27/01/2012 - 07:36

دموع التماسيح/ عصام زكي عراف

أما عن مدى حرص السلطة في إسرائيل على سلامة المسيحيين فيها نجده في بعض الأمثلة التالية: في شهر نيسان 1982 كان المسيحيين في كفرياسيف ضحية اعتداء خلف القتل والحريق وإتلاف الممتلكات من سيارات وغير ذلك وقد عاينت ذلك بنفسي. في شهر شباط من سنة 2005 تعرض المسيحيين في قرية المغار لاعتداء أصاب العديد من بيوتهم ومتاجرهم. في حزيران من سنة 2009 تعرض المسيحيين في مدينة شفاعمرو للاعتداء أيضا. ماذا فعلت تلك السلطة التي "تهيم" بحب المسيحيين؟ ألم تصادر أراضي المسيحيين مثل ما صودرت أراضي إخوانهم من المسلمين من الفلسطيين؟

دموع التماسيح/ عصام زكي عراف

  في السابع عشر من كانون أول المنصرم كتب الدكتور المدعو چاي بِخور (גיא בכור) مقالا في الموقع المذكور أدناه، وبه يلفت نظر القراء أنه منذ خمس سنوات ومع حلول عيد الميلاد ينشر شيئا عن المسيحيين في الشرق. 
Gplanet.co.il  
 http://www.gplanet.co.il/prodetailsamewin.asp?pro_id=648

عنوان المقال: "شجرة الزيتون الباكية وإجلاء المسيحيين من الشرق"، وقد استهله بالكلمات التالية:
"مرة أخرى يحل عيد الميلاد وهو يحمل معه الحزن للمسيحيين في الشرق، الذين يشاهدون أن أحوالهم تزداد سوءاً، كما هو الحال في السنوات الأخيرة. لم يبق وجود آمن للمسيحيين في الشرق سوى في دولة إسرائيل، فهم مهددون بالقتل والتشريد أو أنهم مُقَيَّدون كما هو الأمر في سوريا، "شجر الزيتون يبكي وتناديه الشفاه" كما تنوح فيروز (يقصد الكاتب صلوات جمعة الآلام بصوت المطربة اللبنانية المعروفة فيروز. ع. ع.)".
ولكي يزيد قرائه إيضاحا، يُضَمِّنُ الكاتب مقاله تراتيل المطربة فيروز مرتين، واحدة يرافق فيها الصوت مشاهد من سير المسيح في درب الآلام والأخرى تظهر فيها فيروز ترتل وهي ساجدة في الكنيسة. ويتضمن المقال أيضا كلمات التراتيل باللغة العربية مع ترجمة عبرية، يزعم الكاتب، أنه أول من ترجم إلى العبرية كلمات أنشدتها فيروز.  ولا يفوت الكاتب قبل ذلك أن يخبرنا أنه شغوف بالألحان الدينية المسيحية خاصة تلك الألحان الجنائزية لباخ وبتهوڤن وغيرهم.
 
ويضيف الكاتب، أن المصلوب الذي تتلو فيروز تلك الألحان الحزينه من أجله، هو في نظره ذلك الجيل من الشباب المسيحي في لبنان الذي عانى الكثير من ويلات الحروب التي دارت رحاها في بلاده.
 
يشير الكاتب أيضا إلى ما يعانيه المسيحيون في العراق من تدمير للكنائس ونهب وسلب وإكراه على دفع الجزية، ومن مظالم أخرى تدفعهم للهجرة أو اللجوء إلى المناطق الكردية طلبا للأمان، ولا يفوت الكاتب أن يندب حظ المسيحيين في مصر وغزة أيضا.
 
هناك وجهان للجهل، أو التضليل والنفاق إن شئت، في هذا المقال، والحكم هنا منوط بما يعرفه الكاتب من حقائق دينية وتاريخية في هذه القضية، تتعلق بمعاناة المسيحيين في الشرق خلال القرون المختلفة، خاصة في القرن العشرين:
الوجه الواحد، هو أن اليهودي المؤمن لا يرى في المسيح سوى دجال آبق زعم زورا وبهتانا أنه المخلص الذي ذكره الأنبياء في العهد القديم (خاصة أشعياء)، وذلك بعد هزيمة اليهود أمام نبوخذ نصَّر الذي قضى على ملكهم وهدم هيكلهم (في التاسع من شهر آب العبري) وساق العديد منهم سبايا إلى بابل وذلك سنة 586 قبل الميلاد.  لذلك أطلق اليهود على يسوع إسما مكونا من ثلاثة أحرف عبرية هو (ישו)  المأخوذة من الأحرف التي تبدأ بها كلمات الجملة ימח שמו וזכרו ومعناها، فليمحى اسمه وذِكرُه.  الملفت للنظر أن الكاتب يستعمل هذا الإسم للدلالة على يسوع المسيح في سياق التعاطف الشديد مع أتباعه وهذا شيء في غاية العجب! مع العلم أن الكاتب لم يذكر لنا أنه اعتنق المسيحية، ولا يُعذَر، إلا إذا كان قد اعتنقها سرا.
 
أما الوجه الآخر فهو الحقائق التاريخية التي يجب على الكاتب المتمشرق ألا يجهلها، وهو الذي يزعم في كل مناسبة وغير مناسبة أنه من أكثر المحيطين علما بشؤون العرب والمسلمين، ولا يخفي شدة احتقاره للمسلمين واستخفافه بهم.
 
والأمر كذلك، رأيت من واجبي أن ألفت نظر الكاتب الخبير، والمتمشرق الخطير، إلى بعض الحقائق التاريخية التي تدين الحركة الصهيونية ورعاتها في الغرب بأنهم كانوا ولا يزالون وراء مشروع إجلاء المسيحيين من الشرق كجزء من خطتهم للحؤول دون نهضة عربية قومية علمانية ينضم تحت لوائها جميع الناطقين بالضاد من المحيط إلى الخليج.
 
- كاريكاتير ناجي العلي -
 
كان العرب المسيحيون أول من رفع راية القومية العربية في العصر الحديث، وكانوا أول من حذر من نوايا الحركة الصهيونية بالاستيلاء على فلسطين بمساعدة بريطانيا، غير أن الإحاطة بالجهود التي بذلها رواد القومية العربية من العرب المسيحيين تحتاج إلى مجلدات عدة ولذلك سأكتفي بذكر ما قَلَّ ودَلَّ فقط. 
 
كان نجيب عازوري وأصله من قرية عازور قرب جزين في جنوب لبنان، كان أول من صاغ فكرة القومية العربية في كتابه الذي نشره سنة 1905 باللغة الفرنسية وعنوانه: "Le réveil de la nation arabe"
أي "يقظة الأمة العربية" وقد ترجم الكتاب إلى العربية، (في حوزتي نسخة منه نشرت سنة 1998) وقد تنبأ بصراع مرير بين الصهيونية والعرب. 
 
أصدر نجيب نصار سنة 1908 ، إبّان الحكم العثماني، صحيفة "الكرمل" في حيفا وكان همه الوحيد تحذير العرب من الخطط الصهيونية للاستيلاء على فلسطين، وأصله من عين عنوب في لبنان.
في سنة 1909 أصدر عيسى العيسى وابن عمه يوسف العيسى صحيفة "فلسطين" في يافا بلدهما (انتقلت إلى القرس في ما بعد)، وكان جل هم الصحيفة الدعوة إلى الوحدة الوطنية للحؤول دون ضياع فلسطين.
 
سيم الكاهن جبرائيل حجار مطرانا باسم غريغوريوس حجار ليكون راعيا لأبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل الروم الكاثوليك، وهو من بلدة روم في جنوب لبنان ومن رهبان دير المخلص قرب صيدا وكان ذلك سنة 1900 ولم يتجاوز من العمر الخامسة والعشرين آن ذاك، وقد كان شعلة متقدة من الغيرة الوطينة والنشاط، ومن ذلك:
بناء عشرات المدارس لتوفير التعليم لجميع أبناء الفلسطينيين دون استثناء، وقد سافر سنة 1932 إلى لندن لإقناع وزير المستعمرات بتأسيس مصرف يقدم القروض بفائدة يسيرة للفلاحين لكي لا يضطر المعسر منهم لبيع أرضه، وذلك بعد أن خاب أمله من المندوب السامي بتأسيس المصرف.
 
حيث أن الحركة الصهيونية كانت وما زالت تولي اهماما كبيرا للاطلاع على كل كبيرة وصغيرة من شؤون العرب في كل الأوطان العربية وفي فلسطين خاصة فقد كان قادتها مطلعون على الدور الريادي للعرب المسيحيين في النهضة العربية القومية التي ستقف حائلا دون تحقيق الحلم الصهيوني، ولذلك وضع قادة الصهيونية نصب أعينهم زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين كواحد من أهم الأهداف التي تسهل لهم السيطرة على الشرق.
 
عندما زار رئيس الحركة الصهيونية، حاييم وايزمان فلسطين سنة 1920 قام بلقاء العديد من القيادات الفلسطينية، ومن ضمنهم مشايخ العشائر في سهل بيسان.
في أعقاب اللقاءات التي قام بها، أوعز وايزمان إلى “لجنة الممثلين”، وهي الهيئة الإدارية للحركة الصهيونية في فلسطين لإعداد خطة عمل مفصلة للتغلغل بين عرب فلسطين.  قام "مكتب المعلومات" التابع للجنة التنظيم والمـُوكَّل بالإشراف على النشاط الاستخباراتي والسياسي بين المواطنين العرب، بإعداد خطة عمل، ثم أرسـِلت الخطة إلى مقر الحركة الصهيونية في لندن لتوفير المال اللازم لتنفيذها.  تضمنت الخطة القيام بالخطوات التالية: 
  -1 متابعة الاتفاق مع حيدر طوقان، رئيس بلدية نابلس في نهاية العهد العثماني وممثل المدينة في مجلس المبعوثان منذ سنة 1912، وقد تعهد بكتابة براءات (عرائض) مؤيدة للحركة الصهيونية يُوَقـِّعها سكان منطقة نابلس، كما تعهد بإقامة ناد ثقافي – سياسي في نابلس لكسب التأييد للحركة الصهيونية.
 
-2 إقامة تحالف مع المشايخ أصحاب النفوذ في شرق الأردن، على اعتبار أن من السهل إقناعهم بمعارضة القيادة القومية من سكان المدن.
 
-3 عقد تحالف مع مشايخ العشائر البدوية في جنوب البلاد لعزلهم عن الحركة القومية التي بدأت تقيم علاقات معهم. 
 
-4 شراء الصحف المعادية للصهيونية، لإخماد وكبت صوت المعارضين، لمنع انتشار الخطاب القومي العربي بين الفلسطينيين، وضمان نشر مقالات مؤيدة للصهيونية في الوقت ذاته.
 
-5 إقامة ورعاية علاقات ودية مع العرب وإنشاء نواد للعمل المشترك.
 
-6 نشر العداوة بين المسيحيين والمسلمين.2هذه الوثيقة التي أعدتها قيادة الحركة الصهيونية سنة 1920، كانت المصباح الذي سارت على هديه الحركة الصهيونية وإسرائيل فيما بعد، أي، خلال العقود التسعة الأخيرة في علاقاتها مع العرب وتعتمد هذه السياسة على ثلاثة أركان:
-7 العمل على إزاحة القيادة الوطنية بواسطة دعم المعارضة القائمة.
 
-8 عزل البدو عن باقي السكان وإفساد العلاقة بين المسيحيين والمسلمين والدروز.
 
-9 إقامة شبكة دعاية من الصحف وخبراء الدعاية تـُظهر المكاسب التي سيجنيها الفلسطينيون إذا هم كفوا عن معارضة الصهيونية. 
 
هذه الخطوط العريضة للسياسة الصهيونية وضـِعت عندما كان عدد السكان اليهود لايزال أكثر بقليل من عـُشر سكان البلاد.
 
استأجرت الحركة الصهيونية العديد من الأقلام وسخرتها لزرع الشكوك والفتنة بين أبناء الوطن الواحد.
 
كان محمد طويل من أكثر الأقلام المأجورة كتابة في خدمة المشروع الصهيوني.  امتهن الكتابة للناس أمام المحاكم في شمال فلسطين، ثم شارك في إقامة أحزاب الفلاحين بمبادرة الحركة الصهيونية وقدم شهادة ضد الحاج أمين الحسيني أمام لجنة شاو، التي أرسلتها بريطانيا لاستجلاء حقائق الأمور في فلسطين بعد المواجهات بين العرب واليهود سنة 1929.  وقد سخـَّر قلمه لكتابة مقالات عديدة تنسجم مع الدعاية الصهيونية.  لم يتورع عن مهاجمة المسيحيين والتحالف الغير طبيعي، حسب رأيه، الذي قامت به الحركة القومية بين المسلمين والمسيحيين.  زعم طويل، أن المسلمين أقرب إلى اليهود منهم إلى المسيحيين، وأن اشتراك المسيحيين في الحركة القومية ينبع من مصالح شخصية ضيقة.
من الجدير بالذكر أن محمد طويل أصبح فقيرا معدما بعد أن استغنت الحركة الصهيونية عن قلمه، فكتب إلى يتسحاك بن تسڤي يستعطفه ويتوسل إليه أن يبعث إليه بأربع جنيهات لينفق على أسرته خلال شهر رمضان ولم يحصد سوى الخيبة.
 
مثال آخر على سعي الحركة الصهيونية لتحريض المسلمين على المسيحيين في فلسطين والشرق نجده في نص الرسالة التي بعث بها كلڤريسكي إلى الإدارة الصهيونية، وقد اتبعت الحركة الصهيونية الخطة التي رسمها كلڤريسكي ويقول فيها:
“إذا استطعنا أن نثبت زَعْمَنا بالأفعال، بأن إقامة وطن قومي لليهودي سيعود بالخير على السكان غير اليهود.  سنجد أن معظم ملاكي الأرض من المسلمين (الأفندية) والكثير من قادتهم سوف يعارضون العداء واستعمال العنف وينسحبون من الجمعيات الإسلامية – المسيحية.  لن يكون من الصعب ضرب التحالف الإسلامي – المسيحي والقضاء عليه.  لكن ذلك يجب أن لا يتم علنا لأن العمل ضده علنا سوف يزيد من التقارب بين الطرفين.  الطريقة الوحيدة هي بالتودد إلى الأعضاء المسلمين، كل واحد منهم على انفراد واستمالته بتوفير بعض المكاسب المادية التي ستوفرها له إقامة الوطن القومي لليهود.  بعد أن نستميل كبار الملاكين والقادة سينضم إلى جانبنا معظم سكان فلسطين أيضا، الذين سيظلون يتبعون في المستقبل هؤلاء الزعماء كما كانوا يفعلون في الماضي”.
 
هذا ما كان قبل قيام دولة إسرائيل، أما بعد قيامها فالحال لم يختلف قيد أنملة: طلب الجيش الإسرائيلي في شهر تشرين ثاني سنة 1948 من سكان قريتي إقرث وكفر برعم، وجميعهم من المسيحيين، إخلاء بيوتهم لمدة أسبوعين لأسباب "أمنية"، ثم حظر عليهم العودة إلى بيوتهم وأرضهم وشردهم في وطنهم، وعندما لجأ أهالي القريتين إلى محكمة العدل العليا في شهر تموز عام 1950 يلتمسون إصدار قرار يعيدهم إلى قراهم، قررت المحكمة النظر في قضيتهم في شهر شباط لسنة 1951 فكان أن قرر الجيش الإسرائيلي أن يقدم هدية خاصة في عيد ميلاد تلك السنة فنسف بيوت القريتين في عيد الميلاد، أي قبل شهرين من نظر المحكمة في القضية.  ورغم أن المحكمة أصدرت قرارا بإعادة السكان إلى قراهم، فإن الحكومات المتعاقبة في إسرائيل رفضت تنفيذه بذرائع مختلفة.
 
أما عن مدى حرص السلطة في إسرائيل على سلامة المسيحيين فيها نجده في بعض الأمثلة التالية: في شهر نيسان 1982 كان المسيحيين في كفرياسيف ضحية اعتداء خلف القتل والحريق وإتلاف الممتلكات من سيارات وغير ذلك وقد عاينت ذلك بنفسي.  في شهر شباط من سنة 2005 تعرض المسيحيين في قرية المغار لاعتداء أصاب العديد من بيوتهم ومتاجرهم.  في حزيران من سنة 2009 تعرض المسيحيين في مدينة شفاعمرو للاعتداء أيضا.  ماذا فعلت تلك السلطة التي "تهيم" بحب المسيحيين؟   ألم تصادر أراضي المسيحيين مثل ما صودرت أراضي إخوانهم من المسلمين من الفلسطيين؟
 
لست أدري ما هي الغاية من كتابات الدكتور بخور وهو يعلم أن الغالبية الساحقة من قرائه هم من اليهود، لكنها لا تعدو تضليل القارئ وتحريف التاريخ.  ولعله يريد أن يقول للقارئ اليهودي:
"نحن واحة الرقي والإنسانية والحضارة في بحر من التخلف والهمجية والتعصب الديني، فارفع رأسك عاليا يا أخي وتغاضى عما نقوم به من مظالم وجرائم لأن هؤلاءالقوم لا يفهمون سوى لغة العصا".  أو لعله يريد أن يقول لقرائه، إن العرب ما كانوا يوما سوى قبائل وطوائف متفرقة وليسوا شعبا واحدا كما يزعمون.
 
إن كراهية الدكتور للمسلمين فيها الكثير من نكران الجميل، حيث أن اليهود عاشوا في بلاد العرب والمسلمين في أمن وسلام وساهموا في إثراء الحضارة العربية، والدلائل على ذلك لا حصر لها.
 
في الختام، أقول للدكتور بخور: إذا كان حب المسيحيين قد مس شغاف قلبك واستحوذ على عواطفك، كان حري بك أن تردف القول بالفعل وأن ترفع صوتك عاليا لرفع الظلم عن أهالي إقرث وكفر برعم، أو تدعو لاعتصام أمام مقر الحكومة لعلها تنفذ قرار محكمة العدل العليا بعد ستة عقود من صدوره.                                        

التعليقات