27/08/2012 - 10:23

في العودة الى أسس المشروع القومي الديموقراطي (2)/ د. باسل غطاس

مع تأسيس حزب التجمع الوطني الديموقراطي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي ظهر بقوة برنامجه السياسي الذي يلائم وضع الأقلية الفلسطينية في داخل إسرائيل. وقد طرح البرنامج مقولتي "دولة كل مواطنيها كقاعدة المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية"، ومقولة "الحكم الذاتي الثقافي كقاعدة المطالبة بالحقوق القومية". وقد سيطر هذا الخطاب الجديد بسرعة على النقاش السياسي ليس فقط في أوساط العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل بل وأثر تأثيرا بالغا على النقاش السياسي في الأوساط الإسرائيلية عامة حيث شكلت مقولة دولة المواطنين التحدي النظري الأكبر للديموقراطية الإسرائيلية، فقد نزعت القناع عن وجها الإثني بصفتها ديموقراطية لليهود فقط

في العودة الى أسس المشروع القومي الديموقراطي (2)/ د. باسل غطاس

مع تأسيس حزب التجمع الوطني الديموقراطي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي ظهر بقوة برنامجه السياسي الذي يلائم وضع الأقلية الفلسطينية في داخل إسرائيل. وقد طرح البرنامج مقولتي "دولة كل مواطنيها كقاعدة المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية"، ومقولة "الحكم الذاتي الثقافي كقاعدة المطالبة بالحقوق القومية". وقد سيطر هذا الخطاب الجديد بسرعة على النقاش السياسي ليس فقط في أوساط العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل بل وأثر تأثيرا بالغا على النقاش السياسي في الأوساط الإسرائيلية عامة حيث شكلت مقولة دولة المواطنين التحدي النظري الأكبر للديموقراطية الإسرائيلية، فقد نزعت القناع عن وجها الإثني بصفتها ديموقراطية لليهود فقط.

اجتهد برنامج التجمع الذي طرح حينذاك وتم تجديده منذ ذاك عدة مرات لاستخدام هاتين الموضوعتين استخداما مبدعا ومبتكرا في معالجة قضايا الأقلية القومية، وصياغة المطالب وأخذ المواقف في القضايا المختلفة. بيد أنه حدث تراجع واضح في السنوات الأخيرة في حيوية الخطاب وتميزه وبالنتيجة في تأثيره. هذا يعود الى حصول عمليتين متوازيتين تبدوان كمتناقضتين، الأولى كانت تبني هذا الخطاب واستخدامه بالأساس لفظيا وسطحيا من كافة الأحزاب والقوى السياسية، والثانية تمثلت بتراجع في الاجتهاد النظري وفي تطبيق مستمر ومبدع  لمعالجة القضايا اليومية المرتبطة بحياة الناس بالاستناد الى هاتين القاعدتين اللتين تشكلان معا "نقطة أرخميديس" في تناول القضايا وطرح الحلول لها. والتشديد هنا على كلمة معا حيث واجه هذه الخطاب منذ نعومة أظفاره تحدي الربط الجدلي بين الموضوعتين (دولة المواطنين- حقوق مدنية والحكم الذاتي الثقافي- الحقوق الجماعية القومية)، ولا بد من إعادة التأكيد أن هذا التحدي في اتقان عملية الربط بين الموضوعتين هو تحد دائم.

من أهم ظواهر الترهل والبلبة في فهم الواقع هو ما يشوب الإعلام والخطاب السياسي العام من تراجع في تأثير نبرة هذا الخطاب وظهور نماذج أقل ما يمكن أن توصف بالبلبلة وفقدان البوصلة في تناول أبسط الأمور، ناهيك عن ظواهر تشويه مقصودة من بعض من يريد الصيد في المياه العكرة واجدا لنفسه متنفسا في هذا الفراغ الجزئي. وهكذا يختلط الحابل بالنابل وتصبح مشاركة عربي في منتخب كرة القدم الإسرائيلي تقاس بمشاركة عضو كنيست عربي في وفد برلمانيين يمثلون كنيست إسرائيل، وتصبح مشاركة عربية في مسابقة جمال موضوع جدل يثير عواصف من الهراء وااللغو، ناهيك عن قضايا أهم وأكثر تعقيدا مثل المقاطعة الدولية للأكاديمية الإسرائيلية واستقبال فنانين عالميين، وهل وجود محاضرين عرب في الجامعات يضر بالمقاطعة، وكيف يكون دور هؤلاء عمليا في ممارساتهم المهنية والاجتماعية، إضافة إلى عشرات القضايا الهامة التي تثير التساؤلات والخلافات المشروعة حتى في أوساط الوطنيين والناشطين السياسيين، والواضح هو غياب البوصلة التي تضع الأمور في نصابها حيث "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر".

الدرس الأساسي مما تقدم هو ضرورة استمرار النقاش وطرح القضايا والاجتهاد في تطبيق المشروع القومي الديموقراطي، وعدم التردد في طرح الاجتهادات، والأهم إثارة النقاش الموضوعي مع الطروحات الأخرى وخاصة الطرحين الإسلامي والشيوعي اللذين لا يتميزان باجتهادات خاصة تلائمهما لواقع الأقلية القومية.

من واجبنا التأكيد على أن طرح موضوعتي دولة المواطنين والحكم الذاتي الثقافي وهما كما أسلفنا تشكلان ركيزتي مشروع التجمع الوطني الديموقراطي لا يمثل وصفة جاهزة ولا معادلة سحرية بمجرد ترديدهما نصل إلى الحقيقة فيما يجب أن نتخذ من مواقف أو من طروحات لقضايانا وخاصة المستجدة منها، وإنما هما قاعدتان سياسيتان وأخلاقيتان تمكناننا عند الاستناد إليهما والحفاظ على الربط الجدلي بينهما من تحليل الأمور والتوصل إلى فصل الغث عن السمين ومقاربة كافة القضايا مهما بدت معقدة ومركبة، وتفكيكها وجلاء أوجه التعقيد وصولا للموقف الصحيح الذي يصب في المصلحة الوطنية.

هكذا كان ديدن التجمع منذ تأسيسه، ومن المفيد لتناول القضايا الراهنة العودة بالذاكرة إلى مواقف أثارت جدلا كبيرا في حينه داخل الهيئات القيادية في التجمع. لعل أهمها وأكثرها إثارة للجدل كان قضية ترشيح مرشح التجمع لمنصب رئيس الحكومة في انتخابات 1999. ففي حين اعتبرت تلك الخطوة تجسيدا مكثفا  لموضوعة المواطنة والحقوق المدنية كانت هناك تخوفات كبيرة من أن تشكل خطوة كهذه ورقة قوية ورابحة دعائيا وإعلاميا في يد الديموقراطية الإسرائيلية. وبعيدا عن الاعتبارات الانتخابية وظروف التجمع ومحاولة إسقاطه عبر منعه من تجاوز نسبة الحسم في تلك الانتخابات فقد كان قرار الترشيح لاعتبارات مبدئية حيث لم يكن واضحا منذ البداية أثر هذه الخطوة انتخابيا بل وكان هناك تخوفات جدية من أن يكون لها أثر سلبي على النتائج. وبنظرة تاريخية يمكن القول إن هذه الخطوة استطاعت تسليط الأضواء عالميا على وجود الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، ونجحت في إيصال قضايا التمييز والإقصاء التي تعاني منها إلى العالم بما فيه العالم العربي  أكثر مما نجحت مجهودات بذلت طيلة عقود عديدة، ولا ننسى ذلك الزخم العاطفي وانتصاب القامة ورفع الرأس الذي أثارته هذه الخطوة لدى الأجيال الشابة. بالنتيجة هذه الخطوة "المدنية" بامتياز أعطت مردودات لا يستهان بها  على المستوى القومي مما يعيد التأكيد على الربط الذي لا ينفصم بين الموضوعتين ويعيدنا إلى القياس بهما سوية أو كما كنا نردد في تلك السنوات "خطوة باتجاه الحقوق المدنية سوية مع خطوة باتجاه الحقوق القومية"، أو خذ بمجال التشريع وما سمي "قوانين عزمي بشارة" خاصة قانون التمثيل في الشركات الحكومية وفي أجهزة الدولة، إعتمد المجهود التشريعي على طرح القضايا المدنية مع اقتران واضح بالقضية القومية مع علمنا الأكيد أن تعيين العرب مثلا في مجالس إدارة الشركات الحكومية لن يكون بحسب الكفاءة وانما سيستخدم من قبل الأحزاب الصهيونية لمكافأة المقربين ولزيادة النفوذ ومع ذلك لا يمكن التقليل من أهمية هذه الانجازات على مستوى الحقوق القومية.

كما أسلفنا لا يوجد وصفات جاهزة ولا حتى مقياس يمثل مقص الخياط وإنما هي عملية تحليل منهجي للأمور بالاستناد إلى هاتين القاعدتين المترابطتين، وكل خطوة تحسب لما تحتويه ولا تمثل مدخلا لخطوة أخرى فتلك أيضا يجب أن تخضع للقياس مجددا فعلى سبيل المثال خوض الانتخابات للكنيست ووجود تمثيل سياسي للعرب في البرلمان وهي خطوة سياسية متفق عليها لا تبرر أن يرضى عضو كنيست عربي العضوية في لجنة الاستيعاب مثلا أو المشاركة في وفود تمثيلية للكنيست إلى خارج البلاد. التمثيل البرلماني يكون شرعيا بمقدار كونه ساحة للنضال الحقيقي من أجل تحقيق مصالح الأقلية القومية ليس أكثر. يستطيع النواب العرب جماعة ومنفردين مستغلين مواقعهم كممثلي جمهور في نسج علاقات دولية لخدمة قضايا الأقلية القومية وليس عبر علاقات الكنيست الرسمية.

هذا ينطبق أيضا برأيي على نيابة رئيس الكنيست من قبل نواب عرب لا معنى لها ولا تفيد وتقاس مرة أخرى لوحدها فلا نقبل بمقولة أنه إذا ارتضينا التمثيل البرلماني فلا مانع عندها من القبول بمناصب رسمية داخل البرلمان.. المقياس هنا هو فائدة التمثيل لصالح الجمهور. عضوية لجنة مالية أو لجنة تشريع نعم لأن فيه هذا التأثير المباشر (وهو قليل كما نعرف) أما مناصب لا تسمن ولا تغني عن جوع  بل وقد تستغل لتلميع الديموقراطية الاسرائيلية فلا.

إذا المنهج هو القياس والتحليل لكل خطوة حيث أن أي حركة أو خطوة وإن كانت صحيحة بأي اتجاه قد تقود لخطوة خاطئة أو حتى مسيئة فيما لم تخضع للمقاربة المعتمدة في كل مرة على قاعدتي المشروع القومي لديموقراطي. لو تناولنا قضايا للفرد فيها دور أساسي مثل وجود عرب في السلك التعليمي في الجامعات. البعد القومي في الموضوع نابع من سياسة تمييز وتهميش عنصرية فاضحة نتيجتها أن أقل من 2% من المحاضرين في الجامعات هم عرب وكان هذا مطلب تاريخي لفتح الجامعات أمام الأكاديميين العرب، وعليه فلا يمكننا أن نرى في وجود محاضرين عرب في الجامعات عائقا أمام المقاطعة الأكاديمية الإسرائيلية وننظر بعين الرضى بل والفخر لإنجازاتهم العلمية والأكاديمية، وكذلك لتبوؤهم مناصب عليا في داخل الأكاديمية.

ويمكننا أن نقبل أيضا ألا يكونوا بأكثريتهم نشطاء سياسيين وحزبيين فاعلين (وإن أتاحت لهم الأكاديمية هامشا أكبر من الحرية ليكونوا طلائعيين في حراك مجتمعهم الاجتماعي والسياسي) ولكننا لا نقبل أن يقوم بعضهم بلعب دور ورقة التين للدفاع عن الأكاديمية الإسرائيلية فيشاركون في وفود أو فعاليات لمحاربة المقاطعة أو يقبلون بتبوؤ مناصب تمثيلية جزء من مهامها هو تبييض صفحة الجامعات الإسرائيلية في الخارج. طبعا نتوقع أن يكون المحاضرون العرب في الجامعات في أقله داعمين للطلاب العرب وللجانهم المنتخبة وللنضال العام لحرية التعبير داخل أروقة الجامعة.

إن عدم التدخل والنشاط في هذه المجالات من أي منهم وهو ما نعتبره الحد الأدنى يعكس سلوكا انتهازيا يجب أن يدان شعبيا. هناك عشرات الأمثلة غالبيتها في السياق المدني المتعلق بكافة نواحي حياة الناس وكلها تتطلب الإجابة الى أي مدى يمكن الذهاب في هذا الاتجاه مع الحفاظ على البعد القومي ومنعها من أن تصبح أسرلة منفلتة، لكن لا يتسع المجال للتطرق اليها في معالجة واحدة. بيد أنه من الواضح أن ما يبدو معضلات صعبة تقع في مجال الحقوق المدنية والمرتبطة بالمواطنة الاسرائيلية ولكن المصاعب بل قل االمصائب الكبرى تقع في مجال الحقوق القومية حيث لم يحقق المشروع أية إنجازات تذكر بينما كان هناك الكثير مما يمكن عمله. وهذا موضوع لمعالجة منفردة تحفزنا لكتابة جزء ثالث لهذه المعالجة قريبا.

التعليقات