01/05/2013 - 12:22

الحراك العربي والنظام الإقليمي الجديد../ علي جرادات

في ظل هذه اللوحة الغاية في التعقيد فتح الحراك الشعبي أفقاً لتغيير النظام الرسمي العربي، وإعادة بنائه على أسس جديدة. لكن التغيير هنا انطوى -منذ البداية- على صراع طويل الأمد متعدد الأوجه والأطراف

الحراك العربي والنظام الإقليمي الجديد../ علي جرادات

على وقع عامين ويزيد من الحراك الشعبي ما انفك النظام الرسمي العربي- بأشكاله ومسمياته: الوراثي والتوريثي، المعتدل والمقاوم، التابع والممانع،  يعيش حالة اهتزاز متصلة غير مسبوقة. اهتزاز شامل طال شرعية هذا النظام في المبنى والمعنى، في الشكل والمضمون، في السياسي والاجتماعي، في الوطني والديمقراطي. شمول اقتضاه -بتفاوت نسبي بين دولة عربية وأخرى- وقوع الشعوب العربية في براثن عقود من الاستبداد والطغيان وجبروت تحكُّم "السلطان" بـ"الرعية"، ومن العجز والتبعية والخضوع، ومن تفشي الفساد والفقر والبطالة والأمية، ومن القهر والقمع والإذلال وانتهاك الحريات العامة والخاصة والحط من الكرامة و....الخ من منتجات تغول سلطة الحكم خارج القانون، بل سلطة الحاكم الفرد، على المجتمع السياسي والمدني، بكل ما أفضى إليه ذلك من تجريفٍ لهذا المجتمع. تجريف بلغ حدَّ التصحر -بكلمات المفكرين المصريين- وخلق فراغاً كان من الطبيعي حدَّ البداهة أن يشكل مرتعاً لتنامي حركات الجهل والتخلف الديني والطائفي والمذهبي والإثني والجهوي والعشائري التي تنشرها وتغذيها-بالمال والمطبوعات والفتاوى- أنظمة تحالف المال النفطي والفكر السلفي الوهابي، والحركات السياسية الإسلاموية المحافظة الاستحواذية الإقصائية العابرة للحدود -مثل جماعة الإخوان المسلمين- المدعومة بالمال والسياسة من بعض إمارات الخليج العربي، ومن إمارة قطر بالذات. هذا ناهيك عن ما أنجبه كل ذلك، وتفرع عنه، من حركات التطرف والتكفير والإرهاب- مثل تنظيم القاعدة بفروعه ومسمياته. وهي الحركات التي تستخدمها- بنفاق فاق كل تصور- الديمقراطيات الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، أداة لنشر"الفوضى الخلاقة"، سواء بدعمها في مواجهة ما تريد إسقاطه من أنظمة - كما في سورية اليوم وأفغانستان قبل خروج السوفييت منها- أو بمحاربتها واتخاذها ذريعة للتدخل في شؤون الدول وانتهاك استقلالها وسيادتها-كما حصل في العراق وأفغانستان قبل غزوهما واحتلالهما أو كما يحصل في اليمن ومالي وليبيا اليوم.

في ظل هذه اللوحة الغاية في التعقيد فتح الحراك الشعبي أفقاً لتغيير النظام الرسمي العربي، وإعادة بنائه على أسس جديدة. لكن التغيير هنا انطوى -منذ البداية- على صراع طويل الأمد متعدد الأوجه والأطراف، ذلك للأسباب الأساسية التالية:

* عفوية انطلاق  هذا الحراك جعلته -سيرورة وصيرورة ونتائج- قابلاً لكل أشكال الارتداد والخطف والسرقة والتجويف والانحراف، بل وجعلت من الممكن ركوب موجته لإعادة إنتاج ما انتفض عليه من أنظمة بحلة جديدة تختلف في المبنى لا في المعنى، وفي الشكل لا في المضمون.  

* دموية معالجة الأنظمة لهذا الحراك أفضت إلى اتخاذه طابعاً عنيفاً- تفاوتت حدته بين بلد وآخر- بما في ذلك العسكرة  المدعومة خارجياً -بشكل مباشر ومعلن حيناً وغير مباشر وغير معلن في حين آخر- وهو ما أفضى إلى تجريد هذا الحراك من أهم أوراق قوته، أي سلميته وديمقراطيته ووطنيته.  

* تصدر حركات سياسية إسلاموية محافظة وأخرى متطرفة تكفيرية لمشهد هذا الحراك بعد انطلاقه حوَّله إلى مجال استقطاب وصراع حاد بين هذه الحركات التي ركبت موجته وبين الائتلافات الشبابية والقوى السياسية والمجتمعية الوطنية الديمقراطية التي أشعلت شراراته.

* سرعة وقسوة قمع بدايات هذا الحراك في البحرين وتجويفه في اليمن حالت -حتى الآن- دون انتقال عدواه-جدياً وكما يقتضي الواقع- إلى ممالك ومشيخات وإمارات الخليج العربي الأوْلى بالتغيير-بكل المعاني- بل، ومكنت حكامها- وهم الذين تجاوز التاريخ والعصر نظام حكمهم الوراثي -من تقمصِ دور سدنة وداعمي وناشري وممولي التحولات الديمقراطية في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وكل ذلك بدعم من، وتنسيق مع، الولايات المتحدة وحلفائها وتوابعها دولياً وإقليمياً.    

* دخول قوى دولية وإقليمية بقيادة الولايات المتحدة على خط هذا الحراك حولته -بدرجة كبيره-  من صراع في بلدانه إلى صراع عليها، بل وعلى المنطقة العربية وغلافها الشرق أوسطي والإفريقي. 

إزاء كل ما تقدم كان من الطبيعي أن تعمل الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل على ألا يسفر هذا الحراك عن انقلابات سياسية بعيدة المدى من شأنها المس بمصالحهما وسيطرتهما ونفوذهما الإستراتيجي في المنطقة.

وكان من الطبيعي أكثر أن تعملا- سراً وعلناً- على استغلال تحولات هذا الحراك لتفكيك النظام الإقليمي القائم في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة صياغته بحيث يكون لإسرائيل الدور الأساس فيه، سياسة واقتصاداً وأمناً، وذلك ليس فقط على حساب الدول العربية مجتمعة، والكبيرة الأساسية منها بالذات، بل أيضاً على حساب إيران بوصفها دولة إقليمية أساسية تمتلك مشروعاً قومياً طموحاً ينافس -بقوة- الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، ما يفسر تنامي الغزل الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي مع تركيا، من جهة، والتصعيد الأمريكي الإسرائيلي ضد إيران، من جهة ثانية، والجهود الأمريكية المكثفة لقيادة تحالف سياسي يضم- بالإضافة إلى تركيا و"دول الاعتدال العربي"- إسرائيل، إنما دون إعلان، من جهة ثالثة.  بهذا كله دخلت منطقة الشرق الأوسط، وقلبها الوطن العربي، محطة حاسمة من الصراع السياسي على رسم ملامح  نظام إقليمي جديد. صراع ينطوي على احتمال وقوع حرب ما انفكت إسرائيل والولايات المتحدة، تدقان طبولها، ليس فقط لتعزيز سيطرتهما على ما يخطط له من نظام إقليمي جديد، بل أيضاً وأساساً لتهميش قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية منها بالذات، والعمل على تسويتها، وبالأحرى العمل على تصفيتها، وفقاً لرؤيتهما وشروطهما.

إزاء هذه الحال الكاشفة والفاضحة لـ"قديم" السياسة الرسمية العربية، صارت سياسة "جديد" أنظمتها تحت الاختبار. وبقدر ما يتعلق الأمر بمصر بوصفها الدولة العربية الأهم لأسباب غنية عن الشرح، يمكن القول: لئن كان من التهور مطالبتها بالدخول في مغامرات غير محسوبة العواقب فيما المطلوب التركيز على معالجة قضايا وضعها الانتقالي الكبيرة والثقيلة، فإن من غير الطبيعي السكوت عن استمرار تبعية سياسة نظامها "الجديد" تجاه قضايا الأمة، وأولاها القضية الفلسطينية، للسياسة الأمريكية، ولما تمليه عليها اتفاقية كامب ديفيد وشروط ملاحقها الأمنية من قيود ثقيلة ومذلة. لكن يبدو أن النظام المصري "الجديد" ليس في وارد اتخاذ خطوات نوعية من شأنها التأسيس لسياسة خارجية جديدة ومختلفة عن سياسة النظام السابق. وهذه نتيجة طبيعية مادامت جماعة "الإخوان" الحاكمة في مصر ترى في إسرائيل "دولة مجاورة" ليس إلا. وما دامت تتبنى سياسة اقتصادية تقوم على الاقتراض والاستدانة والمعونات والمساعدات المالية الأجنبية الكابحة للاستقلال والسيادة في الاقتصاد والسياسة والأمن. وما دامت تعبث بوحدة الصف الوطني السياسي والمجتمعي المصري- بشكل أسوأ من النظام السابق- بينما يستحيل استعادة هذه الوحدة إلا بتوافر شرطها الأساس، (الديمقراطية السياسية والاجتماعية)، الغائب أصلاً عن ذهن جماعة "الإخوان المسلمين" التي ما انفكت تشكر الولايات المتحدة على دعم الحراك الشعبي العربي وتطالبها- كقائد لحلف الناتو- بالتدخل العسكري في سورية. هكذا بالضبط قال-علناً وصراحة- مفتي الجماعة الأول، الشيخ القرضاوي، في آخر تصريح له.
 

التعليقات