28/08/2011 - 14:26

السؤال عن عملية إيلات وعن مصير المقاومة الفلسطينية المسلّحة../ ماجد كيالي

أثارت العملية الفدائية التي جرت في ايلات (مؤخّرا) التساؤل عن واقع المقاومة الفلسطينية المسلحة، ومشكلاتها وجدواها ومآلاتها، كما عن معنى هذه العملية، التي بدت وكأنها خارج السياق السياسي الراهن فلسطينيا وعربيا

السؤال عن عملية إيلات وعن مصير المقاومة الفلسطينية المسلّحة../ ماجد كيالي
أثارت العملية الفدائية التي جرت في ايلات (مؤخّرا) التساؤل عن واقع المقاومة الفلسطينية المسلحة، ومشكلاتها وجدواها ومآلاتها، كما عن معنى هذه العملية، التي بدت وكأنها خارج السياق السياسي الراهن فلسطينيا وعربيا.
 
معنى ذلك أن هذه التساؤلات لاعلاقة مباشرة لها بهذه العملية، التي استهدفت عسكريين إسرائيليين من جيش الاحتلال، ولا بمنفذي العملية، الذين أبدوا جرأة عالية وشجاعة منقطعة النظير ووطنية فائضة، بقدر ما لها علاقة بالتساؤل عن الإستراتيجية السياسية والعسكرية التي تنضوي في إطارها هذه العملية.
 
ومثلا، فهل هي جزء من خطة عسكرية متواصلة؟ أم فشة خلق؟ أم شيء ما؟ هل تريد هذه العملية أن تقول شيئا سياسيا ما وماهو؟ ثم ماهي الإستراتيجية العسكرية حقا للفلسطينيين؟
 
ومعلوم أن هذه العملية أتت في ظرف سياسي فلسطيني مختلف، حيث قطعت حركة "فتح" مع فكرة الكفاح المسلح نهائيا، وهاهي تتأهّب لأخذ الفلسطينيين (عبر المنظمة) لخوض معركة سياسية ودبلوماسية في الأمم المتحدة لانتزاع الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود العام 1967.
 
أما حركة حماس، التي تهيمن كسلطة أحادية في قطاع غزة، فهي ذهبت نحو عقد هدنة غير معلنة مع إسرائيل، وأوقفت مختلف أشكال العمل المسلح من غزة، بل إنها تنصّلت من هذه العملية وعجلت بالجهود المصرية لإعادة التهدئة.
 
أما على الصعيد العربي المشغول بقضية الثورات الشعبية فقد بدت هذه العملية، بغض النظر عن نوايا أصحابها، وكأنها بمثابة محاولة لتغيير المشهد السياسي الراهن. ومعنى ذلك أن أية هجمات مسلحة على إسرائيل يمكن أن تستخدم من قبلها، في هذا الظرف الفلسطيني والعربي والدولي غير المواتي للاستفراد بالفلسطينيين، والإمعان فيهم قتلا وتدميرا، كما حدث في مرات سابقة.
 
هكذا فإن الجدال هنا بشأن عملية إيلات يؤكد على شرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وبأن الاحتلال هو مصدر القهر والحرمان والتمييز، وبالتالي الإحباط والغضب والعنف عند الفلسطينيين، لكنه يؤكد أيضا على تبصّر الفلسطينيين بكيفية ممارستهم للمقاومة المسلحة وحسن إدارتها واستثمارها، كما يؤكد على عدم حصر المقاومة بالعمل المسلح، لأن الأصل في النضال ضد الاحتلال هو للمقاومة الشعبية، التي يشارك فيها أوسع قطاعات من الشعب، بأشكال مختلفة، كل بحسب إمكانياته وقدراته.
 
ومعنى ذلك أنه في المقاومة كما في السياسة كما في الحياة ينبغي أن يخضع كل شيء للأسئلة والفحص ولحسابات الكلفة والمردود من كل النواحي. فالمقاومة ليست فعلا للبطولات والتضحيات فقط، وإنما هي قبل ذلك، بمثابة فعل سياسي ينبغي أن يخضع لمعايير محددة ولمعطيات دقيقة ولحسابات الجدوى السياسية، وضمن ذلك إمكان تحمّل كلفته من قبل مجتمع المقاومة، ومدى التعاطف العالمي، وضمان استمرار تأثيره على العدو، بما في ذلك إثارة التناقضات عنده.
 
المشكلة أن هكذا نقاش في الساحة الفلسطينية يعتبر بمثابة مسّ بالمقدسات، أو بالمحرمات، ما يجعل الكفاح المسلح، الذي يمارسه بشر، خارج نطاق النقد والمساءلة وخارج الدراسات العقلانية وحسابات الجدوى. لكن المشكلة الأكبر أن كل ذلك يحدث في ظل حجب لحقيقة دامغة مفادها أن ثمة ادعاء فلسطيني بالتمسك بالكفاح المسلح أكبر بكثير من القدرة على ممارسته، كما ثمة ادعاء كبير بتبني هذا الشكل من دون القدرة على إدارته بالشكل الأنجع والأقوم.
 
هذا يحدث (أي تحريم النقاش) في واقع دفع فيه الشعب الفلسطيني من الأردن إلى لبنان إلى الضفة وغزة ثمنا باهظا لهذا الشكل من الكفاح، بالأرواح والممتلكات والمعاناة، من دون أن يكون ثمة نوع من التناسب (ولو النسبي) بين الكلفة والمردود، في حسابات الجدوى السياسية والعسكرية.
 
وفضلا عن هذا وذاك فإن التجربة العسكرية الفلسطينية لم تكن ذاتها في كل المراحل، ولم تكن على نفس الوتيرة في كل الأوقات، بل إن زمنها يكاد يكون أقصر بالقياس لعمر التجربة الوطنية الفلسطينية، حيث انتهت تجربة العمل الفلسطيني من الخارج منذ ثلاثة عقود من الزمن تقريبا (1982)، في حين أنها لم تمارس في الداخل بمستوى فاعل سوى بضعة سنوات فقط (2001ـ 2005).
 
وتبيّن التجربة أن الكفاح المسلح لم يكن بفاعلية كافيةً للحفاظ على قوة الدفع التي أوجدها في سنواته الأولى، حيث لم تلبث هذه التجربة أن أجهضت، ليس بفعل عوامل خارجية، أو بسبب تفوق إسرائيل عسكرياً، وإنما أيضاً بفعل عوامل داخلية، ضمنها، مثلاً، تخلف إدارة الوضع الفلسطيني، وعدم ارتباط المقاومة المسلحة بإستراتيجية سياسية وعسكرية واضحة، وسيادة الفوضى والمزاجية.
 
وكان من شأن المبالغة بهذا الشكل طغيانه على الحياة السياسية، إذ تحول العمل بين جماهير المخيمات، إلى نوع من الاستقطاب الزبائني (وليس السياسي)، وحلت الميليشيات محل الأطر التنظيمية/ الحزبية، ما أدى إلى تحول العمل المسلح إلى نوع من السلطة. وفي ذلك باتت مكانة المنظمات تتحدد بمدى حيازتها على القوة العسكرية (لا التنظيمية أو الفكرية أو الصدقية المسلكية). وباتت هذه القوة تستخدم في اتجاهين آخرين، غير مواجهة العدو، أي باتجاه تكريس السيطرة على التجمعات الفلسطينية، والحسم في شأن ترتيب المنظمات الفدائية.
 
فوق كل ذلك فإن "عسكرة" الحركة الوطنية الفلسطينية عنت نبذ أشكال النضال الأخرى، أي الاستهتار بأشكال النضال الشعبي، وجعل النضال ضد الاحتلال حكرا على مجموعات المقاومة المسلحة، كما تضمن ذلك الاستهتار بالعمل السياسي (على الصعيد الدولي وعلى صعيد التأثير في المجتمع الإسرائيلي)..
 
على ذلك يمكن اعتبار الانتفاضة الأولى هي الشكل النضالي الأرقى والأنسب والأكثر جدوى الذي انتهجه الشعب الفلسطيني. والمفارقة هنا، أيضا، أن الكيان الفلسطيني لم يقم كنتيجة للكفاح المسلح وإنما كثمرة للانتفاضة الأولى.
 
ثمة أهمية كبرى لقيام الفلسطينيين بمراجعة أشكال عملهم ونضالهم، لاسيما إنهم يكابرون في القيام بذلك من الناحية النظرية، في حين إنهم قطعوا أشواطا كبيرة في ذلك من الناحية العملية؛ وهذه مفارقة جارحة.

التعليقات