29/11/2011 - 13:36

هل يستنهض النقب فلسطينيي الشمال../ عوض عبد الفتاح

الوعي بالخطر ينتشر الآن في أوساط واسعة من جماهيرنا في المثلث والشمال. تتراجع الإقليمية، والجهوية، ولا بد من أن يصل الوعي الى كل عربي فلسطيني – في المثلث والجليل، لأن النقب يكاد يكون خط الدفاع الأخير عن الجميع، عن كل العرب في الداخل، فالحصار المفروض على ترشيحا هو الحصار المفروض على النقب، وكذلك أم الفحم والناصرة والطيرة ويافا واللد وغيرها

هل يستنهض النقب فلسطينيي الشمال../ عوض عبد الفتاح
ماذا يربط بين ترشيحا (في شمال الجليل) والفرعة (في النقب)؟ ما هو القاسم المشترك بين سخنين المحاصرة بمصانع الأسلحة والمستوطنات الصهيونية، وأم الحيران المتروكة في مشهد من الحرمان؟ هل تعلمون أين الفرعة؟ وأين تقع أم الحيران.. أو بير الحمام، أم بطين، أبو تلول وغيرها من القرى الفلسطينية غير المعترف بها في النقب من الدولة العبرية؟ هل يكفي وجود شبكة كهرباء ومياه منظمة في ترشيحا المحاصرة أيضًا لنقول إنها تختلف عن الفرعة المحرومة من هذه الخدمات الأساسية ويربط جميعها خضوعها لمخطط إسرائيلي واحد تختلف تفاصيله.
 
الفرعة قرية غير معترف بها أو هي في مرحلة الاعتراف بعد نضال طويل. تصرخ منذ النكبة الكبرى صرخة الشعب كله، صرخة أم الحيران التي تبعد عنها كيلومترات قليلة الى الشمال، على طريق بئر السبع-عراد والمهددة بالترحيل، وصرخة عشرات القرى التي تنكر إسرائيل وجودها، وتتعرف عليها فقط عبر مداهمتها المتكررة وهدم بيوتها وتشريد أهاليها الذين لا يلبثون أن يعودوا إليها فيفترش بعضهم الأرض إلى حين نصب الخيام مجددًا أو إعادة بناء الخشابيات.
 
 إنه مشوار البقاء الأسطوري المعاكس للأحلام الصهيونية. على بعد كيلومترات قليلة، يتعلم أطفال مستوطنة "عومر" التي تظهر لك كواحة خضراء خلابة إلى جانب قرى عربية قفراء بُـُناها من الصفيح. حين تصعد إلى التلة أو التلال غرب قرية اللقية. أطفال القرى الفلسطينية الأخرى المجاورة، وأطفال "ترابين الصانع" التي تم تهجير الجزء الأكبر من أهاليها قبل سنوات بعد مواجهات عنيفة لإفساح المجال للمستوطن الأبيض القاطن في هذه المستوطنة، ينظرون إلى "جيرانهم" ويتحسرون. فأطفال المستوطنين المجلوبين من شتى بقاع الأرض لا يعرفون ماذا يفعلون بفائض الترف والنعم المغدقة عليهم والمسروقة من أملاك "الترابين" وغيرها. كان استفراد الدولة العبرية بعرب النقب أشدّ وأنكى من استفرادها ببقية فلسطينيي الـ48 في الجليل والمثلث ومدن الساحل. هذا الاستفراد الذي تواصل بعد النكبة بدون توقف.
 
انشغل الشمال بعد النكبة في همومه وفي لملمة جراحه، ولكنه استعان بمبادرات نخب عربية صاعدة سعت إلى إعادة تنظيم الناجين من التطهير العرقي والتحول إلى عنوان لهم، واستند إلى التواصل الجغرافي والسكاني قبل أن يتم تقطيعه بالمشاريع الاستيطانية الزاحفة.
 
لم يحظَ النقب بهذه المقومات. فبعد التطهير والهدم، تم فصل النقب عن الشمال بحيث لا يرى المسافر خلال سفره على طول 150كيلومترا، من جنوب المثلث إلى شمال النقب، أي تجمع عربي. ناهيك عن العدد القليل نسبيًا لمن أتيح لهم البقاء (80% من عرب النقب تمّ طردهم). وبقي عشرة آلاف الذين أصبح عددهم اليوم 209 آلاف. أيضًا، عامل آخر لا يقل أهمية، هو تأخر ظهور نخب متعلمة تقود النضال حتى أواسط السبعينيات.. حين كان زمام "القيادة" لا يزال في أيدي رؤساء القبائل الذين افتقدوا التجربة والمعرفة بوسائل التنظيم الحديث ومجابهة سياسات الحكومات الاسرائيلية.
 
جُلتُ المنطقة في أواخر السبعينيات، أثناء دراستي في بئر السبع، مع مجموعة صغيرة من طلاب الجليل والمثلث، في مهمة تطوعية للتعرف على أهلنا هناك، والتفاعل معهم والمساهمة في نضالهم. كانت تلك حقبة نهوض وصعود المشاعر الوطنية بعد حرب أكتوبر 1973، وانتفاضة يوم الأرض العارمة (التي سقط فيها 6 شهداء ومئات الجرحى) عام 1976. بعد أشهر قليلة، دوت صرخة أهل قرية اللقية، وهي لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلومترت شرق جامعة بئر السبع. استجبنا فورًا للصرخة، سرنا مشيًا على الأقدام، ووجدناهم في مواجهة مع قوات الهدم والتجريف والمحميّة بقوات القمع على مدار يومين مع هذه القوات الغازية. كان الهدف الاستيلاء على قطعة أرض كبيرة مزروعة بالزيتون. كنا معهم، وطالنا الاعتقال والضرب الوحشي مثلهم. سألني محقق الشرطة أثناء الاعتقال عن بطاقة هويتي ولم تكن معي. كاد يفقد أعصابه حين عرف أنني لست بدويًا؛ صرخ ما "دخلك بالبدو".. زاد جنونه عندما رفضت الإجابة على سؤاله عن ديانتي وخاصة عندما أصرّيت على أنني عربي مقابل سؤاله "هل أنت مسيحي أم مسلم؟". عرفت عندها كم كانت سياسة التجزئة والتفريق بين أبناء الشعب الواحد مستحكمة في العقلية الصهيونية.
 
مواجهات عفوية شبيهة بين أهلنا والغزاة كانت تحصل في أماكن أخرى قبل ذلك دون أن يعرف عنها إلا القلائل. وتكررت ولا تزال. كان الجنرال شارون المعروف بوحشيته يقود عملية الغزو تحت عنوان محاربة "العنزة السوداء". أي مصادرة قطعان الماعز بحجة الإضرار بالبيئة، بهدف حرمان القبائل من مقومات العيش وإجبارهم على الرحيل. في هذه الحقبة كسر العديد من السكان تحت ثقل هذه الهجمات، ومنهم من أغري بالمال وبأمور أخرى، وجرى نقل عشائر كاملة إلى مدن اصطناعية تحولت فيما بعد إلى جيتوات أو قرى بدون مصادر رزق ولا مستقبل وهي الآن تواجه طريقًا مسدودًا أمام التطور والتوسّع. وهناك من يقول أن الانفجار الشعبي مسألة وقت.
 
ولكن الجزء الأكبر من عرب النقب، ظلّ متمسكًا بأرضه، غير مستسلم لشظف العيش ولوحشية المعتدين واللصوص يسنده الآن نخبة قيادية جديدة تعلمت أساليب المواجهة الشعبية والقانونية ولكن مطلوب منها أيضًا أن تُجيد التعامل مع التناقضات الداخية وتزيل العقبات أمام الوحدة واستنهاض كل الناس. وتحملت المرأة في النقب القسط الأكبر من عبء الصمود والبقاء. صبر بلا حدود.
 
تطورت أساليب الغزاة، وازداد النهب، وتفنن المعتدون بطرق النهب والسطو. ومشروع برافر الاستيطاني الذي يقدم كحل لمشكلة البدو جاء بهدف إسدال الستار على فصل آخر وربما الأخير من فصول السطو على أراضي النقب. فهو يُبقي لهم 100,000 دونم من أصل ما تبقى لهم حتى الآن – 800,000 دونم).
 
ولكن الغزاة يفاجَأون الآن من صحوة الناس للمشروع الذي يطال جميع أهالي النقب، حتى أهالي تلك القرى المصطنعة، والتي يطلق على بعضها مدنًا. هذا المخطط ولّد  حالة حقيقية من الغضب، وشعورا عارما بالخطر على حاضرهم ومستقبلهم ويُنتظر أن يتحول إلى فعل شعبي شامل يسقط هذا المخطط الاستيطاني. لقد أفاق أهلنا في النقب مؤخرًا، فوجدوا أنهم أمام مشروع جهنمي شامل يهدف إلى تضييق الجيتو الذي وضعوا فيه إلى أقصى حدّ ممّا يعني مصادرة مستقبل أبنائهم الذين لن يجدوا بعد سنوات الأرض التي يبنون عليها، ناهيك عن مئات الأزواج الشابة التي تعيش في ازدحام شديد حاليًا..
 
الوعي بالخطر ينتشر الآن في أوساط واسعة من جماهيرنا في المثلث والشمال. تتراجع الإقليمية، والجهوية، ولا بد من أن يصل الوعي الى كل عربي فلسطيني – في المثلث والجليل، لأن النقب يكاد يكون خط الدفاع الأخير عن الجميع، عن كل العرب في الداخل، فالحصار المفروض على ترشيحا هو الحصار المفروض على النقب، وكذلك أم الفحم والناصرة والطيرة ويافا واللد وغيرها. والإضراب العام الذي أقرته لجنة المتابعة العليا في الحادي عشر من الشهر القادم وهو الخطوة الأولى من نوعها تجاه النقب. ينبغي أن يكون يومًا تاريخيًا، يوصل الصرخة الأولى الشاملة بخصوص النقب، إلى مقر الغزاة وإلى العالم أجمع. وليكون بعد هذا اليوم ما بعده. إنها معركة متجددة ضمن سلسلة المعارك الشعبية التي يخوضها الفلسطينيون في الداخل منذ عقود، والتي تتراجع حينًا وتشتد حينًا آخر ولكنها تسير مع مجرى النهر.

التعليقات