04/07/2012 - 10:50

المشروع الوطني الفلسطيني في خطر../ علي جرادات

على امتداد عقود من صراع مرير تعرضت خلاله لمذابح سياسية وعسكرية مهولة، وبالوحدة على القواسم المشتركة، صمدت حوامل المشروع الوطني الفلسطيني في وجه الاتجاه المعادي الساعي لتدميره، وحققت إنجازات لا يلغي أهميتها عدم تمكنها من تحقيق النصر الحاسم بعد، أما وقد أصاب هذه الحوامل ما أصابها في العقدين الأخيرين من التباسات وإخلالات بنيوية وانقسامات عميقة، كان أخطرها فصل غزة، (بقوة السلاح)، عن الضفة في ظل استباحات الاحتلال المنفلتة وتدخلاته ومخططاته، فإن الصف الوطني لم يعد محصناً من تنامي تيارات تسهم، بوعي أو من دون وعي، في إشاعة اليأس من المشروع الوطني والحنين لما كانت عليه الحال قبل العام 1967، أي إعادة غزة، ولو بالأمر الواقع غير المُرسَّم، للإدارة المصرية، وبالتالي إبقاء مصير الضفة مفتوحاً على احتمالات عدة بينها احتمال اقتسامها بين إسرائيل والأردن كتوليفة بين التقاسم الوظيفي والمملكة المتحدة، إذ ثمة في السياسة الفلسطينية بانقسامها ورهْنِ إنهائه بتحولات الحالة العربية، وفي مصر بخاصة، أساس كافٍ للخشية من عدم استبعاد هكذا سيناريو، بدلالة التزامن بين فوز "الإخوان" بمنصب رئيس جمهورية مصر وبين تعليق تنفيذ بنود اتفاق مصالحة شكلي أصلا، فضلاً عن دلالة إطلاق صيحة متحمسة وخطرة في آن، تقول:"لا مصالحة مع العلمانيين"!

المشروع الوطني الفلسطيني في خطر../ علي جرادات

على امتداد عقود من صراع مرير تعرضت خلاله لمذابح سياسية وعسكرية مهولة، وبالوحدة على القواسم المشتركة، صمدت حوامل المشروع الوطني الفلسطيني في وجه الاتجاه المعادي الساعي لتدميره، وحققت إنجازات لا يلغي أهميتها عدم تمكنها من تحقيق النصر الحاسم بعد، أما وقد أصاب هذه الحوامل ما أصابها في العقدين الأخيرين من التباسات وإخلالات بنيوية وانقسامات عميقة، كان أخطرها فصل غزة، (بقوة السلاح)، عن الضفة في ظل استباحات الاحتلال المنفلتة وتدخلاته ومخططاته، فإن الصف الوطني لم يعد محصناً من تنامي تيارات تسهم، بوعي أو من دون وعي، في إشاعة اليأس من المشروع الوطني والحنين لما كانت عليه الحال قبل العام 1967، أي إعادة غزة، ولو بالأمر الواقع غير المُرسَّم، للإدارة المصرية، وبالتالي إبقاء مصير الضفة مفتوحاً على احتمالات عدة بينها احتمال اقتسامها بين إسرائيل والأردن كتوليفة بين التقاسم الوظيفي والمملكة المتحدة، إذ ثمة في السياسة الفلسطينية بانقسامها ورهْنِ إنهائه بتحولات الحالة العربية، وفي مصر بخاصة، أساس كافٍ للخشية من عدم استبعاد هكذا سيناريو، بدلالة التزامن بين فوز "الإخوان" بمنصب رئيس جمهورية مصر وبين تعليق تنفيذ بنود اتفاق مصالحة شكلي أصلا، فضلاً عن دلالة إطلاق صيحة متحمسة وخطرة في آن، تقول:"لا مصالحة مع العلمانيين"!

هنا ثمة سؤال: ألا ينطوي ذلك على جهلٍ بالتوازن الموضوعي المطلوب بين الوطني والقومي والإقليمي والدولي من أبعاد القضية الفلسطينية، كما برهنت دروس قرن من الصراع؟ إذ ألم يكن الثمن غالياً نتيجة تجاهل الصوت الفلسطيني في بداية القرن المنصرم الذي حذر من الهجرة اليهودية وعمليات بيوع الأرض وعدم إصدار المجلس النيابي العثماني في اسطنبول ما يكفي من قوانين لقطع الطريق على هذه العملية المنظمة التي قادتها الحركة الصهيونية، بوصفها جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي، وذات مهمة وظيفية إمبريالية في مخططاته؟ ثم ألم يساهم "التنافس بين "الحسينية" و"النشاشيبية" كما بين النافذين في العائلات الإقطاعية، ومطالبة الحكومات العربية للفلسطينيين بأن "يخلدوا للراحة"، فضلاً عن بطش قوات الاحتلال البريطاني، في إجهاض ثورة العام 1936 التي مهدت لها ولادة حركة القسام عام 1935، وابتدأت بإضراب جماهيري عام استمر ستة أشهر، وكانت تتويجاً لعقدين من التظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات الشعبية ضد وعد بلفور، وما تلاه من تنامٍ لموجات الهجرة اليهودية التي راحت تستولي على الأرض وتستوطنها؟ وبالمثل، ألم يؤدِ الرهان المبالغ فيه على الجيوش العربية النظامية وحروبها الخاطفة إلى تأخير انطلاق إرهاصات العمل الفدائي الشعبي الفلسطيني لمدة عقدين تليا النكبة، ولم يسفر بالنتيجة إلا عن هزيمة العام 1967، واحتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية، فضلاً عن احتلال أجزاء واسعة من الأراضي العربية المتاخمة؟ وألم تتحول رهانات إمكان إحراز تسوية للقضية الفلسطينية بمجرد ما حققه الجيشان المصري والسوري من "عبور" في بداية حرب العام 1973 إلى سراب؟

   وبالمقابل، ألم تفضِ المبالغة في قدرة العامل الوطني بمفرده على تحقيق نصر سياسي حاسم بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987-1993)، إلى ما آلت إليه المسيرة الفلسطينية في العقدين الأخيرين، بما تخللهما من مفاوضات باتت نتائجها معروفة، وتتمثل في ما تعيشه الحالة الفلسطينية من انقسامات والتباسات، لم يمنع السقوط في وهدتها القاتلة، اندلاع الانتفاضة الثانية، (2000-2003)، التي أعادت تكتيك الانتفاضة الأولى بإبداعية ومشاركة جماهيرية أقل؟ 
             
ما تقدم بعض من دروس قرن من الصراع لجهة علاقة الوطني بالقومي والإقليمي والدولي من أبعاد القضية الفلسطينية، ومن نافلة القول التأكيد على أن استحضار هذه الدروس، إنما يستهدف التحذير من تبعات غرق النخب السياسية الفلسطينية مجدداً في خطابات "قُطْرية" و"قومجية" و"إسلاموية" بائسة، فالقضية الفلسطينية وما تمخض عنها من صراع، فضلا عن السبيل إلى حله بما يستجيب ولو للحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية المغتصبة، أكثر تعقيداً وأكثر تركيباً، بل، ويغطس هذه الأيام في زحمة معضلات ومنازعات داخلية وخارجية معقدة ومتداخلة تستدعي أول ما تستدعي إعادة التشديد على الدرس الأساس لقرن من الصراع، فحواه:

لئن كان لكل شعب خصوصية تميزه عن شعب آخر، فإن للفلسطينيين خصوصية عدم ولادة هويتهم الوطنية بدوافع قُطْرية، بل أملتها مواجهة مفروضة مع أبشع عملية سطو سياسي في العصر الحديث، مثلتها غزوة استعمارية استيطانية لم تستهدف ثرواتهم فقط، كما حصل في جنوب أفريقيا والجزائر، (مثلاً)، حيث استمر معظم السكان الأصليين في وطنه، بل استهدفت مجمل وجودهم الديمغرافي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ما جعل هدفها أقرب، (وإن لم ينجح)، إلى ما حصل من إبادة جماعية للشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية ونيوزيلندا، غزوة نجحت عام 1948 في تجسيد مشروعها في دولة تمددت على كامل أرضهم عام 1967، واقتلعت أغلبيتهم وحولتهم إلى لاجئين، ما جعل المقاومة بمعناها الشامل الإطار الناظم لتبلور هويتهم الوطنية وحمايتها من التبديد وصوْن وحدتها، (سياسة ونضالاً وتنظيماً وطنياً)، من الانقسام والتشرذم، وسيبقى الأمر كذلك حتى استعادتهم لحقوقهم الوطنية والقومية والتاريخية المغتصبة، وجوهرها حقهم في العودة إلى أرضهم التي دون استعادتها يغدو ضرباً من الخداع كل حديث عن تجسيد حقهم في تقرير المصير في دولة مستقلة وسيدة، ما يتطلب اعتراف الجميع بما يكفي من حزم بأن إسرائيل ماضية في سياسات استباحة الشعب الفلسطيني، أرضاً وحقوقاً ووجوداً وتطلعات، وبأن القضية الفلسطينية ليست على أبواب تسوية سياسية ولو متوازنة، فما بالك بعادلة، وأن الدولة الفلسطينية ولو على حدود الأراضي المحتلة عام 1967 ليست "على مرمى حجر"، ذلك أن راهن إستراتيجية القيادة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً إنما يقوم على محاولات تفكيك الوحدة السياسية للشعب الفلسطيني، واختزال حقوقه، وتحويله إلى تجمعات بأجندات متباينة، كمحاولات لا يمكن إعطاب ديناميكياتها إلا بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كمؤسسة وطنية تمثيلية جامعة بقيادة موحدة وبرنامج سياسي موحد على قاعدة القواسم المشتركة، ما يفرض على كل التيارات المغردة خارج هذا السرب، الامتثال لحقيقة أن ثمة حركات تحرر تكللت مسيرتها بالانتصار، بينما أخفقت أخرى، أو أخفق بعض أطرافها، رغم عقود من النضال الدؤوب والشاق، الأمر الذي ينسحب على أطراف حركة التحرر الوطني الفلسطيني، التي بات المخرج من انقسامها، وبالتالي حماية مشروعها الوطني، مرهوناً باستيعاب خصائص هذا الانقسام وخصائص مأزقه، وباستيعاب منهجية هذا المخرج وطابعه، بوصفه صناعة فلسطينية، وينبع من المركبات الفلسطينية ذاتها، فالاستنجاد بالعامل الخارجي أو الاستقواء به أو انتظار ما ستؤول إليه تحولاته، لم يفضِ، ولن يفضي، إلا إلى إدامة الانقسام وإطالة أمده وتعميقه، بما يؤكد أنه كلما استنزف العامل الوطني الفلسطيني نفسه زادت التدخلات الخارجية في شؤونه، وبالتالي فإنه لم يعد ثمة مهرب من الاعتراف بالحقائق كما هي، فالانقسام عميق أولاً  وسياسي بامتياز ثانياً، ويدور على تنازع شرعية التمثيل ثالثاً، ولا يمكن إنهاؤه "بعناق"، وإنما بالبحث عن الخطوة السياسية الصحيحة الأولى في ميدان مزروع بألغام وتناقضات ومخاطر تهدد المشروع الوطني برمته.           
   
 

التعليقات