04/05/2013 - 12:38

في الطريق إلى القطب الديمقراطي السوري../ ميشيل كيلو

أخيرا: هناك من يراهن على فشل لقاء القاهرة: لهؤلاء أقول: إذا فشل اللقاء، فإن فشله لن يكون فشلا لمن دعوا إليه وشاركوا فيه، بل فشلا للديموقراطية السورية بكل أطيافها، التي أظهرت خلال العامين الماضيين من عمر الثورة أنها عاجزة عن الخروج من مأزق خطير نجم عن اضطهادها من جهة، وافتقارها من جهة أخرى إلى إرادة موحدة ورؤية واضحة وعزيمة تتخطي بفضلها واقعها البائس!

في الطريق إلى القطب الديمقراطي السوري../ ميشيل كيلو

أثارت الدعوة إلى عقد لقاء في القاهرة يضم ديموقراطيات وديموقراطيين سوريات وسوريين لمناقشة وتلمس أسس ومبادئ تنظيمية / سياسية لإقامة كيان أو قطب أو محور أو تكتل أو تجمع يضم الديموقراطية السورية بعد عقود من الشتات والتبعثر، قدرا كبيرا من الاهتمام، وأيَّدها جمع واسع من الخلق بينما تعالت أيضا أصوات معارضة، تراوحت بين النقد المتفهم والتجريح المتجني، في حين أثيرت تساؤلات عن التسرع والتفرد في عقد اللقاء، والغرض منه، ذهب بعضها إلى كونها ستركز أساسا على تحسين فرص بعض الجهات في الدخول إلى "الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، وعزاها آخرون إلى تحسين وضع التيار الديموقراطي في حوار مزمع مع "الاخوان المسلمين". وقالت أصوات متفرقة إن بعض الطامحين إلى الزعامة يقفون وراءها، بدعم من رجال أعمال سوريين من العيار الثقيل. ولم يَخلُ الأمر من أصوات تخوينية رأت أن "القطب الديموقراطي" سيؤسس بدعم من أطراف في النظام تريد قطع الطريق على محاولات إقامة تنظيمات موحدة تنبثق عن "الجيش الحر"، وأن "الداخل لن يؤيد هذا المسعى وسيعاقب الآثمين الخونة المنخرطين فيه". وفي الختام، قال بعض "العارفين": إن المحاولة تستهدف بناء تكتل يفاوض النظام، الذي لا يجد الآن من يفاوضه.

لا علاقة على الإطلاق للدعوة إلى لقاء القاهرة بأي شيء مما سبق. ولا علاقة له بـ"الإئتلاف" أو بـ"الجيش الحر"، ما دامت فكرة بناء مركز ديموقراطي موحد سابقة بفترة جد طويلة لقيام "الائتلاف"، وليست المعارضة الديموقراطية اليوم ولن تكون غدا بديلا أو منافسا لـ "الجيش الحر"، لأسباب كثيرة أبرزها أنها معارضة سياسية وهو جيش سيكون بالتأكيد تابعا للدولة وخاضعا لإستراتيجيتها السياسية العليا، وليس طرفا سياسيا يتنافس مع الأحزاب والقوى العاملة في الحقل السياسي اليومي، إلا إذا أراد العودة إلى زمن الانقلابات والفوضى، وفي هذه الحال سيكون هو بديل الأحزاب وليس العكس، كما تؤكد تجربة نصف القرن الماضي وما سبقها من انقلابات عرفتها سوريا. كما أن الحوار مع "الاخوان" لا يتطلب تبديد جهود المحاورين الديموقراطيين على غير مواضيعه ومادته، والقيام بـ"لفة" هائلة لا علاقة لها به إطلاقا، لن يكون لها أي تأثير جدي فيه.

يعتبر توحيد الصف السياسي الديموقراطي هدفا إستراتيجيا يتخطى السياسة كفاعلية إجرائية مباشرة، يتطلب تحقيقه فترة غير قصيرة وخطوات متعاقبة، متماسكة وبعيدة المدى، بينما ليست العلاقة مع الائتلاف وليس الحوار مع "الاخوان" غير سياسة مباشرة بالمعنى الحرفي للكلمة. لذلك، لا يعقل أن توضع إستراتيجية عليا في خدمة خطوات سياسية جزئية أو آنية أو تكتيكية، والأصل أن يحدث العكس: أن توضع الأخيرة في خدمة الأولى. وللعلم، فإنها منفصلة اليوم انفصالا تاما عنها، فاللقاء القاهري لن يبحث مسألة الانضمام إلى "الائتلاف" أو الحوار مع "الاخوان" أو غيرهم، وليس من مهامه دفع أحد إلى "إئتلاف" يفتقر افتقارا واضحا إلى توازن وطني، ويقف على ساق واحدة هي فضلا عن كل شيء، ساق عرجاء. إن مطلب البيان الذي أصدره بعض المثقفين في القاهرة قبل قرابة شهر كان التوازن الوطني في الائتلاف والحكومة، في حال تم تشكيلها، وصياغة وثيقة موحدة بين التيارين الإسلامي والديموقراطي تلزمهما بعدم انفراد أي منهما بالسلطة خلال مرحلة الانتقال مهما طالت، على أن يعقب ذلك حل "المجلس الوطني" لأنه سيكون بلا وظيفة غير التشويش على "الائتلاف" المتوازن وطنيا وعلى شرعية مؤسساته، والمحافظة على موقع يحتل فيه الطرف الإسلامي في العقد المؤسس للتوازن الوطني أغلبية وازنة لن يترتب عليها غير الإخلال الشديد بهذا التوازن والالتفاف عليه.

ينطلق لقاء القاهرة من فكرتين رئيستين هما:

أولا: استحالة بناء كيان ديموقراطي سوري بجهود طرف واحد من الأطراف الديموقراطية، مهما بلغ من القوة والعدد، ومهما كانت قدراته التنظيمية والسياسية والمالية عظيمة وفاعلة. في الوضع الراهن، يستحيل على أي طرف أو تنظيم أو تجمع بناء قطب ديموقراطي سوري، مثلما يستحيل على أي حزب أو تيار أو طرف إسقاط النظام بمفرده. هذا يجعل التعاون بين جميع أطياف العمل الديموقراطي أمرا حتميا، إن كنا نريد حقا تخطي حال التمزق والشقاق الراهنة وتغيير الساحة السياسية لصالح الديموقراطية السورية، ويعني أن كل من يحاول توظيف المحاولة لأغراض شخصية أو حزبية أو جزئية يسهم في فشل المحاولة ويضيف صعوبات إلى ما يكتنفها ويحيط بها من صعوبات كثيرة جدا. إن أي جهد استبعادي أو إقصائي يقوم به أي طرف سيكون خيانة للمشروع الديموقراطي، ولن يخدم غير خصومه. ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى الوفاء لمشروع يبدو في حال يرثى لها، لأسباب منها توهم طرف من الأطراف أن بوسعه إقامته بمفرده.

ثانيا: لن يتم بناء القطب أو التجمع أو الكيان بضربة واحدة، بلقاء أو مؤتمر واحد، ولو حضره جميع ديموقراطيات وديمقراطيي سوريا بلا استثناء. وصلت الديموقراطية السورية إلى مأزقها الراهن خلال عقود تراكم فيها العجز وتتالت الأخطاء، فلا عجب أن عجزت أطيافها المعارضة عن صياغة برنامج سياسي للثورة، أو عن تولي قيادتها، أو عن التفاعل مع شارع رفع شعاراتها وتبنى أهدافها، بقيت غريبة عنه فابتعد عنها، وها هي تقف عاجزة وضعيفة وسط صراع هائل يعصف بسورية، يشارك فيه ملايين المواطنات والمواطنين، دون أن تسارع هي إلى بذل جهود منظمة وجامعة تساعدها على مبارحة عجزها وتشتتها وضعفها، أو التوقف عن خوض صراعات خفية وعلنية بعضها ضد بعض، تحاول كل جهة فيها حرق أوراق وسمعة غيرها، مما يبعدها جميعها عن المطلوب: أن تكون ديموقراطية أولا، وتسهم في إخراج العمل الديموقراطي من مأزقه التاريخي والحالي العصيب ثانيا، وتتجه نحو بناء مركز ديموقراطي موحد أو تعاوني أو تنسيقي او تجميعي او تصالحي... الخ ثالثا.

ليس هدف لقاء القاهرة بناء القطب الديموقراطي، بل الإعلان عن الرغبة في بنائه والالتزام العلني والصريح بذلك. وبما أن إقامة المركز أو القطب محال بأيدي من سيحضر اللقاء وحدهم، فإن خير ما يفعله هؤلاء يكمن في فتح الطريق لعمل مشترك لا يستبعد أحدا، تشارك فيه جميع أطياف الديموقراطية السورية، فلا ينوب فيه أحد عن أحد أو يتخطاه، يتركز على إقامة علاقات تفاعلية صحية وثابتة بينها، تمكنها من تلمس مشترك لأسس ومبادئ وضرورات إقامة المركز أو القطب، ولترجمتها إلى واقع فعلي له حامل مجتمعي حقيقي، فلا يبقى قطب تنظيمات وشخصيات، وإنما يصير تعبيرا سياسيا فاعلا عن كتلة مجتمعية هائلة خيارها الحرية والديموقراطية، تفتقر اليوم إلى تعبير سياسي، في حين تصمت كتلتها الأكبر إما لأنها موضوعة خارج الصراع المحتدم، أو لأنها مخوفة أو خائفة أو عازفة عن حمل السلاح أو رافضة للعنف المتصاعد ... الخ، فإن استمرت حال المعارضة السورية الراهنة، تبنت قطاعات واسعة من جماهيرها المفترضة خيارات غير ديموقراطية، خاصة أن أقساماً وازنة منها تتكون من فئات بينية سبق لها أن تبنت خيارات فاشية في تجارب تاريخية عديدة انتهت بكارثة، ولا يستبعد إطلاقا أن تجنح إلى التطرف والأصولية، إن بقيت بلا صوت أو هوية سياسية، ولم تجد من يساعدها على تحقيق مطالبها من الثورة: الحرية والعدالة والمساواة، والنظام الديموقراطي.

هل يجوز أن تكون الكتلة الديموقراطية الخام موحدة، بينما الكتلة الديموقراطية السياسية مجزأة ممزقة متصارعة متهافتة؟ هذا هو السؤال، الذي علينا إيجاد أجوبة عملية عليه، بجهود الجميع ودون أي إقصاء، علنا ننجح خلال الأعوام القليلة القادمة في تأسيس مركز أو قطب أو تجمع ديموقراطي يشكل بديلا للخيار الإسلامي المتشدد، ليس فقط في الساحة السياسية، وإنما كذلك على صعيد المجتمع: ضامن تطور سوريا نحو نظام يضع حدا لمعاناة وآلام شعب قدم مئات آلاف الشهداء والجرحى والمعوقين وملايين المشردين والجياع على مذبح الثورة، ومن غير المعقول أو المقبول أن تخذله قوى عارضت نظامه خلال نصف قرن على وجه التقريب، وعندما جاءت ساعة تحقيق الحرية فشلت في مد يد العون له، وتركته فريسة تيارات استبدادية، مذهبية أو وظيفية، ولم تسارع إلى توحيد رؤيتها وصفوفها وإرادتها، وإنما انغمست في مزيد من خلافات ليس لها أي عائد وطني أو ديموقراطي، تعمقت بعد الثورة بفعل مواقفها العدائية بعضها ضد بعض، وتناقض التزاماتها ورؤاها ومواقفها العملية، بدل أن تتخلص منها أو تضعفها: لتكون جديرة بالدور الذي ينتظرها.

سيشكل لقاء القاهرة لجنة اتصال لا لكي تقود الآخرين أو ترشدهم أو تطلب منهم السير وراءها، بل كي تمد يدها إليهم وتعمل مع أطيافهم الديموقراطية مجتمعة ومنفردة من أجل وضع وثائق وبرامج تسبق عقد مؤتمر وطني جامع تنجزه سائر القوى الديموقراطية وتنتخب خلاله قيادة وهيئات تنسيقية ومكاتب تمثيلية داخل الوطن وخارجه، يتجسد فيها التعبير المنظم والشامل عن الكتلة المجتمعية الديموقراطية، التي ستقرر بوحدتها مصير بلادنا، بما أنها حامل بديل ديموقراطي تشاركنا وعملنا يدا بيد لإقامته.

أخيرا: هناك من يراهن على فشل لقاء القاهرة: لهؤلاء أقول: إذا فشل اللقاء، فإن فشله لن يكون فشلا لمن دعوا إليه وشاركوا فيه، بل فشلا للديموقراطية السورية بكل أطيافها، التي أظهرت خلال العامين الماضيين من عمر الثورة أنها عاجزة عن الخروج من مأزق خطير نجم عن اضطهادها من جهة، وافتقارها من جهة أخرى إلى إرادة موحدة ورؤية واضحة وعزيمة تتخطي بفضلها واقعها البائس!

"السفير"
 

التعليقات