22/03/2012 - 15:50

البابا شنودة رجل الفكر والأدب وليس الدين فقط../ زياد شليوط

لست أدري كيف نمضي أو متى كل ما أدريه أنّا سوف نمضي في طريق الموت نجري كلّنا في سباق، بعضنا في إثر بعض كبخار مضمحل عمرنا مثل برق سوف يمضي، مثل ومض يا صديقي كن كما شئت إذن واجر في الآفاق من طولٍ لعرضِ

البابا شنودة رجل الفكر والأدب وليس الدين فقط../ زياد شليوط
لست أدري كيف نمضي أو متى     كل ما أدريه أنّا سوف نمضي
في طريق الموت نجري كلّنا         في سباق، بعضنا في إثر بعض
كبخار مضمحل عمرنا               مثل برق سوف يمضي، مثل ومض
يا صديقي كن كما شئت إذن         واجر في الآفاق من طولٍ لعرضِ
 
صاحب هذه الأبيات ليس إلا قداسة البابا شنودة الثالث، الذي انتقل للأخدار السماوية نهاية الأسبوع الماضي بعد حياة جرى فيها طولا وعرضا، وكان قد نظم تلك الأبيات عام 1961 وهو في مغارة دير النطرون الذي استقر فيه جسده في راحة أبدية.
 
واليوم عندما نراجع هذه الأبيات نرى وكأن قداسته يتحدث فيها عن نفسه، حيث يصف حياة الإنسان على أنها كبخار زائل أي أنها تمضي بسرعة وخفة مهما طال عمر الانسان فالعمر يمضي بسرعة البرق، ولهذا يطلب الشاعر من صديقه الانسان أن يعيش الحياة منتقلا من تعداد السنين الى حصاد ما هو مفيد وناجع له ولمجتمعه وللإنسانية، ولا يهم ماذا يكون ذاك الإنسان وما هو معتقده ومنبته، المهم أن يكون إنسانا معطاء وناجعا.
 
ليس البابا شنودة مجرد بطريرك إنما هو مفكر من الطراز الأول، وهو كاتب وشاعر أصدر ما يربو عن الستين كتابا بين شعر وقصة ومقالة ووعظ وارشاد وتأمل وفكر، في مواضيع دينية واجتماعية وفكرية وسياسية وغيرها.
 
أربعون عاما جلس البابا شنودة الثالث فيها على كرسي البابوية القبطية في مصر، أربعون عاما شهدت تطورات كثيرة وتقلبات عديدة كان البابا خلالها في قلب الأحداث ومركزها. جاء الى رئاسة الكنيسة بعد عام واحد من رحيل قائد الثورة المصرية جمال عبد الناصر واستلام السادات الحكم بدله، ومنذ البداية حصلت مواجهة بين الرجلين، تحدث عنها بالتفصيل الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب"، حيث يقول عنه هيكل "وكان شنودة يملك الكثير من المقومات اللازمة. كان شابا ومتعلما، وكان كاتبا وخطيبا متمكنا، وكانت شخصيته قوية الى جانب كثير من صفات الزعامة، الى جانب قوة احتمال ومثابرة لا شك فيها." ص355
 
وينقل الدكتور غالي شكري في كتابه " الأقباط في وطن متغير" مقاطع مطولة من حوار أجراه مع البابا شنودة أواخر عام 1988، وفي ذلك الحوار يقارن البابا بين عبد الناصر والسادات فيقول " جمال عبد الناصر كان يفكر في البلد دون تفرقة بين مسيحي ومسلم.. لم يبدأ التطرف وانعكاسه المباشر على الأقباط إلا في عهد السادات .." ص60
 
وبما أن البابا شنودة تحلى بالصفات التي ذكرت فانه جاء برؤية جديدة لدور الكنيسة القبطية في تحقيق وجودها من دون الاستعانة بسلطة الدولة كما يقول د. شكري ويتابع " وهو الأمر الذي أفضى بها إلى الانصهار في الوطن والاستقلال عن "السياسة" الأمر الذي استأنفت فيه الكنيسة- في عهد البابا شنودة- مسيرة النهضة ومقاومة الأجنبي احتلالا للأرض أو للإرادة." ص129
 
عن خلافه مع السادات يقول البابا في حواره " من التهم التي وجهها السادات إلينا الاهتمام باللغة القبطية، اذ تراجع ذات يوم عما أعلنه من تقدير كبير للكنيسة، وقال إننا بصدد تأسيس قومية قبطية. وهو افتراء بشع لأن كل مواقفنا وأدبياتنا تؤكد دون لبس أو غموض انتماءنا للحضارة التي تجمع الشعب المصري كله، وتثبت دون ابهام ولاءنا المطلق للحضارة التي تجمع كل الشعوب العربية." ص130
 
وهكذا تطور الخلاف مع السادات الى أن وصل درجة الصدامية، بعد زيارة الأخير لإسرائيل وإصدار قداسة البابا حرمانا على الأقباط اذا ما أقدم أحد منهم على زيارة القدس المحتلة، وقام السادات بنفي البابا وعزله داخل دير، مما ضاعف من حدة الخلاف بين الأقباط عموما ونظام الحكم.
 
وكان لقداسة البابا رؤية سياسية وموقف واضح من القضية الفلسطينية على عكس الرئيس السادات الذي خضع لشروط اللعبة السياسية الدولية، يوضحه قداسته بقوله "الارتباط بقضية فلسطين نتيجة طبيعية لمشاعر عدم الارتياح للوجود الإسرائيلي في المنطقة." ص162
 
وأشار إلى أن موقف الكنيسة لا ينبع من ردود فعل على أحداث معينة كما ظن البعض، بل هو موقف ثابت راسخ لم يتراجع عنه حتى آخر يوم في حياته. ومن الطبيعي أن تكون مواقف قداسته متكاملة وفق منظور واضح، ومن هنا إيمانه بالوحدة العربية على أنها المفتاح لحل مشاكل الوطن والأمة، حيث يقول: "ونحن نرى أن مشاكل هذه الأمة العربية لا حلّ لها بغير وحدة عربية. ولقد عشنا ولمسنا أنه إذا تفكك العرب فإن أعداءهم فقط هم المستفيدون. ونرجو أن تتم الوحدة العربية لمصلحة الأمة كلها." ص163.
 
فأين نحن اليوم من أقوال وحكمة قداسته، وأين المتسلطون على الجامعة العربية من هذا الكلام وزعماء الدول المزعومة الذين يتسابقون على تفتيت الوحدة العربية وبالتالي يخدمون أعداء الأمة العربية، ونرى بعض أولئك يتباكى على موت قداسة البابا ويا ليتهم عملوا بكلامه بدل أن يبكوه زاعمين.
 
ويلخص د. غالي شكري ونردد معه حول شخصية البابا الراحل وبصدق وحق "ليس البابا شنودة الثالث مجرد بطريرك وصل إلى السدّة البابوية ليمارس السلطة الكهنوتية في اعلى ذراها. إنه ليس مجرد "مصلح" يريد أن يطبق مجموعة المثل العليا التي عاش من أجلها وكرس لها سنوات العمر. وانما البابا شنودة مفكر بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معان وأبعاد." ص168

التعليقات