05/09/2011 - 12:52

كأنه لم يكن../ نصري الصايغ

العالم تغيَّر مراراً، ولبنان أزلي سرمدي في بقائه على حاله، يسير وفق قاعدة، "من أسوأ إلى أعظم منه سوءاً".. العالم العربي برمته يعيش زلزال التغيير الديموقراطي. بعضه حظي بثورة ناجحة. كثرة فيه، على أهبة الانتفاض على الاستبداد المزمن. جله سينتقل من "أهل الكهف" إلى "مائدة" الديموقراطية. باستثناء لبنان، فهو على حاله، يعيش في مداره الخاص، كأن شيئاً لم يكن. لا الأحداث الداخلية الجسام تبدّله، ولا التحولات الكبرى تغيِّر من أساليب تعاطيه مع مشكلاته الكبرى والصغرى، بوضاعة سياسية، يستسيغها الناس، الذين توزعوا كمؤمنين دائمين على دين زعمائهم

كأنه لم يكن../ نصري الصايغ
العالم تغيَّرمراراً، ولبنان أزلي سرمدي في بقائه على حاله، يسير وفق قاعدة، "من أسوأ إلى أعظم منه سوءاً".. العالم العربي برمته يعيش زلزال التغيير الديموقراطي. بعضه حظي بثورة ناجحة. كثرة فيه، على أهبة الانتفاض على الاستبداد المزمن. جله سينتقل من "أهل الكهف" إلى "مائدة" الديموقراطية. باستثناء لبنان، فهو على حاله، يعيش في مداره الخاص، كأن شيئاً لم يكن. لا الأحداث الداخلية الجسام تبدّله، ولا التحولات الكبرىتغيِّر من أساليب تعاطيه مع مشكلاته الكبرى والصغرى، بوضاعة سياسية، يستسيغها الناس، الذين توزعوا كمؤمنين دائمين على دين زعمائهم.
 
كأن شيئاً لم يكن. هذا هو لبنان. ينتقل من يوم إلى يوم، بلا ترتيب. نهار الثلاثاء عنده مثلاً، لا يتصل بنهارالاثنين قبله، ولا بنهار الأربعاء بعده، ولا ينتمي إلى أسبوع في شهر من سنة ما. هو نهار مستقل عما قبله وعما بعده. مشكلة الأمس تموت لتولد معضلة اليوم التي لا تخص قضية الغد...
 
نشرح: السياسة موصولة الحلقات في سلسلة شديدة الترابط، لأن السياسة مسار في الزمن، ولا تتوقف، إلا عند إتمام خطة أو إنجاز مرحلة أو نهاية حقبة، أو عند حصول أحداث جسام، تقتضي التوقف والتغيير والتبديل، أو عند تغييرالعهود والحكومات في مفاصل ذات صلة بالإقليم أو بالعالم الخارجي.
 
ليس عندنا منكل ذلك غير الكلام. الأفعال، وهي بحاجة إلى تواصل زمني ومتابعة مستمرة، غائبة عن النص السياسي اللبناني. وليس السبب في ذلك، عدم اتفاق قواه السياسية على أمر ما، إذ غالباً ما يحصل اتفاق مبرم، ويجري تطبيق عكسه بالتمام أو تناسيه عمداً. السياسة في لبنان، ليست حساباً بالجملة، بل هي بضاعة بالمفرق.
 
نشرح: بادرت إلى تهنئة وزيرغير نائب بعد إقرار قانون، ذي صبغة سياسية ديموقراطية انتخابية في مجلس النواب. سخر مني: "كبر عقلاتك". لقد صوَّتوا على حبر فقط. صوتوا على ما لن ينفذوه. وبالفعل، جرت الانتخابات الماضية في معية حبر لقانون، خرقته مليارات الدولارات، برغم النص الصريح على الإنفاق المالي وقيوده الصارمة.
القانون ذاك! كأن شيئاً لم يكن.
 
مناسبة هذا الكلام، ليست خطة الوزير جبران باسيل "لإصلاح" مرفق الكهرباء. بهدف التشكيك بحبر الخطة أو أرقامها. المناسبة هي في اكتشافنا البارود اللبناني، مرة أخرى، وتنبهنا إلى ضرورة مراعاة "الخصوصية اللبنانية" المبنية على اعتبار كل ما قد قيل وما قد خطط له وما قد صدر فيه قرار، وما سن من أجله قانون، لا علاقة له بالأزمنة السياسية اللبنانية، التي جعلت من أيام الأسبوع، على عدد أيام الطوائف وزعاماتها... معظم ما قد اتفق عليه اللبنانيون، وبعد دفع أثمان باهظة، يمكن اعتباره، كأنه لم يكن. حروب لبنان الداخلية أسفرت عن عشرات آلاف القتلى والجرحى والمهجرين والمخطوفين و.. مئات ملايين الدولارات، وضياع خمسة عشر عاماً من عمر البلد، انتهت باتفاق الطائف.
 
اتفقوا في الطائف على اللامركزية الإدارية... وحتى الآن، كأن شيئاً لم يكن. واتفقوا على التنمية المتوازنة... وحتى اللحظة أكلت بيروت المدن والمناطق وامتدت حتى باتت مقبرة سكنية، وتحول الريف إلى "الربع الخالي اللبناني" ولا حياة فيه ولا زرع ولا ضرع، وبات لبنان يستورد 80% من سلته الغذائية، وهاجر ونزح معظم سكان البلدات والقرى، التي لم تعد صالحة إلا للجنازات الموسمية ومواسم الانتخابات والتحشيد الطائفي.
 
اتفقوا في الطائف على بناء الدولة، بعد نزع سلاح الميليشيات، وحبر الطائف نص على أن بناء الدولة يبدأ، بعد طمأنة الطوائف على حصصها وعلى نهائية الكيان وعروبته وديموقراطيته ولا دينيته، من خلال تنفيذ وإنجاز إلغاء الطائفية السياسية، تمهيداً لإلغائها كلياً.
 
اتفقوا على إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي. كأن النص لم يكن، أو لم يذكر في مادة دستورية إلزامية. واستعاضوا عن ذلك، بقوانين انتخابية، غب الطلب الطائفي، إلى أن وصلت مواصيل الجنرال ميشال عون، إلى فرض العودة إلى قانون الستين في الدوحة.
 
من يتذكر من اللبنانيين لجنة فؤاد بطرس؟ لا أحد. كأنها لم تكن.
حدث أن اتفق اللبنانيون، على طاولة الحوار، على السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وعلى ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، وعلى تبني المحكمة الدولية وعلى... لكن شيئاً من هذا لم يكن.
منذ الاستقلال، واللبنانيون يتفقون على بيانات وزارية، ويتعاملون معها، كأنها لم تكن. حبر على ورق، وكلام يمحوه كلام.
 
لبنان باق على حاله. الديون إلى ازدهار تصاعدي. الأمن إلى تدهور شعبي (مراجعة أحداث الأسبوع الفائت مفيدة ومقنعة). سرقة السيارات بأسلوب علني واستردادها بالتراضي الإرغامي المطوَّب من قبل أجهزة رسمية، لن تتوقف. الجامعة اللبنانية على حالها، في أحسن الأحوال. تتدهور ولا أحد يسد طريق الهاوية. الزراعة بائرة. الفساد عقيدة مقدسة. العفن الإداري يحظى برعاية فائقة. الأغذية الفاسدة لها رب سياسي يحميها. الأدوية المنتهية صلاحياتها، لها أنبياء كذبة يروجونها. الأملاك البحرية لها من يطوِّبها.
 
ماذا بعد؟ ان كل ما يمت إلى حياة اللبناني، كأنه لم يكن. واللبناني يغض الطرف عن أسيادٍ انتقاهم بمحض طائفيته، وعليه أن يقنع بما صنعته يداهمن إثم سياسي، عندما ركن إلى تعصبه وبرر استزلامه وزحفطونيته بمقولة: "هذا هو لبنان".
 
الحكومة الراهنة جاءت بعد مأزق شهود الزور. سقطت حكومة "الوحدة الوطنية" بالضربة القاضية. أين هو ملف الشهود هؤلاء؟ هل بات كأنه لم يكن؟

السياسة في لبنان، تقوم على القفز فوق المشكلات. وإذا قرر فريق ما التصدي لمشكلة ما، عن جد، كما هو حاصل اليوم في خطة إصلاح الكهرباء، فسيجد نفسه أمام المستحيل اللبناني. فخطة باسيل بحاجة إلى دولة، ودولتنا مؤجلة الحضور من أزمنة. وبحاجة إلى حكومة منسجمة وموحدة، وليس عندنا من هذه البضاعة، إلا ما ينسج من كلام عن "الوفاق" و"الوحدة الوطنية" والتوافق. وخطة باسيل بحاجة إلى إدارة كذلك، والإدارة اللبنانية لم ترق بعد إلى المعايير الأخلاقية التي تظلل المافيات المعترف بها دوليا.
 
لا كهرباء بالأمس البعيد ولا بالأمس القريب ولا بالغد المديد. منذ إقالة الوزير جورج فرام، قرأنا العنوان التالي: "أدفع أكثر، ستعتم أكثر". لا شفاء من كوابيس لبنان. هو هو، لا يتبدل ولا يتغيَّر. وإذا كان لنا أن ننهج مثل القديس توما، فليس علينا سوى الانتظار المختلف عن انتظارات سابقة.
 
إن أبواب التغيير في لبنان مقفلة، بمفاتيح تضعها الشعوب اللبنانية في جيوب زعمائها.
سيتغيَّر العالم مراراً وتكراراً. أما لبنان، فسيواظب على إبقاء يوم الثلاثاء السياسي، مستقلاً عن يوم الاثنين قبله ويوم الأربعاء بعده... إلى يوم القيامة اللبناني!
"السفير"

التعليقات