05/07/2012 - 21:22

الشرطي يقرع باب أبي أحمد../ عوض عبد الفتاح

يقرع الشرطي باب البيت بقوة، فجر يوم الجمعة. يستيقظ أبو أحمد مذهولاً، يفرك عينيه، يتردد في فتح الباب، خوفًا من أن يكون القارع لصًا.. وفجأة يصدر صوتٌ عالٍ من خلف الباب: "مشطاراه" (شرطة)

الشرطي يقرع باب أبي أحمد../ عوض عبد الفتاح

أبو أحمد يُصدم للمرة الثالثة


يقرع الشرطي باب البيت بقوة، فجر يوم الجمعة. يستيقظ أبو أحمد مذهولاً، يفرك عينيه، يتردد في فتح الباب، خوفًا من أن يكون القارع لصًا.. وفجأة يصدر صوتٌ عالٍ من خلف الباب: "مشطاراه" (شرطة)

ماذا تريدون؟ يسأل أبو أحمد متوترًا..
"أحمد مطلوب للشرطة لأنه هارب من الخدمة المدنية.. ابنك لم يحضر إلى مركز التجنيد حتى اليوم، وهذا مخالف للقانون وخيانة للوطن (اسرائيل طبعًا!)".

أبو أحمد رجل عصامي ومعتد بنفسه في أواخر الخمسينات من العمر. لم تسعفه الظروف لينال حظه من التعليم. صادرت الدولة العبرية كل أراضي العائلة، واضطر إلى بناء بيتٍ صغيرٍ لابنه أحمد خارج مسطح القرية بدون ترخيص، أسوة بآلاف العائلات العربية المهدّدة بيوتها بالهدم. بناه على نصف دونم كان قد اشتراه من أحد سكان القرية بعد اللجوء.

تجاوز أحمد الثامنة عشر قليلا. وولد بعد فترة طويلة من زواج والديه، بعد رحلة طويلة من من علاج العقم. ليس متميزًا في المدرسة، ولكنه مجتهد جدًا وتجاوب مع رغبات والده في التسجيل في الجامعة وعدم الانتظار. يريد الوالد أن يعوّض عما فقده من حظوظ بالتعليم والدراسة. لا يريد لابنه أن يعمل ولو ليوم واحد في البناء والأشغال الشاقة في المشاريع الإسرائيلية من ساعات الصباح الباكر حتى المساء.

يقف أبو أحمد الآن في مواجهة الصدمة الثالثة؛ الأولى؛ طرد العائلة من قريته المهجرة عام 1948 إلى قرية مجاورة حيث لا يزال أهل القرية يتعاملون معه كلاجئ، الثانية، اضطراره إلى ترك التعليم في بداية تعليمه الثانوي بعد وفاة والده ليساعد عائلته كثيرة الأولاد. الثالثة، وهي الصدمة الجديدة؛ قطع أحلامه وأحلام ابنه بمواصلة التعليم ومطالبة ابنه بأن يؤدي "الخدمة الوطنية الإسرائيلية".

كان أبو أحمد دائمًا يحذر ابنه من مغبة الانخراط في السياسة أو من الذهاب إلى بيت فيه ناشط سياسي، ويحظر عليه الذهاب إلى النوادي السياسية، والمشاركة في النشاطات الوطنية معتقدًا أن ذلك أفضل لمستقبل ابنه. لم يكن قادرًا على إدراك أهمية الانخراط بالنشاط السياسي، إما بدافع الأنانية أو بدافع الحرص المفرط أو القاتل على مصلحة ابنه، أو لجهل أعمى.

لم يستطع أبو أحمد أن "يهضم" أن هناك المئات من الشباب العرب ينشطون منذ بواكير شبابهم في العمل الوطني ويدخلون الجامعات ويتخرجون معلمين ومحامين ومهندسين وأطباء ومحاضرين ومهنيين، ورؤوسهم مرفوعة وكرامتهم شامخة. لا يعرف أن خليل غرة يواصل تعليمه بعناد رغم الملاحقات. ولا يعرف أن نيفين أبو رحمون أنهت الماجستير بنجاح رغم التحقيقات الاستفزازية والمضايقات والتخويف، وهي تعمل الآن في مجالها وقد بنت ذاتها. وهناك المئات بل الآلاف من شبابنا الفلسطيني الذي يُعتزّ بهم.

هكذا الآن يجد أبو أحمد نفسه وجهًا لوجه أمام من تجنّب الصدام معهم، أمام من مالأهم وتجنـّبهم. فهل يستطيع أبو أحمد أن يدافع لوحده عن حق ابنه في رفض الخدمة الوطنية الاسرائيلية، ويضمن رغبته ورغبة ابنه في مواصلة الدراسة وعدم تضييع عامين أو ثلاثة لخدمة دولة لا تعترف به، وتصرّ على حرمانه من المساواة وعلى إبقائك دون المواطن اليهودي، وتمارس كل يوم ضده كل مخططات السرقة والحرمان والحصار، ناهيك عن اعتباره تهديدًا مستمرًا لامتيازات سكانها اليهود التي سرقوها من والدك؟ أم أنه فقط بوحدة كل زملاء أحمد وأقرانه، (أبناء جيله) وجميع أبناء شعبه يمكن الوقوف صفًا واحدًا في وجه هذا المخطط اللئيم وضمان مستقبل الجميع؟

بالنسبة لأبي أحمد، كما لبعض الناس، الكرامة بمفهومها السامي غير موجودة في القاموس. المهم أن يحصل الابن أو البنت على شهادة. يتزوج، تتزوج، تنغمس في العمل، وتنعزل عن كل نشاط ثقافي أو سياسي يصبّ في تعزيز شخصية الفرد وتقوية وتحصين المجتمع، وكأننا نعيش في عالم خاص بنا معزول عن واقعنا.. واقع القهر والإذلال. كأننا نعيش في دولة اسكندنافية. نعم لقد خلقت الدولة العبرية أوهامًا عند البعض.. فأضفت قناعًا كاذبًا على نظامها القمعي وأقنعت البعض أن الانغماس في الحياة الخاصة، الأكل والشرب والتعلـّم أيضًا أفضل لهم. ولا بأس من مشاهدة التلفزيون وشتم الاحتلال والقتل، وشتم القادة العرب طالما أن ذلك يبقى بينك وبين نفسك، أو داخل جدران البيت وجدران غرفة العمل ولا يتجاوز أكثر من ذلك.

ما يزعج الدولة العبرية، ليس تمكن عدد كبير من العرب من تحصيل العلم والشهادات العالية، بل ما يزعجها هو إقدام الكثيرين من أصحاب الشهادات الى الانخراط في العمل السياسي، وتصدّرهم النضالات في الدفاع عن كرامة كل المواطنين العرب ومساندة نضال شعبنا ضد الاحتلال ومن أجل حق العودة، مما ينسف ادعاءات الدولة العبرية وتحريضها بأن من ينخرط في السياسة يخسر مستقبله الخاص. إن من أهداف المؤسسة الاسرائيلية التي لا تنفكّ تحرّض ضد العمل السياسي هو تعميق الفردانية وتنمية الأنانية عند العائلات العربية، عبر عزلها عن مصيرها الحقيقي، ومصير أبنائها كجزء من شعب مستهدف في حاضره ومستقبله. وهذا ليس شعارًا بل حقيقة واقعة، وفقط من ليس لديه إحساس لا يرى ذلك ولا يرغب بدفع أي ثمن مهما كان صغيرًا.

يقف أبو أحمد وراء الباب الموصد وطرقات رجال الشرطة عليه تشتدّ أكثر فأكثر، يخرج أحمد من غرفته بخطوات مسرعة ينحيّ أباه جانبًا بحنان شجاع، يده الأولى تمسك المفتاح والثانية تتمسّك بقبضة الباب، "أنا هنا" يصرخ نحو الشرطة ثم ينظر في عيني أبيه "لن أخدم ظالمي يا أبي، كرامتي هي كلّ ما تبقى لي، لن يطول غيابي" قبّل رأس والده وخرج من بيت طفولته واعيًأ برأس مرفوع.

في مواجهة السادية والعبودية الجديدة..احتلوا الشوارع والساحات!

ما سبق هو سيناريو لما  يمكن أن يحصل عند تمرير ما يسمى بقانون الخدمة المدنية. المضمون الحقيقي لهذا المخطط هو الخدمة الوطنية الاسرائيلية؛ إنه ببساطة مخطط لتحويل العرب والأجيال الصاعدة تحديدًا إلى عبيد لدى اليهود الإسرائيليين. إنها السادية بعينها؛ يقتل أباك وأمك ويفرض عليك أن تخدمه مجانًا ليتمكن من مواصلة السيطرة عليك. إنه الامتهان الأكبر، إنها العنصرية الاستعمارية بأحطّ أشكالها.

إنه مخطط للمضيّ في التمثيل بالضحيّة. فالعنصرية والتجرّد مما تبقى من الحساسية تجاه الآخر، هي في أوجها. وقد نشهد ذروات أخرى لهذا المنحدر المتسارع في الكيان الإسرائيلي حكومة ومجتمعًا. ولكن في الوقت ذاته قد نشهد نهوضًا شعبيًا عربيًا متحديًا وهادرًا.

الخناقة القائمة الآن داخل الائتلاف الحكومي حول موضوع "قانون طال" وما يسمى باقتراح "قانون توزيع العبء" تشبه خناقة داخل عصابة حول توزيع الغنائم. صحيح أن الخلاف المحتدم حول تجنيد "الحريديم"، والضجة الإعلامية التي يحظى بها الموضوع نابعة من حاجة نتنياهو لهذا القطاع المتديّن والمتعصّب في المجتمع الإسرائيلي. أما العرب، المستهدفون الأساسيون والمتضررون الحقيقيون من إمكانية تمرير هذا القانون، فهم غير موجودين في قاموس الحكم الإسرائيلي الذي يخطط لنا حياتنا كيفما يشاء. الائتلاف الحاكم ليس بحاجة للكتل العربية في الكنيست وكل قانون عنصري أو مخطط معاد يحظى بموافقة  فورية من الأغلبية الصهيونية في الكنيست. إذًا لا بديل عن مراكمة القوة اللازمة لمواجهة المخطط الإسرائيلي – إنه التمرّد. وعبر احتلال الساحات العامة والشوارع.

حوار مع ولدي

يقولون يجب توزيع العبء، أي أن المواطنين العرب لا يشاركون في العبء، أي عبء؟! لا يستطيع الاستعماريون الصهاينة رؤية العبء الذي نتحمله، الذي سيزيله شعبنا يومًا ما، هو سرقة وطن بأكمله وتدمير شعب بأكمله، هو نظام الأبارتهايد، النظام الكولونيالي البغيض. يريدون منا أن نساعدهم على هضم ما ابتلعوه من غنائم؛ أراض وبيوت وثروات هائلة.

قبل أيام دعيت ابني الأصغر طارق للحديث معه حول قضايا شخصية وحول الوضع السياسي كما أفعل بين الحين والآخر، بعدما تدفقت الى رأسي المخاوف. هو في الصف الحادي عشر، ومن يشغله هو اختيار الموضوع الذي سيدرسه في الجامعة. شرحت له التطورات الأخيرة المتعلقة بالنقاش حول قانون الخدمة الاسرائيلية، وبيّنت له ماذا يعني هذا القانون بالنسبة للعربي الفلسطيني في هذه البلاد؛ وأوضحت له أنّ العقاب في حالة الرفض قد يكون السجن. وسألته إن كان مستعدًا لذلك. سكت للحظة وظهرت علامات ذهول وفضول على وجهه، لأنه ربما لم يفكر في الأمر قبل ذلك. فأجاب بعد أن جال بعينيه يمينًا وشمالاً "سأرفض حتى لو حبسوني".

لكني سألته، ألا تفكر أنت وزملاؤك بعمل أي شيء حتى نمنع الوصول إلى هذه المرحلة؟ فسأل: وهل يعرف كل الناس عن هذا القانون؟ قلت: ربما لا، قال: سأتحدث مع أصدقائي. في اليوم التالي تحدث مع زملائه، مع عدد من أبناء وبنات صفه فجاؤوني إلى البيت وقرروا الانخراط في النشاط وطلبوا مواد لنشرها بين الشباب، خاصة بعد أن عرفوا أنهم قد لا يتمكنوا من الانتقال الى الجامعة فورًا بعد إنهاء الثانوية، وأنّ قبول الخدمة قد يقودهم إلى خدمة الاحتلال والتورّط في قتل أبناء شعبهم.

ليس سهلاً على الوالدين أن يروا أبناءهم في هذه الحالة. كنا دائمًا نطمح لأن لا يمرّ هذا الزمن الطويل دون تحقيق العدالة، وأن لا يواصل أبناؤنا التعرض للإهانات والإذلال والتمييز والقتل، ولكن لا خيار أمام أي شعب إلا طريق النضال والكرامة.

الأطفال والشباب الفلسطيني ينشأون في هذه البيئة ويتشربون مشاعر الغضب ضد الظالم، ويتسلحون بالمعرفة والإرادة في كيفية مواجهته.

أذكر كيف ملأ ابني أشرف البكر، حين كان عمره ست سنوات، البيت بالصراخ حين دخلت قوة من الوحدات الخاصة البيت بعد منتصف الليل واعتقلتني بطريقة فظة مع اثنين من أشقائي وبعد نقاش حاد معهم. ومرت بعدها تسع سنوات، في الأول من أكتوبر من عام 2000، وإذا بأشرف في مقدمة المواجهات مع قوات القمع الإسرائيلية على مدخل القرية، وسط إطلاق الرصاص والغازات، دون شعور بالخوف، وهو يلف رأسه بالحطة الفلسطينية.

كان كبقية الشباب الشجعان الذين تصدوا بصدورهم العارية لقوات القمع. استشهد في هذه المواجهات البطولية ابن خالته ورفيقه أسيل عاصلة، ومعه علاء نصار، ووليد أبو صالح، وعماد غنايم، ورامز بشناق، ومحمد خمايسي، وعمر عكاوي، ووسام يزبك، وإياد لوابنة وأحمد أبو صيام، ومحمد جبارين ورامي غرّة ومصلح جرادات. هؤلاء الشهداء الأبطال ومئات الجرحى وجميع أبناء هذا الجيل خرجوا من بيوتهم، ومن أحضان عائلاتهم بمحض إرادتهم، ليملأوا الشوارع والساحات وليواجهوا ببطولة نادرة من أذلّ أجدادهم وآباءهم وأمهاتهم على مدار عشرات السنين.

أما مهند الابن الأوسط، فلا يكف عن إغراقي بالأسئلة والاستفسارات من ألمانيا حول أوضاع العرب في الداخل والمستجدّات ولا تفوته صغيرة ولا كبيرة.

إن الجيل الذي قدم الأرواح والدماء من أجل أن يحيا الشعب، أبناؤه وبناته، ودفع هذا الثمن الغالي على درب الحرية وطريق التحرر من الاستعباد الصهيوني والشباب الذين يناضلون في الجامعات الإسرائيلية وفي قراهم ومدنهم، قادرون على أن يحتلـّوا الساحات والشوارع مرة أخرى وبصورة مستمرة لأن الدولة العبرية لا تكف عن مراكمة القهر ولا تتحفظ من أي وسيلة (ذكية) لإدامة العبودية على أبناء هذا الوطن.

كلمة أخيرة
التنافس بين القطرية والمتابعة

لا يعرف معظم المواطنين العرب تفاصيل السياسات الداخلية لعرب الداخل وكواليسها ومؤامراتها.

هناك من يعتقد أن إصدار اللجنة القطرية للسلطات المحلية لبيان حول الخدمة المدنية وتضمينه إشارة إلى إمكانية إيجاد بديل للخدمة المدنية تحت إشراف وزارة الرفاه الاجتماعي بدل وزارة الأمن، تعكس اجتهادًا شرعيًا في كيفية مقاربة البدائل للخدمة الوطنية الإسرائيلية. والحقيقة هي أن نشر البيان بخصوص قضية خطيرة تشغل بال كل مجتمعنا، بدون طرح المسألة في اجتماع رسمي للجنة المتابعة، هو استمرار للتنافس الذي تخوضه رئاسة اللجنة القطرية (بعد فصلها مهنيًا عن المتابعة) منذ عامين. بل يأتي في إطار التوجه لإضعاف لجنة المتابعة ومكانتها أكثر مما هي ضعيفة. وقد كتبت مقالاً بعد فترة قصيرة قبل عامين من تنصيب السيد محمد زيدان رئيسًا توافقيًا للجنة المتابعة، وكان ذلك اقتراحًا من قيادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وأشرت إلى أن الجبهة تعتقد أن التوجه السياسي لمحمد زيدان لا يروق لها وأنه خيّب آمالها.. وبكلمات أدق تعتبره متطرفًا.. والحقيقة أن لجنة المتابعة ظلت تعاني كما في السابق من نفس المشكلة؛ أي عدم تحولها الى مؤسسة قوية وفاعلة ذات إمكانيات تنظيمية ومادية حقيقية، وشرعية شعبية مباشرة. والحقيقة هي أن التوجه السياسي للسيد زيدان يعكس الخط الوطني العام للجماهير العربية.

وتصرفت قيادة الجبهة طيلة الفترة السابقة تقريبًا بطريقة أكدت نيتها في إضعاف اللجنة وقيادتها وسعت الى إفشال أهم مؤسسة أقيمت الى جانب المتابعة، ألا وهو الصندوق المالي المسمّى بلجنة أصدقاء لجنة المتابعة، وذلك باعتراف رئيسها المنتمي للجبهة أمام السيد محمد زيدان. يمكن أن يكون لدى الجبهة أسباب لعدم رضاها عن أداء رئيس لجنة المتابعة وقد نتفق مع بعضها، ولكن أن تتواصل العرقلة دون طرح الأمور على الطاولة، فهذا أمر غير مقبول لا سياسيًا ولا وطنيًا إذ نحتاج في هذه الظروف إلى توحيد كل القوى في إطار لجنة المتابعة لإحباط مخططات الخدمة الوطنية الاسرائيلية، وباقي المخططات المعادية، وإلى الانخراط المنهجي والاستراتيجي لبناء مجتمعنا العربي الفلسطيني. وهذا لن يتم إلا إذا حسم أمر إعادة البناء.

لا يجوز بعد اليوم المراوحة في المكان، أي مواصلة تجميد المشروع الانتقالي المقترح لإعادة ترتيب الوضع الداخلي لهذه الهيئة التمثيلية. إذ يُفضل أن يتم ذلك بالتفاهم من الجميع وبأسرع وقت. وإلا فإن الأمور ستتخذ منحًى آخر.
 

التعليقات