03/02/2012 - 19:30

بداية النهاية؟/ عوض عبد الفتاح

في نهاية المطاف، وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، انتقل المزاج السياسي والثقافة السياسية عند فلسطينيي الداخل من حالة الانتظار، إلى حالة من التدقيق في الواقع السياسي الاجتماعي المتشكل، والعمل على اجتراح معادلة سياسية-كفاحية جديدة. وقد تخللت مرحلة الانتظار (مرحلة البقاء) ممارسات انتهازية فردية تمثلت في التصويت لأحزاب صهيونية أو لأحزاب عربية –يهودية صهيونية، أو النأي بالذات عن دخول المعترك السياسي، أو النأي عن اللعبة السياسية عبر تشكيل حركات وطنية راديكالية تنكر الواقع، ولكنها تخوض مواجهة أيدلوجية مع الكيان السياسي الجديد الذي قام على أنقاض شعب بأكمله.

بداية النهاية؟/ عوض عبد الفتاح

 

هل يدفع النظام السرائيلي، أو الصهيوني، عرب الداخل إلى مفترق طرق آخر غير ذلك الذي وجدوا أنفسهم فيه عام 2000 ولم يكتمل؟ هل هم باتوا على أعتاب بداية النهاية؟ نهاية لعبة سياسية وجدوا أنفسهم مضطرين إلى ممارستها وإلى بلعهم التناقضات الأليمة الكامنة فيها، بدأت غالبًا من غريزة البقاء، أي النجاة من مصير مشابه لإخوانهم الذين لم يعودوا حتى الآن، ثم حولتها دينامية الحياة تحت الحكم الاسرائيلي إلى لعبة لها قواعد مقبولة عند الغالبية الساحقة من عرب الداخل، بعد أن تناولتها النخب بالتبرير والتنظير ومنحها الشرعية؟ يجب القول صراحة أن ذلك كان اضطرارًا. لكن هناك من بالغ في الواقعية إلى حدّ الابتذال. فكان هناك من هرول منذ اليوم الأول، لإضفاء الشرعية التاريخية والأخلاقية على الكيان الجديد بدافع الواقعية، وبخلطة غريبة عجيبة بين الأممية الماركسية والقومية الصهيونية.
 
في نهاية المطاف، وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، انتقل المزاج السياسي والثقافة السياسية عند فلسطينيي الداخل من حالة الانتظار، إلى حالة من التدقيق في الواقع السياسي الاجتماعي المتشكل، والعمل على اجتراح معادلة سياسية-كفاحية جديدة. وقد تخللت مرحلة الانتظار (مرحلة البقاء) ممارسات انتهازية فردية تمثلت في التصويت لأحزاب صهيونية أو لأحزاب عربية –يهودية صهيونية، أو النأي بالذات عن دخول المعترك السياسي، أو النأي عن اللعبة السياسية عبر تشكيل حركات وطنية راديكالية تنكر الواقع، ولكنها تخوض مواجهة أيدلوجية مع الكيان السياسي الجديد الذي قام على أنقاض شعب بأكمله.
 
يُطلق على جميع هذه الخيارات الاختيارية، أو القسرية، تجربة عرب الداخل الفريدة. والكثير منا، والكثير في الوطن العربي، يطلقون عليها تجربة الصمود والبقاء، لدرجة أن بعض الجاهلين في تفاصيل اللعبة السياسية الاسرائيلية تنطلي عليهم حركات استعراضية أو تهريجية يقوم بها عضو كنيست عربي مُعيّن يحظى بقبول وشرعية تامة لدى التيار السائد في الإعلام الاسرائيلي.
 
يجب القول بوضوح إن غالبية القوى السياسية إن لم يكن جميعها، قبلوا التعامل مع المواطنة بجدية ابتداء من أواسط السبعينيات، وهذا التحول تُوّج بدخول التيار القومي الذي أعاد بناء ذاته أواسط التسعينيات من القرن الماضي على أسس حديثة، إلى الكنيست، وبدخول تيار من الإسلام السياسي أيضًا إلى هذا المعترك الذي كان محرمًا في السابق. هذا الأمر انطوى على اعتراف بالواقع وتعقيداته، وأيضًا على اعتراف بضرورة تحقيق حل وسط مع المجتمع اليهودي الاسرائيلي من خلال دولة المواطنين، والمواطنة الكاملة. كان الدافع الرئيس وراء ذلك كله هو تطوير الوجود العربي الفلسطيني وحمايته من مخاطر تبديد الهوية الجمعية في الواقع الجديد.
 
وقد كان ظهور التجمع الوطني الديمقراطي على ساحة العمل السياسي بحلته الجديدة تحولاً نوعيًا في الحراك السياسي والثقافي والفكري، ولم تصل الصدمة للمؤسسة الإسرائيلية إلا بعد ثلاث سنوات. فالأفكار التي كانت تتبلور قبل ذلك بخصوص إيجاد فكر سياسي جديد، وجدت تعبيرها التنظيمي بحركة وطنية فلسطينية ديمقراطية واسعة، مما حدا برئيس الشاباك السابق (المخابرات الداخلية) عامي أيالون، إلى القول في كتابه، "إن التجمع وعزمي بشارة تجاوزا الخط الأحمر، لأنهما لا يعترفان بإسرائيل كدولة يهودية ولا بدّ من تقديمهما للمحاكمة"، بل قال: "لقد حوّل عزمي بشارة الأفكار التي كانت تتداول بين أوساط ضيقة إلى مركز الخارطة العربية في الداخل، بل أصبحت مُهيمنة على الخطاب السياسي الجديد". كان ولا زال جلّ الفكر السياسي الجديد هو تحدي الدولة العبرية بالمبدأ الديمقراطي الكامل، وقبول الحل الوسط مع عرب الداخل ومع الشعب الفلسطيني عمومًا. أي تحقيق المساواة الكاملة بين العرب الفلسطينيين واليهود، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون، والذي ترفضه إسرائيل والصهيونية رفضًا مطلقًا، رغم أنه تنازل كبير من جانب أصحاب الوطن.
 
لا تتوقف جريمة الدولة العبرية عند هذا الحدّ، أي رفض المساواة الكاملة، بل إنها تعمل ليل نهار على قتل أي فرصة لتحقيق العدالة، (النسبية طبعًا)، ليس هذا فحسب بل لا تألو جهدًا، ولا تبخل بالمال لإيقاع المزيد من المعاناة بعرب الداخل وبأبناء الشعب الفلسطيني.
 
شعور متزايد بوجود خيارات أخرى
يزداد الشعور لدى المواطنين العرب وأوساط ليست قليلة في أحزاب وطنية بأن لدى العرب خيارات سياسية أخرى غير الكنيست وما يتصل بها من علاقة مع المواطنة. إنه شعور بتآكل اللعبة المتبعة حتى الآن. وكأن التواجد في الكنيست يموّه الوجه الحقيقي لإسرائيل ويحول دون تطور النضال الشعبي العارم.
 
يتمثل هذا الشعور بأن البساط يُسحب من تحت أرجل المواطنين العرب وحركاتهم الوطنية وبأنهم يُدفعون إلى المجهول دون أن يكونوا جاهزين لذلك تنظيميًا ومؤسساتيًا. ومن أشكال تجليات هذا الشعور أو الإدراك هو العزوف عن التصويت في انتخابات الكنيست، خاصة في الدورتين الأخيرتين حيث انخفضت نسبة التصويت إلى أقل من 55%.
 
بعد هبة القدس والأقصى، قبل عقد ونيّف، اكتشفت المؤسسة الإسرائيلية أن عرب الداخل، وبعد أن تمكنوا من إعادة إنتاج قيادات ومؤسسات تمثيلية التي كانت محتها النكبة، لن يكتفوا بالفتات ولن يكتفوا بأقل من المساواة الكاملة ولن يتخلوا عن ارتباطهم بالشعب الفلسطيني وطموحاته الوطنية. إن المؤسسة الإسرائيلية وتياراتها المركزية لم تكن في يوم من الأيام مستعدة لحل وسط تاريخي لا مع عرب الداخل ولا مع الشعب الفلسطيني الذي قبلت قيادته به، بل واصلت قضم هذا الطرح بصورة منهجية وعن وعي مسبق ظنًا منها أن ذلك سيجبر أصحاب الوطن بالتسليم بالهيمنة الصهيونية الكاملة على فلسطين، وقبول العبودية الأبدية.
 
ولهذا السبب، فوجئت بالهبة الشعبية العارمة عام 2000، وفوجئت أيضًا بصدور وثائق التصور المستقبلي الصادرة عن لجنة المتابعة عام 2006، واعتبرتها أوساط في المؤسسة حربًا على الدولة اليهودية، رغم أن هذه الوثائق تنطوي على تنازل تاريخي، والذي سُمي بالقاموس السياسي المتداول بالحل الوسط التاريخي مع المجتمع الاسرائيلي المتشكل في فلسطين.
 
عملية تمويه كبرى
منذ سنوات طويلة يتعرض عرب الداخل لعملية تمويه واسعة ومتواصلة من جانب المؤسسة الإسرائيلية، أحزابها، يمينها ويسارها. تتمثل هذه العملية في حملة التحريض المتطورة والمستمرة منذ عقد من الزمان. إن قادة المؤسسة الرسمية والأبواق الإعلامية المتماثلة مع أيديولوجيتهم وتوجهاتهم السياسية، يوجهون سهام هجومهم وتحريضهم إلى ممثلي الجماهير العربية وبالتحديد إلى بعض أعضاء الكنيست، ويذهب هؤلاء إلى تصنيف ممثلي الجمهور العربي وأحزابهم كـ"متطرفين" و"معتدلين". وهناك أعضاء كنيست وممثلو جمهور "يجاهدون" من أجل إثبات أنهم معتدلون وليسوا متطرفين كغيرهم، ومع ذلك تجد جزءا من المجتمع الإسرائيلي الآخذ في التطرف غير مستعدّ لقبول اعتذاراتهم ولا تبريراتهم حتى لو انبطحوا على بطونهم. لقد انطلت عليهم هذه اللعبة أو هم قبلوها عن طيب خاطر.
 
أما الحركات اليمينية المتطرفة، وأعضاء بارزون في أحزاب الائتلاف والمعارضة ومن ورائهم دوائر أمنية ويمينية يعتقدون أن الزمن الذي كانوا بحاجة فيه إلى إخفاء نواياهم الحقيقية قد ولّى. فأصبحوا يقولون على رؤوس الأشهاد أن العرب جميعهم خطر استراتيجي، وحركاتهم السياسية هي حركات تتآمر على الدولة، أي بمفهومنا مطلب إلغاء البنية القانونية العنصرية للدولة وإنهاء الامتيازات المخصصة لليهود على حساب شعب بأكمله.
 
أما على مستوى الأحزاب السياسية، فإن حزب التجمع الوطني الديمقراطي ينال القسط الأكبر من هذا العداء المزمن والآخذ بالتفاقم. لقد نال من عزمي بشارة مباشرة بعد أن جرت شيطنته من وسائل الإعلام الإسرائيلية والمؤسسة الإسرائيلية، وانتهى أمره بالنفي. ولكن استمرار هذا الحزب رغم محاولة شطبه التي لم تتوقف، فاجأ على ما يبدو المؤسسة الإسرائيلية التي توقعت أن نـُخفض صوتنا أو أن نتراجع عن برنامجنا الذي هو صوت عرب الداخل جميعًا.
 
ويتجه التحريض إلى معظم أعضاء الكنيست، ولكن هناك عداءا حقيقيا ضد ممثلي التجمع؛ جمال زحالقة وحنين زعبي، لأن الدولة تتوقع منهما ومن غيرهما، أن يحافظوا على التزامهم بقوانين الدولة باعتبارهم دخلوا الكنيست على هذا الأساس. وأن أعضاء الكنيست يزورون مواقع حساسة بفضل حصانتهم، كما يكتب أحد المحرضين في مقالة تحريضية ضد حنين زعبي في موقع "واي نت".
إن التيار القومي خاض لعبة الكنيست ليس ليكرس قوانين الدولة اليهودية، بل ليسعى إلى تغييرها، وإن لم يُغيّرها فمن أجل تجنيد الرأي العام الداخلي والخارجي ضدها وفضح جذور التمييز العنصري. إنه منبر لمخاطبة الناس وتعبئتهم على النضال. والبرلمانات هي إحدى أقوى المنابر وأكثرها تأثيرًا على الجمهور المسيّس، ولكنها ليست الوحيدة.
 
المؤسسة الاسرائيلية تتعامل مع أعضاء الكنيست وكأن عضويّتهم هي منّةٌ منها، تسمح لهم بالتحدث بحرّية. وقد أجابهم عزمي بشارة آنذاك: "أعيدوا لي وطني وخذوا ديمقراطيّتكم"..
 
لماذا نقول عملية تمويه.. نقول ذلك لأن الحملة التحريضية التي تخوضها المؤسسة الإسرائيلية والتي تتخذ شكل الحرب الإعلامية، تظهر للبعض وكأن إسرائيل تخوض حربًا ضد التطرف العربي والذي يجري التعبير عنه في تصريحات أعضاء الكنيست العرب، والذين "يستغلون حصانتهم البرلمانية" للقاء حركات أو شخصيات فلسطينية تعتبرها إسرائيل إرهابية، حتى لو كان هؤلاء أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني، منتخبين وبإشراف دولي.
 
إذًا هكذا تصبح المعركة على الكلام واللقاءات، ويصبح ذلك هو الخطر الأكبر، والتطرّف الذي يجب محاربته بلا هوادة.
 
ماذا يغطي هذا التحريض؟ وماذا تخفي عملية التمويه هذه؟ إنها تخفي أو تحاول أن تخفي عملية التطرف الجنوني التي تقوم بها الدولة العبرية ذاتها ضد المواطنين العرب وحقوقهم الشرعية وليس ما تقوم به الحركات اليمينية المتطرفة الممنوعة من اقتسام ممارسة العنف مع الدولة وأجهزتها، لأن العنف هو من احتكار الدولة. فالقمع والنهب يجب أن يجري بشرعية قانونية، وبأدوات عنصرية حديثة. فالدولة الاستيطانية العنصرية العصرية لا يليق بها أساليب العصابات دائمًا. فقد أخذت شرعيتها من ديمقراطية الغرب الاستعماري. والدولة العبرية أصرّت على ذلك ونفذته من خلال الطرد الجماعي لأصحاب الوطن عام 1948حتى يستقيم الأمر مع علاقات الأكثرية-الأقلية ولتبدو الأمور طبيعية.
 
إن التطرف الحقيقي هو الصادر من الدولة نفسها، والذي تنفذه على مدار الساعة. إنه التصعيد المتواصل والمتزايد لتجريد 20% من المواطنين مما تبقى لهم من مقومات الحياة والتطور. إنها تسابق الزمن. وهي لا تحرض على القيادات والأحزاب إلا لأنها تريد أن تنهي بقايا حرب الـ48 دون إزعاج كبير. أي دون أن تعترضها قوة سياسية وجماهيرية حقيقية.
 
هكذا إذًا تأخذ الدولة العبرية الأرض، وتـُفقر أصحابها، وتسدّ أبواب الحاضر والمستقبل أمام الأجيال الصاعدة، تحول البلدات العربية إلى جيتوات محاصرة، تزيد من نسبة العاطلين عن العمل.. وتدفع إلى تردّ اجتماعي خطير يتجسد مؤخرًا بانتشار العنف الفردي والجماعي. وفي الوقت ذاته تسعى إلى قمع الصوت العربي الرافض والداعي إلى التصدّي لذلك.
 
هذا ما يدفع المواطن العربي والعديد من النشطاء، إلى التساؤل هل تدفع بنا إسرائيل إلى مفترق طرق يؤدي إلى تغيير كل قواعد اللعبة. تحاول المؤسسات الاسرائيلية والمسؤولين نسب تراجع التصويت عند العرب إلى يأس المواطنين العرب من الأحزاب العربية، بل يدّعون أنهم لا يحبون تطرف هذه الأحزاب.
 
وهناك مواطن نبيه سأل وزيرًا اسرائيليًا وهو في ضيافة أحد زلمه في قرية عربية، وكان الوزير يُحرض على أعضاء الكنيست العرب بقوله: "إنهم لا يهتمّون بقضاياكم"، فر د المواطن "هل إذا اختفت الأحزاب العربية تعيد لنا حقوقنا؟" مما يعني أن نهب الحقوق هو عمل سابق لظهور الأحزاب.
إن العزوف العربي عن التصويت سببه اليأس من اللعبة السياسية، والتي ما عادت برأي المزيد من المواطنين العرب تنفع بسبب التهميش المستمرّ لممثلي الجمهور العربي في الكنيست لأن كل اقتراح قانون يقدمه أي عضو كنيست عربي لصالح العرب تتكالب الأغلبية الصهونية عليه فتسقطه، وتمضي في سنّ القانون تلو القانون، الذي يستهدف ما تبقى من بعض الحقوق الكامنة في مواطنتهم الشكلية. بعض المواطنين ينظرون حولهم، ولسان حالهم يقول: كيف تمكنت الشعوب العربية من إسقاط الأنظمة الدكتاتورية، فيكتشفون أن الإنسان يملك من الطاقة غير المحدودة على تحمل تكاليف النضال إذا ما تضافرت الظروف وحضرت الشرارة الأولى.
 
الشرارة ستحضر، إن لم تحضر في عصر الأحزاب الحالية، ستحضر في عصر الشباب الآخذ في التشكـّل بصورة متسارعة.
 
لكن لحين ذلك، لا بدّ من مبادرة وطنية جديدة تحول الإحباط إلى أمل، وإلى فعل نافذ.

التعليقات