، هو الغرببضفتيه من الأطلسي، يعاني راهنياً من الاستحقاقات الواقعية المترتبة على الهرولةنحو الليبرالية الجديدة المجنونة، لكنه، وهو في أوج الذروة القصوى، من هذه المعاناةليس مستعداً للتنازل شبه المجاني عن قارته الأخرى السمراء، فهي مستودع احتياطهالدائم في أحوال السرّاء والضراء، من ذخائره التقليدية في الثروة والسلطان ومشاريعالهيمنة على مجريات التاريخ العالمي.

لكن القارة العربية الإسلامية تشرع فيتبديل مادتها البشرية، من طغيان فئات الشيوخ، إلى الصاعدين من الأفواج الفتية التيأصبحت تشكل الغالبية في مجتمعاتها، الجديدة؛ فلن يبقى نظام الأنظمة العربية الحاكمةحكراً على طبقة العَجَزَة من أصحاب كروش الاستبداد والفساد. فإن تساقط الطاقمالرئاسي الجمهوري الزائف من هذه الطبقة، ليس سوى المدخل إلى بيت العنكبوت الأصلي،حيثما يعتصم الطاقم الآخر المؤسس لديمومة التخلف العربي، من رموز السلطة القروسطيةالمستديمة. فالعصر الشبابي العربي ليس مصطلحاً شعرياً، إلا أنه علامةُ التبدلللمادة البشرية نفسها، حيثما يقع نوع التناقض الجذري، للمركب الحيوي الأنطولوجي،مابين القالب السلطوي المؤطر للمجتمع، ومابين محتواه من طبيعة المادة البشريةعينها؛ ذلك هو تعليل ديموغرافي لم يعد يمكن إهماله في فهم وتحليل قانون التغيرالتاريخي، لكلٍ من نموذجيْ التقدم والتخلّف من مجتمعات الألفية الثالثة. وقد يكونالعلم الغربي متنبهاً إلى هذا المنعطف الذي تعبره غالبيةُ إنسانيةِ المعمورة غيرالبيضاء، بينما يواجه الغرب مرحلة الاستعصاءات شبه المطلقة في مختلف مشاكله الماديةوالروحية.

مثلاً، حين يتولَّى قادة الدول العظمى، في واقعة لا سابقة لها، إصدارأمر الارتحال إلى حاكم دمشق ما بعد حاكميْ القاهرة وطرابلس. هذا يعني أن الغرب قررأن يمزق خارطة الشرق الأوسط التي رسمها بقلمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علىالأقل، إن لم ترجع إلى الحرب الأولى في أصلها. فإذا ما تمَّ انسحاب الاحتلالالأمريكي من العراق وأفغانستان، خلال العامين القادمين، هذا معناه أيضاً أن مجملالقارة العربية، حتى عمق حدودها الإسلامية في قلب آسيا، قد ترُكت مئاتُ ملايينالبشر شبه المعدمين، اقتصادياً حضارياً، لمصائرها الذاتية، لأول مرة منذ سقوطالدولة العباسية في بغداد؛ لكن من يقول إن الغرب حزم أمره حقاً على إغلاق أبوابمستودعه من احتياطي الثروة والهيمنة، وأنه رمى مفاتيحها إلى المصير المجهول منذاته، قبل سواه. هناك في هذا الغرب العتيد، بعضُ أهل الثقافة الحرّة يعتقدون أنأوربا لن تحقق ثورتها الشبابية على شيخوختها إلا بقدر ما يتحرر الشرق من هيمنتها. ولذلك أسبابٌ موضوعية صرفة. أولها أن المال والنفط العربيين لم يعودا حاجة حيويةواحتياطية عظمى إلا للبعض من أسياد الرأسمالية المترسخة، بل ربما أمست هي العقبةَالكأداء، أمام حتمية التغيير المجتمعي الكلي، الذي صار هو رهان عودة الفُتوّةلمدنيةٍ غربية عالمية، خالصة من توأمها البربري الملاصق كالجسد الآخر، لمختلفتطوراتها الحافلة بنقائض الخير والشر.

الغرب أصبح يردد بالفم الملآن بعضَ أسرارمصائبه، مُقَنَّنةً بأرقامها الفلكية الرهيبة. ما يقال عن ثرواته القومية الجبارة،يصرّح الإعلامُ ان ثمانين في المئة منها، هي ملكية خاصة لحفنة معدودة من فِيَلَيةالرأسمالية، المصرة على إبقاء كل خطوة للمدنية نحو الأمام، محكومةً سلفاً بـ"'قوانين" جاهلية الغاب لما قبل تاريخها، بحجة إطلاق المنافسة الحرّة. فكانت النتيجةأن شعوب أمريكا وأوربامع دولها، أصبحوا مديونين جميعاً لكبار أغنيائهم. ومع ذلكفهؤلاء الدائنون الجبابرة، بآلاف المليارات، ليسوا سعداء تماماً. فلقد اقتنصتبورصات المال حرياتهم الشخصية؛ صاروا عبيداً، افتراضياً، لأحدث سلطة استبدادية هيسلطة الأرقام الفلكية، شبه المتنقلة والمستقلة تقريباً عن إرادة أصحابها، متنقلةًفي لحظات "الزمن الواقعي"، هذا المصطلح المفترس لمسافات الزمان والمكان، والمكثف فياللمعات الضؤئية الخاطفة على سطوح الشاشات الإلكترونية، حيثما تكاد تتساوىلانهائيات الأرقام القصوى بلانهائياتها الدنيا. كأنما هو الاستبداد الضوئي،المرآوي، سيكون هو الموروث الأبقى والأخطر، بعد انحدار سلالات الاستبدادات السياسيةبكل أشكالها وأطوارها، إلى مزبلة التاريخ.

من وجهة النظر هذه يمكن فهمُ العجزالأمريكي والأوربي المستفحل، عن فرض ضرائب تصاعدية جديدة على الصفقات الماليةالخيالية؛ ذلك أن سلطة السوق لا تزال تفرض على الحكومات أن تتابع ابتزاز شعوبهاكيما تغطي بعض الديون المتراكمة، المفجرة لمسلسل الأزمات (الكونية) المتلاحقة. فالعالم يشتغل ويكدح من أجل حفنة من أثريائه.. هؤلاء الذين أمسوا بدورهم أسرىلسماسرة البورصات، المتلاعبين الفعليين بمصائر الشركات الكبرى، والدول العظمىأخيراً، المشرفة على الإفلاس. هذا الوضع الاقتصادي المتأزم يحكم السياسة الدولية،ويدفعها إلى ارتكاب تنازلات جذرية، قد يصبّ بعضها في صالح الشعوب المستضعفة، من حيثأن تسلّط القوي على الضعيف بات يكلّف صاحبه ما فوق طاقته. لعلّ عالمنا العربيوالإسلامي سيكون من أول المستفيدين إن أحسن شبابه الصاعد قراءةَ هذه التحولات. بمعنى أن انحسار التسلّط الغربي عن هذا العالم، ربما يؤذن بانقضاء حقبة الاستبدادالمحلي المشتغل لحساب قانون الهيمنة الاستعمارية. فقد تعرف قريباً أوطانُ قارةالعرب والإسلام وجهاً مجهولاً للحرية كادت تنسى ملامحه منذ عصور.

أخيراً هذاالمشهد السريالي:
دول الهيمنة الغربية التقليدية تصدر أوامرها المتلاحقة بتنحيأباطرة العهد الاستعماري المشؤوم، واحداً بعد الآخر. لكن الشعوب (المتحررة) هلستعرف كيف ستتمتع بالشمس المشرقة الجديدة قبل أن تعصف بها غيوم التزييف من كل جانب..
"القدس العربي"

التعليقات