14/02/2013 - 11:33

عن صغر المزايدة.. ومعنى الحركة الوطنية في الداخل../ د. عمر سعيد

من هنا فإن التجمع الوطني وبصفته حزبا جماهيريا واسعا، وبفضل ثباته على تلك القيم الوطنية، ومساهمته الملموسة في تطوير خطاب مميز ومشروع سياسي خاص بجماهير الداخل بديلا عن المشروع الاندماجي التقليدي، فإنه يشكل بامتياز التيار الرئيسي المعبر عن تلك المدرسة وممثلا للحركة الوطنية في الداخل، وليس من قبيل الصدفة أن الغالبية الساحقة من حركة أبناء البلد والتقدمية قد أسهمت بتأسيسه جنبا إلى جنب مع ميثاق المساواة ورموز وطنية مستقلة، وهي ما زالت منضوية في قيادته وصفوفه، وكذلك غالبية أبناء الحركة الأسيرة في الداخل الفلسطيني، وبعد كل ذلك لم تسأل نفسك السؤال المنطقي والصحيح عن سبب دعم أسرانا للتجمع وأنت محام في وزارة الأسرى الفلسطينية!؟

عن صغر المزايدة.. ومعنى الحركة الوطنية في الداخل../ د. عمر سعيد

ربما لا يختلف معي أحد أن النقد العلمي المنضبط والمناقشة الفكرية والسياسية المنفتحة أضحت بضاعة نادرة في ساحاتنا الثقافية ومجالنا الحزبي، وناب عنها خطاب اللغو والجعجعة والاستعراض. لهذا قد يحتاج القارئ منا أحيانا إلى معدة ذهبية لهضم ذاك الكم المريع من المقالات السخيفة والبائسة التي تعرض على موائدنا الثقافية، فضلا عن أعصاب فولاذية لإتمام قراءة احدها. بعضها بالأكيد يعصى على التفكيك والفهم وفقا لمناهج تحليل النص لغويا ودلاليا قبل أن يحال صاحبه لمعاينة نفسية في مجال الذهان الانفصامي. وقد يحار أحدنا، مثلا، حينما يتمعن ذاك الأسلوب الفج والمضامين السطحية والمستوى الهابط لما يكتبه أستاذ جامعي مأخوذ بحاله في "نقاشه" مع عزمي بشارة والتي يأنف عنها حتى أبسط شبابنا المراهق. ويحزنك أكثر حينما تدرك أن المهمة والمشروع الأوحد لذاك الصحافي "الشيوعي" الذي يعمل في صحيفة صفراء هو تلطيخ سمعة التجمع وقادته، وهذا كل ما يعرفه. ثم قد ترى ذاك المثقف، حين تحادثه، قد انقبض وجهه وتسطح أنفه كمن اشتم ريحا مقرفا، فلا ينفك عن توجيه سهامه نحو جهة وطنية بعينها، ويغازل أخرى مشوهة، لتكتشف بعدها أنه غاطس في حب "ليلى" وموعود بوصالها. وقد يطل عليك مجددا من يأمر بالبر وينسى نفسه لينصح نواب الجبهة بالاستقالة المبكرة والوفاء بالعهود.... وغيرها من فوضى التقولات والمقالات بما هي عليه من عجب العجاب، والتي برأيي بات من المفيد، بل من الضروري الانتباه لها والرد المتعقل على أصحابها نظرا للدور التحريفي التي تمارسه على مستوى الوعي والتشويه الأخلاقي على مستوى القيم الوطنية، فضلا عن فعلها في تسميم الأجواء بين أحزابنا وإجهاض فرص تعاونها وتقاربها.

الصديق جواد بولص كاتب واضح الهوى والأهداف وليس كهؤلاء، لكنه إشكالي كثير الكبوات، ولا شك مثابر عنيد في المزايدة على التجمع فيما يفضل أن يسميه هو نقد إصلاحي، حيث أساسه الدعوة لتقبل الواقع التاريخي بعد التحلل من سطوة النكبة وتداعياتها، والسير نحو الاندماج في المجتمع الإسرائيلي بهدف حماية جماهيرنا من السلطة ومخططاتها، والأهم حمايتها من أذى تطرف التيارين القومي والإسلامي. وبالمناسبة، فإن شعار حماية الجماهير "وقيادة لا تحتمي بالجماهير" أصبحت علامة تجارية مميزة لدى البعض، ولست أدري لحد هذه اللحظة ما الخطر الذي واجهته أو قد تواجهه تلك القيادات، وهي على مواقفها المعهودة، حتى تتحفنا بمثل هذا الشعار المضلل؟َ!!. مع ذاك فإن صديقنا جواد حينما يمارس هوايته المزمنة تلك، لا يتمكن غالبا من السيطرة على مقود شطحاته ولا على فراملها المنهكة، فيبدأ بحفلة دهس لكل "برتقالي" يصادفه في طريقه الملتبس أصلا.

في مقالة يفترض أن تكون تأبينيه رصينة بحق المرحوم نمر مرقص، ينجرف كاتبنا بمغامرة إنكارية جديدة لتقزيم نجاح التجمع الانتخابي في تعزيز وزيادة الالتفاف الشعبي والشبابي خصوصا حوله. ولتبرير فشل الرهان على جواده، يردد صديقنا نفس المعزوفة الممجوجة حول تلك الأموال النفطية المزعومة، وعن توقيف مجموعة شبان من التجمع ضبطوا وهم يدخلون مبالغ نقدية كبيرة للحزب، غافلا أنه المحامي الذي ينبغي أن يعلم أكثر من غيره تبعات الادعاء أو البلاغ الكاذب دون سند أو قرائن مثبتة. فبدلا من إجراء مراجعة نقدية متأنية لتبين أسباب التعاظم المطرد للتجمع، يلجأ السيد بولص إلى حيلة تصدير أزمته على ذاك النحو المؤسف. وهي طريقة سهلة وسلاح ماض ومتاح للجميع، خاصة وأنه يعلم جيدا حجم ما قد نما إلى مسامعنا من أشباه تلك التقولات بحقه وغيره مما لا يحب أن يسمع، لكنها وسيلة غير أخلاقية نربأ عن توظيفها تحت أي حجة. جميعنا يعرف أن غياب مشروع خاص لأي تشكيل وطني يجعله عرضة للانحراف السياسي، وأن العمل الوطني المفتقد للثوابت هو انتهازية صرف، وأن الوطنية بدون أخلاق هي وطنية رثة ومهينة. لست أنصب نفسي داعية لمكارم الأخلاق، لكنني أود أن أذكر من هو بحاجة لمذكر أن المروءة فضيلة عليا في ثقافتنا، ولا ينبغي الاستهتار بقيمتها ووظيفتها الاجتماعية الهامة كما يحلو لبعض الفهلويين. ومن المروءة أن يعرف أحدنا حدود المسموح والممنوع والعيب، وأن لا يشتت حياتنا بتأثير مما يمكن أن نسميه "متلازمة عزمي بشارة" على سوية وعقلانية سلوكه. ففي بعض الأحزاب تورث هذه المتلازمة جينيا، تماما كما هي حال "متلازمة داون" لتجد حتى جيلهم الجديد يردد ذات الادعاءات وبنفس الحماسة واللذة كما لو أنهم رأوها رأي العين.

مع ذلك لم يكن قصدي من وراء هذا الملاحظة السريعة التموضع في تلك المساحة المتعبة والمثيرة للأعصاب، لأن الذي شدني أساسا في مقالته تلك هو ادعاؤه أن التجمع حينما ينسب لنفسه تمثيل الحركة الوطنية في الداخل، فهو بذاك ينفي صفة الوطنية عن غيره. ثم يبدأ صديقنا "يدب الصوت" ويعرض قائمة الشخصيات الحزبية من "حنا ومحمود وصليبا...واميل وعلي.." التي برأيه نتنكر لها، وهي عنده بمثابة حجر الزاوية الوحيد في وطنيتنا ووعينا وبقائنا...إلخ، في حركة بهلوانية تبدو كمن يختبئ وراء تلك الأسماء لشرعنة تقهقره عن مكتسبات الوعي الجمعي الحاضر إلى حصون الماضي المختلف التي شيّدها آباء الحزب الشيوعي الإسرائيلي حينما كان خطابه السياسي مهيمنا على ساحة الداخل.

بداية، لا حاجة بنا لتأكيد تقديرنا البالغ لتلك القيادة ولدورها الفعلي في اغتناء وتطوير مسيرتنا الوطنية، ولا شك في أننا نحفظ لها مساهماتها الهامة في الدفاع عن أبناء شعبنا وتقدم مشواره الكفاحي وبالذات في تلك الحقبة العصيبة من تاريخ شعبنا. مع ذلك، فهذه الكوكبة حملت تصورا واجتهادا وطنيا خاصا بها حيال قضيتنا المركزية، ومثلت بذلك وجها واحدا لمشوار البقاء والوعي الوطني والقومي، في مقابل تيار وطني جذري دفع بأغلى ما يملك لتثبيت ما نعرفه اليوم بالثوابت الفلسطينية وعلى رأسها حركة الأرض وأبناء البلد والتقدمية وأوساط شعبية مستقلة كثيرة. المشكلة يا صديقي ليس في تنكرنا لها كما تتوهم، وإنما في محاولات البعض لتغييب ومحو المساهمة النوعية للتيار الوطني وفرض روايته الخاصة والتي غالبا ما تشكو من التقديس والتضخيم والمزايدات. لا ضير أن تكون تلك الشخصيات الوطنية نبعك الصافي الوحيد لتشكيل وعيك السياسي والوطني، لكننا شربنا أيضا حتى الارتواء من ينبوع الحكيم (جورج حبش) وعرفات وأبو علي وأبو جهاد وحواتمه وغسان والكبيسي وناجي... وصولا هنا إلى صالح برانسي ومنصورالكردوش ومحمد ميعاري ومحمد كيوان وأبو هشام وأبو علي.. وممن امتلأت بهم السجون والمعتقلات.... وقد تطول القائمة بأسماء لا تعرفها لنفس السبب الذي ذكرته.

استخدامنا لمصطلح "الحركة الوطنية" يا سيد جواد ليس شتيمة أو مصادرة لوطنية الغير، بل هو توصيف لجوهر الخلاف بين تيارات فلسطينية الهوى والحزب الشيوعي الإسرائيلي فيما يتصل بالموقف من شرعية الدولة العبرية، وهو المفصل الذي شيّد الطرفان المتخالفان مفاهيمهم ورؤاهم المميزة حوله، بحيث اختار الشيوعي اعتبار دولة إسرائيل تجسيدا لحق تقرير المصير لليهود في البلاد، بينما رأت الحركات الوطنية استحالة ذلك لا من الناحية التاريخية ولا الوطنية ولا الأخلاقية، وعليه فإن كافة فعالياتها السياسية تستفيء وتستمد معالمها وانضباطها من هذا الجذر الرفضي القاطع.

بكلمات أخرى، وبغض النظر عن معطيات الواقع الفلسطيني المتشرذم وجبروت أعدائه وميزان القوى المختل، فإننا حين نستخدم مصطلح "الحركة الوطنية" فنحن عمليا نصف، من الناحية المبدئية، خيارات الانتماء التاريخي والسياسي لكل حركة وحزب فيما يتعلق بمكانة ودور ومستقبل جماهير الداخل، بانسجام كامل مع أهداف شعبنا الفلسطيني ومشروعه التحرري ممثلا بفصائله الوطنية ومرجعياته وثوابته. هو أيضا خيار يتشامل مع المشروع القومي ويرى بالمحيط العربي جزءا من الفضاء الطبيعي لمستقبله وليس الفضاء الإسرائيلي العربي اليهودي الموهوم (الأمة الإسرائيلية). وقد يكون من المفيد في هذا السياق توجيه عناية السيد بولص للمقالة اللافتة (حينما يجوع التاريخ) التي نشرها الشاعر الشهيد راشد حسين عام 1959، للتعرف على جذور وطبيعة هذا النقاش المزمن، وخاصة فيما يتعلق بعبثية شعار الشراكة العربية اليهودية والثمن المدفوع على مذبح قداسته، ومعاينة ومقارنة أرقامه التي لم تزل كذلك حتى يومنا هذا.

من هنا فإن التجمع الوطني وبصفته حزبا جماهيريا واسعا، وبفضل ثباته على تلك القيم الوطنية، ومساهمته الملموسة في تطوير خطاب مميز ومشروع سياسي خاص بجماهير الداخل بديلا عن المشروع الاندماجي التقليدي، فإنه يشكل بامتياز التيار الرئيسي المعبر عن تلك المدرسة وممثلا للحركة الوطنية في الداخل، وليس من قبيل الصدفة أن الغالبية الساحقة من حركة أبناء البلد والتقدمية قد أسهمت بتأسيسه جنبا إلى جنب مع ميثاق المساواة ورموز وطنية مستقلة، وهي ما زالت منضوية في قيادته وصفوفه، وكذلك غالبية أبناء الحركة الأسيرة في الداخل الفلسطيني، وبعد كل ذلك لم تسأل نفسك السؤال المنطقي والصحيح عن سبب دعم أسرانا للتجمع وأنت محام في وزارة الأسرى الفلسطينية!؟
 

التعليقات