10/11/2011 - 12:01

في الكتابة../ د. عبد الله البياري

سعيد أنا بنخبوية كتاباتي، التي تحررني من القارئ الكسول والمتثاقف، وأعلن وقوفي أمام عقلية: إركب الموجة، متمردا ورافضا وفضائحيا مقاوما، لثقافة السطح، باحثا عن مفكري العمق

في الكتابة../ د. عبد الله البياري
أقول لنفسي....
 
إذ تتمنطق قلمك لتخط حروفا على ورق، تذكر، أنت تحاور ذاتك، تحاكمها، تدافع عنها، تتهمها، في العلن، تتعالى عن حيزك المادي لتتحد بذاتك المتخيلة والموضوع، في عالم تتحاور فيه مع ذواتك، لا لتستمع إليهم بقدر ما يستمعوا هم إلى بعضهم، فتعيد خلقهم لا لتعايشهم بل ليتعايشوك ويتمردوا عليك.
 
الكتابة هي "حالة حوار"، قد تتجسد شخوصا انتقلوا من حبرية عالم الورق إلى ميتافيزيقيا عالم الإنسان، لتراهم وتسمعهم، يحاورونك.. يرافقونك... يجادلونك.. أتذكر أنني اشتممتهم كثيرا حولي ورأيتهم، وأعلم أنني لا أتوهم.
 
أن تكتب أي أن تتعدد في الأبعاد، أن تتناسخ، فتصبح هنا وهناك، بداية ونهاية، وأن تكون بين بين منفى ووطن. الكتابة هي "مرآوية" ناطقة ومتمردة وثائرة تعري "مايجب" لا فقط "ماهو".
 
أن تكتب في زمن العار والفساد والقسوة والنهار المهزوم بالظلمة، أي ألا تبشر بنصر محتوم، ولافرح مخادع، في زمن تعليب الخدر. أن تكتب في زمن "مآخاة النفط للدم و الدولار" أي أن ترفض وتتمرد، أن ترفض الكتابة الساخرة، وأبجديات الإستسهال الثقافي. أن تكتب في زمن العرايا وتشيؤ الإنسان أي أن توقظ المتلقي العائم في الزوايا الغبارية، أن تكسر الرابط بين "الأغلبية" و"الصمت"، ألا تهاب المفردات السماوية ولا الأرضية. أن تكتب في هذا الزمان العربي الفاحش العورة يعني أن تكون فضائحيا بامتياز.
 
في البلاد، بلادنا المسربلة بمحيطات جهل وغيبية، وفي مدار القارئ الذي يحارب الأمية التعليمية والأمية الثقافية، والإعلام الاستهلاكي وقبلته الكرش والكرسي، لتهب عليه بعدها ضبابات الغيبية والتكفير بتهمة التفكير واللاهوتية الصنمية التي أصبحت زادا يوميا معاشا، يغرقنا ونتساءل "هل من مزيد" حمدا على المكروه.. ولا يحمد على مكروه سواه.
 
في تلك البلاد، بلادنا، ترد تهمة "النخبوية" على أصحابها، فالمناداة باحتكام الخطاب الفكري على قياس المتلقي، إنما هي دعوة إنهزامية لعصر الاستسهال المعرفي المعلب، واستسلاما لسطحية الوعي بمزيد من التسطيح، بحجة التبسيط الفكري على القارئ، ذلك القارئ الذي استسلم لاستلابه اجتماعيا وسياسيا، وقرر أن يطالب الكاتب ما عليه هو من واجب التفكيك والمساءلة والنقد، فهو هاهنا يعمد لسياسة التوصيل العقلي، ألسنا في عصر الوجبات السريعة؟ أليس القارئ دوما على حق باعتبار أنه زبون في عصر العولمة والفكر منتج.. ويحيا الاستهلاك وما أجمل أن يكون استهلاكا استسهاليا.
أليس في توزيع الأضواء على أرفف مكتباتنا ما يعري الكثير من تكاسلنا وتثاقفنا؟
قال لي أبي يوما: الكتاب الذي يفكر بالنيابة عنك، لا حاجة لك لقراءته.
 
إن قراءة كتاب تاركا إياي في حالة من المساءلة، و الدأب لتفكيك الرمز والأسلوب والفكرة والنص والتأويل، إنما هي حالة من الشبق المعرفي الذي يحول القارئ من تلقي الكتاب، للمشاركة فيه، فيغدو محاورا ويتحول الكتاب حوارا، بما في ذلك من نهم معرفي لا ينتهي، وحالة من التحدي والارتقاء بالذات، تتحول حينها الأنشطة المعرفية من مجرد سلعة رفاهية في مجتمع يلهث بحثا عن أقل مستويات المعيشة الكريمة، إلى أساس لا يقل أهمية عن الغذاء والصحة والعمل، وهو ما يفصل بين المجتمع الإنساني – الأرقى و المجتمع الحيواني- الأدنى: الفكر.
 
لذا أعلنها هاهنا: سعيد أنا بنخبوية كتاباتي، التي تحررني من القارئ الكسول والمتثاقف، وأعلن وقوفي أمام عقلية: إركب الموجة، متمردا ورافضا وفضائحيا مقاوما، لثقافة السطح، باحثا عن مفكري العمق.
 
ولا أجد بدا من تذكر مقولة الكواكبي: إن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل سلطة مستبدة (دينية، سياسية، اجتماعية، ثقافية) تسعى جهدها لإطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل، وإن العلماء – الحكماء الذين ينبتون أحيانا من مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس.

التعليقات