27/09/2011 - 10:59

خياراتنا القادمة؟../ عوض عبد الفتاح

من المفترض أن تكوّن القضية الفلسطينية قد دخلت منعطفًا جديدًا. فالمفاجأة التي سجلها رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن، من شأنها أن تعدل المناخ والمزاج الشعبي العام، وتضع الناس أمام الواقع بكل مرارته. أو بكلمات أخرى من المفترض أنها تحمل الإمكانية الجدية لإعادة تشكيل مسار الصراع ومفرداته ومضامينه

خياراتنا القادمة؟../ عوض عبد الفتاح
من المفترض أن تكوّن القضية الفلسطينية قد دخلت منعطفًا جديدًا. فالمفاجأة التي سجلها رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن، من شأنها أن تعدل المناخ والمزاج الشعبي العام، وتضع الناس أمام الواقع بكل مرارته. أو بكلمات أخرى من المفترض أنها تحمل الإمكانية الجدية لإعادة تشكيل مسار الصراع ومفرداته ومضامينه.
 
نقول المفاجأة لأن الرّجل تجرأ على التمرّد ضد من رعوه ورضوا عنه لفترة طويلة، وهو الشخصية التي عرف عنه ميله إلى السلمية وتجنب المواجهة الحقيقية. وهذا الإطراء لا يعني أن النقد الموجه له كان في غير محله، بل كان في محله تمامًا. هذا النقد (الشعبي والصادر عن النخب المعارضة) بلا شك ساهم في المراجعة الذاتية والجزئية حتى الآن، والوصول إلى النتيجة المتجسدة بوقف المفاوضات ونقل الملف إلى الأمم المتحدة متحديًا الضغوط والتهديدات الموجهة من الإدارة الأمريكية ورئيسها باراك أوباما الذي ضرب أعظم مثل في الانتهازية السياسية وقلة الأخلاق.
 
 طبعًا هناك أسباب عديدة هامة دفعت بأبي مازن إلى الإقدام على هذه الخطوة والإصرار عليها؛ أهمها وأخطرها الرفض الإسرائيلي لأي نوع من المصالحة التاريخية مع الشعب الفلسطيني ومواصلة النظام الكولونيالي الصهيوني ترسيخ نفسه في الأرض الفلسطينية. وثانيها، الدعم الأمريكي المطلق لموقف حكومة نتنياهو. وإصرار الإدارة على أن تظل المفاوضات محكومة بميزان القوى المختل لصالح إسرائيل.
 
قبل الإقدام على تقديم طلب العضوية لفلسطين في الأمم المتحدة، كان الجدل، وربما لا يزال، يدور حول المخاطر القانونية والسياسية التي قد تنجم عن الخطوة بالنسبة لقضايا تتعلق بمكانة منظمة التحرير وقضية اللاجئين. وهناك من حاجج ضد مجمل الخطوة كلها لأنه لا ثقة له لا بأبي مازن وفريق أوسلو ولا بهذه المنظمة الدولية المسيطر عليها من قبل الدول الاستعمارية ولأنها، أي الخطوة، في رأيه تناقض مطلب الدولة الفلسطينية الواحدة  في كل فلسطين. وهذا نقاش مشروع.
 
غير أننا رأينا، رغم نقدنا المنهجي لنهج المفاوضات الثنائية المحكومة بعلاقات القوى القائمة بمعزل عن النضال الشعبي، أنه إذا ما تم الحفاظ على الثوابت في نصّ الطلب، فإن من شأنها أن تفتح الأبواب مجددًا لمسار جديد بالنسبة للقضية الفلسطينية.
 
لم نكن نحن في التجمع الوطني في التجمع متحالفين يومًا مع السلطة الفلسطينية المقيّدة بشروط أوسلو الكارثي من تنسيق أمني واتفاقيات اقتصادية مهينة، ولكن موقفنا النقدي الجذري لم يكن قيدًا على قدرتنا على رؤية المستجدات وتقييم أهمية هذه الخطوة التي من شأنها أن تمهد لتبديل هذا الواقع المهين.
 
لقد قلنا لأقطاب السلطة منذ زمن بعيد، بأنه ليس فقط لا أمل من هذا النهج، بل إنه يجلب الكوارث يوميًا على شعبنا، الاستيطان، التطهير العرقي في القدس، حصار غزة، تحويل شعبنا إلى متسوّلين وغيرها..
 
أكدنا على موقفنا وهو موقف غالبية أبناء شعبنا أنه فقط عبر اتخاذ قرارات شجاعة والبدء بالعمل على تغييرميزان القوى على الأرض هو الشرط الأساس للخروج من هذا المأزق. وقلنا أيضًا منذ زمن طويل إن هناك حاجة لإعادة ملف القضية إلى الأمم المتحدة.
 
من الواضح تمامًا، أن ظروفًا إقليمية، كالثورة المصرية، لعبت دورًا مهمًا في الدفع باتجاه المضيّ قدمًا في الصمود تحت الضغوط والتهديدات الأمريكية والاسرائيلية وبعض الأنظمة العربية المتخاذلة. ومن الواضح أن أبو مازن اكتشف، وبعد وصوله الى هذا المدى من العمر، 76 عامًا، أن الأفق أصبح مسدودًا تمامًا في السنوات القادمة. فكيف يغادر الدنيا (وكلنا سنغادرها)، وقد زخرت فترة رئاسته للسلطة الفلسطينية بإخفاقات وكوارث حقيقية؛ أخطرها وأكثرها مأساوية الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي الذي يكاد أن يتحول إلى أمر واقع ومسلّم به. فهل ينتظر الانتخابات الاسرائيلية والانتخابات الأمريكية التي من المفترض أن تحصل بعد عامين لتبدأ بعدها المفاوضات مجددًا على دولة تبيّن أن لا إسرائيل ولا أمريكا راغبتين ولا مستعدتين للتجاوب مع الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية.
 
قد يجادل بعضنا، وبالفعل جادلنا بمثابرة، أن هناك طريقا آخر لفتح المواجهة بدون الذهاب إلى الأمم المتحدة، والتي رأى البعض في هذا الخيار (خيار طلب العضوية)، وبحق، هروبًا أو تجنبًا من فتح الموجهة ميدانيًا وإنهاء حالة التطبيع من الاحتلال. ولكن كان هذا المنطق وهو منطق سليم، يصطدم بعقبات جدية، بعضها شخصية تتعلق بأبو مازن الذي شكلت المفاوضات بالنسبة له كبديل عن المقاومة قناعة راسخة، بل بذل من خلال رئيس حكومته سلام فياض وأجهزته الأمنية جهدًا هائلاً لمنع المقاومة بكل أشكالها وعمل على تفكيك خلاياها. كان هو وفريقه ورئيس حكومته خاضعين ومرهونين لمطلب إثبات الأهلية، أهلية إدارة دولة، المفروض من جانب القوى الامبريالية وعلى رأسها الأمريكية، كشرط لمنحه دولة فلسطينية.
والعقبة الأخرى، هو الانقسام الفلسطيني الذي جعل حماس رهينة السلطة والحصار الإجرامي.
 
والمعيق الآخر هو أزمة غياب طرف ثالث والمتمثل في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي اندمجت وإن بصورة متفاوتة بواقع أوسلو وعجزت عن التحول الى قوة معارضة حقيقية لهذا النهج.
 
في هذه الأزمة الشاملة والتي بطبيعة الحال يتحمل المسؤولية عنها مباشرة أو بصورة غير مباشرة من يمسك بدفة القرار وبيده السلطة والمال، جاءت مبادرة رئيس السلطة الفلسطينة الذي عوّل على وعد الرئيس الأمريكي الذي قال في أيلول من العام الماضي أن أيلول 2011 ستتوج فلسطين عضوًا كاملاً في الأمم المتحدة. وهذا التعويل كان نتاج قراءة سياسية خاطئة. لقد باع أوباما وعده وهو وعد فارغ. ولم يكن لدينا ذرة وهم بأن الأمر سيحصل، بل كنا ندرك بأن ذلك لن يحصل وأن الطريق في نهاية المطاف لإقامة الدولة الفلسطينية هو عبر الكفاح السياسي- الشعبي. وربما لو أنتـُهجت النضالات الشعبية العارمة في الضفة والقطاع منذ أشهر طويلة وأخرجت الجماهير كما أخرجت أو خرجت في الواحد والعشرين من هذا الشهر يوم افتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، ربما لكان أطبق على إسرائيل كليًا في الأمم المتحدة.
 
على أية حال، جاءت هذه الخطوة وكذلك الردّ عليها أمريكيًا، لتضع النقاط على الحروف أو على الأقل هذا ما يفترض بصنّاع القرار في رام الله، أن يكونوا قد توصلوا إليه.
 
يُقال إن المظاهرات العارمة التي خرجت أو حُشدت لتأييد خطوة أبو مازن، فاجأته وفاجأت حركة فتح بحجمها، وأنها عززت قراره في المضيّ قدمًا في تقديم الطلب رغم التهديد الأمريكي. هذا يدل على مدى أهمية دور الجماهير، فلماذا تم حجز هذه الناس لفترة طويلة، ولتعيش سنوات من الشعور بفقدان الكرامة، ويصبح الشغل الشاغل لعشرات الآلاف وعائلاتهم الراتب في نهاية الشهر القادم من الدول التي تريد في الأساس ترويض الشعب الفلسطيني ومنعه من المقاومة.
 
رغم محدودية الخطوة، ورغم أنها لم تُغيّر شيئًا على الأرض، فبمجرد التمرد ولو الجزئي على رأس الأفعى، يفتح الباب لتغيير المناخ الشعبي، وتتهيأ الفرص الآن لتغيّر الذهنية، من ذهنية السكون والاستكانة والسلبية إلى ذهنية الفعل والمبادرة والاستعداد للتحرك. فهل هناك من يقتنص الفرصة، ويبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة، هل يُبدأ بمراجعة الفترة السابقة عبر المباشرة بوضع الخيارات البديلة، أو تطوير الاجتهادات العديدة التي قدّمتها العديد من العقول الفلسطينية في الآونة الأخيرة منذ أن بدأت ملامح الأزمة الخانقة تلوح في الأفق، للخروج من المأزق. هل يمكن تحقيق هذا الانتقال بدون المرور بعملية تفكيك البنى الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية، التي يستند إليها هذا النهج، أم أن انهيارها يأتي كنتاج قراءات راديكالية أكثر.
 
ما العمل؟
 
يجب الاتفاق على القناعة أن لا دولة فلسطينية في الأفق، ناهيك عن أن ما يسمى بالعملية السلمية كان يسير باتجاه خلق كيان فلسطيني مشوّه اتفق الجميع بما فيها حزب الليكود على تسميته دولة. ويجب تحقيق التفاهم على أن تغير ميزان القوى على الأرض هو الشرط الأساس لمواجهة العدو بندية على طاولة المفاوضات للتوقيع على شروط استسلامه. ويجب الاتفاق على أن هذا الأمر لا يتم بدون وحدة الشعب الفلسطيني، وتوحيد قيادته، وتبني استراتيجية كفاحية وسياسية وإعلامية سليمة موحدة تسمح لشعب فلسطين بخوض نضال طويل وعسير ومعقد، وبما يمكـّنه من تحمل أعبائه. وفي ضوء الدور المصري، فإنه أصبح مفروغًا منه أن البعد العربي أصبح لاعبًا في معركة العرب المركزية في فلسطين، ويُنتظر أن يجرى تطوير هذا الدور وإن كان ذلك أيضًا مرتبطًا بمسار تطورات الثورات العربية ومدى قدرتها على الإفلات من المؤامرات الجارية لاحتوائها وتوجيهها بعيدًا عن القضية الفلسطينية ومناهضة المشروع الكولونيالي الاسرائيلي.
 
وعودة إلى وحدة الشعب الفلسطيني، فإنه يجب التوقف مطولاً عند هذا العامل الحاسم. فالوحدة ليست وسيلة فقط بل هي هدف أيضًا. وفي هذا السياق لم يعد ممكنًا تجاهل الخيارات السياسية البديلة، أي البديلة عن شعار الدولتين.
 
وإذا كان التشخيص للواقع الراهن وللمعطيات الديمغرافية التي فرضتها إسرائيل في الأرض الفلسطينية يُشير إلى صعوبة بل استحالة دحر الاحتلال الإسرائيلي في الوقت المنظور فإن ذلك يتطلب تأسيس الإستراتيجية الكفاحية على مبدأ النفس الطويل، وعلى الاستعانة بكافة قوى وتجمعات الشعب الفلسطيني، خاصة وأن الميل العام على الساحة الفلسطينية يقول بخيار النضال الشعبي-اللاعنفي.
 
ليس من السهل تجنيد اللاجئين وعرب ال48 إذا كان جميع هؤلاء لا يستفيدون من ثمار هذا النضال. لم يعد سهلاً تمرير المقولة القديمة بأن تحرير الضفة والقطاع سيحرّر بقية الشعب من ذل وبؤس اللجوء من النظام العنصري الإسرائيلي الذي يقوّض المواطنة يوميًا. هم يسمعون هذا الكلام منذ عشرات السنين. غالبية هؤلاء (باستثناء من ربطوا مصيرهم بالدولة العبرية من فلسطينيي الداخل أو الأطر الحزبية العربية-الاسرائيلية) لم يعودوا يؤمنون بهذا الكلام وأنه بدون مخاطبة حقوقهم والتعامل بجدية وبصدق مع هذه الحقوق، سيبقى نضالهم مقتصرًا على التضامن المحدود.
 
إن هذه التطورات تضع الحركة الوطنية الفلسطينية أمام تحدي طرح هذا الخيار وبحثه بكامل الجدية وأن يقدم ليس كإستراتيجية تخويف للدولة العبرية بل كإستراتيجية إغراء للمجتمع الإسرائيلي الذي بدأ مؤخرًا يتململ ويخرج تناقضاته المطموسة تحت نير الأمن والعسكر والعداء لكل ما هو فلسطيني وعربي.
 
 من المفترض أن تدفع هذه الخطوة الجهود الوطنية الفلسطينية في المسار الآخذ في التشكل موضوعيًا (على ساحة الصراع الميدانية)، وذاتيًا (من جانب حركات التضامن العالمية ونخب سياسية ومثقفة فلسطينية) التي تعيد تعريف الكيان الاسرائيلي كمشروع كولونيالي وعنصري (أبارتهايد). أي العودة إلى القاموس السياسي والمفردات التي تصف إسرائيل من الزاوية التاريخية والأخلاقية كمشروع استيطاني عنصري.. بحيث يتم استبدال ودفن المفردات المهينة التي شوّهت وجه وطبيعة الصراع، وأخرت عملية الحشد والتعبئة ضد إسرائيل وعملية عزلها دوليًا وبين الأمم المتحضرة، كمفردات مثل "عملية السلام" وحل عادل لقضية اللاجئين (بدل تحقيق حق العودة)، والتنسيق الأمني وغيرها.
 
ربما حان الوقت لنقل خطاب الدولة الواحدة إلى فعل سياسي وإعادة إنتاج المفردات والقيم والثقافة الوطنية والإنسانية التي تجسد الرغبة في التحرر والانعتاق من الكولونيالية والعنصرية ومن سيطرة كل أشكال الاستبداد والاستغلال.

التعليقات