30/11/2011 - 09:57

رؤية في الحراك الشعبي العربي../ علي جرادات

"الحراك الشعبي العربي بذور، منها ما نَبَتَ، واعتلت سيقانه، لكن لديه مجال للاستطالة أكثر، ومنها ما شق التربة، لكنه ما زال عشباً، ومنها ما زال بذوراً تمور تحت التراب، وذلك تبعاً للخصوصيات، الناجمة عن تفاوت نضج التربة وكثافة المطر"

رؤية في الحراك الشعبي العربي../  علي جرادات
 بمجرد انفجاره، بدءا بتونس، فمصر، وما تلاهما، ناهيك عمن ينتظر، حقق الحراك الشعبي العربي إنجازاً كبيراً، تمثل في تمكُّنِ الإرادة الشعبية العربية من كسر حاجز الخوف من الأنظمة الرسمية، وتمريغ أنف هيبتها، وتحدي سطوتها، بكل ما تملكه من عوامل قوة، عسكرية وأمنية ومالية، خنقت الإرادة الشعبية، وزيفتها، وتحكمت بها، وأثقلت كاهلها، بكل أشكال السيطرة والقهر والإكراه، لعقود.
 
   بهذا الانفجار الشعبي انطلقت صيرورة تغيير وطني وديمقراطي عربي تاريخي، اتخذت من شعار: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ناظماً سياسياً عاماً لمسيرتها، غير أنه كان واضحاً منذ البداية أن هذه الصيرورة تتسم بـ:
 
أولاً: أن مسيرتها طويلة ومتعرجة ومعقدة وشائكة، ليس فقط بسبب ما كان محتوماً أن تواجهه من ثورة مضادة، داخلياً وخارجياً، بحسبان أن كل ثورة تنطوي، (بالضرورة)، على إنتاج ثورة مضادة، بل أيضاً بسبب الطابع العفوي لانطلاق هذه الصيرورة، أي بسبب غياب الخطة والقيادة، الناجم عن عدم امتلاك المعارضات السياسية ذات المشارب الفكرية المتنوعة، التي لحقت، (بعد تردد)، بركب هذه الصيرورة، لبرنامج وطني وديمقراطي متوافق عليه، يكون بديلاً لبرامج الأنظمة الآيلة للسقوط، التي تم التوافق على إسقاطها.
 
ثانياً: أن للحالات القُطْرية المختلفة لهذه الصيرورة، على ما بينها من عام يجمعها، خصوصيات، فرضت نفسها، وتجلت في تفاوت الحفاظ على الطابع الشعبي والسلمي لمسيرة هذه الصيرورة، وفي تفاوت نضج الخطاب الفكري والسياسي المُغذِّي لها، وفي تفاوت مستوى الربط بين ما هو سياسي واجتماعي من مهامها الديمقراطية، وفي تفاوت مستوى الربط بين الوطني والديمقراطي من المهام، وهذا ما ظهر جلياً في تورط بعض هذه المعارضات في خطيئة الاستعانة بدول حلف الناتو، بقيادة الولايات المتحدة، التي تعمل، عبر وكلائها، عربيا وإقليميا، على حرف مسيرة هذه الصيرورة، بهدف إجهاضها وخطف نتائجها، بل، والعمل على تحويلها إلى ديناميكية فتاكة من الفتن السياسية الداخلية، طائفياً ومذهبياً وقومياً واثنيا وجهوياً.
 
   بهذا، وعليه، يمكن تأكيد صوابية تشخيص من قال: "الحراك الشعبي العربي بذور، منها ما نَبَتَ، واعتلت سيقانه، لكن لديه مجال للاستطالة أكثر، ومنها ما شق التربة، لكنه ما زال عشباً، ومنها ما زال بذوراً تمور تحت التراب، وذلك تبعاً للخصوصيات، الناجمة عن تفاوت نضج التربة وكثافة المطر".
 
ولكن في الحالات جميعا، بات واضحاً أن مصير النظام السياسي الرسمي العربي القائم، رغم التمايز النسبي بين مكوناته القُطرية، (تربة ومطراً)، قد دخل مرحلة انتقالية من الصراع المعقد والشائك، يخطئ كل من يتوقع انتهاءً سريعاً لجذوته، خاصة بعد أن دخلت على خطه قوى دولية ذات ماضٍ استعماري، تسعى باستماتة لاحتواء الحراك الشعبي وخطف نتائجه، وفي أقله الحيلولة دون تمخضه عن أنظمة سياسية تمثل إرادة الشعوب العربية، وتؤهلها، وإن بتدرج، للتخلص من علاقة الاستبداد الداخلي من جهة، وللإفلات من علاقة التبعية السياسية والنهب الاقتصادي الخارجية من جهة أخرى، على ما بين العلاقتين من ترابط، يعكس الترابط الموضوعي بين انجاز التحول الديمقراطي وتعزيز السيادة والاستقلال الوطنيين، ناهيك عن ما بين هذا وذاك من تداخل مع القضايا القومية، وأولها القضية الفلسطينية، جوهر الصراع العربي مع إسرائيل، المتصادمة على طول الخط مع أية تحولات وطنية وديمقراطية عربية، من شأنها أن تحرك من جديد المخزون التاريخي والذاكرة الجمعية العربية تجاه الغزوة الصهيونية، وموقف الشعوب العربية منها.
 
   إزاء هذه اللوحة المعقدة من التناقضات التي حرَّكها الحراك الشعبي العربي، فإن من التبسيط،، توقُّعُ حسم نتائجه النهائية لمصلحة الشعوب المنتفضة، فقط بمجرد تمكنها من إطاحة النظام القائم، في هذا القُطر العربي أو ذاك، ومن دون توافر شرط قدرة المعارضات التي التحقت بركب هذا الحراك، على تجسير ما بينها من خلاف واختلاف، بما يمكنها من التوافق على صياغة نظام سياسي بديل، يجيب على المسألة الديمقراطية، بمستوييها السياسي والاجتماعي من جهة، وعلى المسألة الوطنية من جهة أخرى، ما يفرض على هذه المعارضات سؤال: ما هو السبيل الأنجع إلى تحقيق هذا التجسير التوافقي، وفي صلبه التوافق بين قوى الإسلام السياسي وبقية ألوان الطيف الفكري والسياسي العربي، كمهمة يتعذر، حتى لا نقول يستحيل، تحقيقها، من دون تخلص الجميع من عقلية الوصي، ومن دون القبول بالآخر، في الممارسة قبل القول، بما يجتث عقلية الإقصاء وممارساتها، لمصلحة تسييد التنافس الديمقراطي البرنامجي، من خلال الاحتكام لإرادة الشعب، والتداول السلمي للسلطة، عبر ما تفرزه صناديق الاقتراع، فيما يبقى الحديث عن كل هذا حبراً على ورق، إن لم تجرِ صياغته في عقد اجتماعي، (دستور)، راسخ، غير قابل للتجاوز، تبعاً لتبدلات السلطة التنفيذية وأهواء القائمين عليها. هذا هو السؤال، (التحدي)، الأساس المطروح في هذه المرحلة الانتقالية على المعارضات العربية، التي ينتصب أمامها طريقتان، (منهجان)، لمعالجته، فإما أن تعالجه بطريقة، (منهج)، "المستبد العادل" كما فكَّر هوبز يوماً في الإجابة عن سؤال ما شهدته أوروبا من تهاوٍ لأنظمة الحكم الإقطاعي المطلق، وإما أن تعالجه بطريقة، (منهج)، "العقد الاجتماعي"، كما فكَّر جان جاك روسو في الإجابة عن ذات السؤال.
 
 هنا تجدر الإشارة إلى الفرق بين طريقة، (منهج)، أحزاب المعارضة التونسية، وطريقة، (منهج)، أحزاب المعارضة المصرية، في التصدي لهذا السؤال، التحدي، الذي على منهج معالجته، تتحدد ملامح النظام السياسي لمرحلة ما بعد الثورة.
 
   لقد فشلت أحزاب المعارضة المصرية في توحيد رؤيتها، بسبب ما وقع بينها من خلاف حول أيهما أولاً، إجراء الانتخابات أم صياغة الدستور، ما قاد إلى تمكين "المجلس العسكري"، بوصفه رئيساً للسلطة الانتقالية، من فرضِ لجنة نخبوية، أنيط بها إجراء تعديلات على دستور عام 1971، كان أقر بضرورتها مبارك قبل تنحيه، ما عكس ميلاً نحو الاكتفاء برتق خروقات النظام السابق بإعلان دستوري موجَّه، وعدم الارتقاء إلى مستوى إعادة الهيكلة للنظام المتهاوي، وللدستور الذي حكم وفقاً له. وكان ذا دلالة، تبني بعض أجنحة المعارضة، عدا المجلس العسكري، لهذا الميل، بما يخالف إرادة تظاهرات مليونية دعت إلى عدم التوقف في منتصف الطريق. وفي هذا ما يؤكد صحة قول مَن قال: "ما كان ينبغي ترك الميدان بعد تنحي رأس النظام"، وما يفسر عودة مَن أطلق شرارة هذا الحدث التاريخي المصري، (الشباب)، إلى الميادين مجدداً، وما يشير إلى السبب الحقيقي الكامن خلف الخلافات الدائرة حول وثيقة "المبادئ الدستورية الحاكمة"، التي جاءت بمثابة استدراك متأخر، لخطيئة تقديم الانتخابات على صياغة دستور جديد، كان مطلوباً التوافق الوطني على مبادئه العامة، بما يضمن تسهيل الطريق أمام ولادة نظام ديمقراطي مدني جديد راسخ، ومن دون الحاجة إلى إطالة المرحلة الانتقالية، والمرور في محطات أخرى من الكر والفر، تطال بمخاطرها استقرار مصر كدولة ودور، وليس كنظام فقط.  
   
   بالمقابل جاءت أحزاب المعارضة التونسية بحل إبداعي لخلافاتها، وفرضت على السلطة الانتقالية، التي جاءت بعد إطاحة رأس النظام، إجراء انتخابات تأتي بأهل الحل والربط، من خلال اختيار الشعب لمجلس وطني تأسيسي، تناط به مهمة صياغة دستور جديد، وتشكيل حكومة مؤقتة تعد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، ما يعني تفويض الشعب من خلال الانتخابات باختيار مَن سيضع عقداً اجتماعيا للجمهورية التونسية الثانية، ما عكس جدية أحزاب المعارضة التونسية تجاه تغيير النظام السابق من جهة، وأتاح لها خَلْق حالة من الرسوخ والاستقرار للنظام السياسي الجديد من جهة أخرى.

التعليقات