20/06/2013 - 12:52

سورية: من المسؤول فعلا عن هذا التفاقم الفادح؟../ د. بشير نافع*

بالرغم من مرور كل هذا الزمن على اندلاعها، لم يهدأ الجدل العربي حول الثورة السورية. منذ الأسابيع الأولى للثورة، اختلف العرب، أو على الأقل نخبتهم، من كتاب وعلماء وصحافيين وشخصيات عامة وسياسيين، حول الثورة بصورة بالغة الحدة، لم تسمح ولو بقليل من العقلانية والمنطق

سورية: من المسؤول فعلا عن هذا التفاقم الفادح؟../ د. بشير نافع*

بالرغم من مرور كل هذا الزمن على اندلاعها، لم يهدأ الجدل العربي حول الثورة السورية. منذ الأسابيع الأولى للثورة، اختلف العرب، أو على الأقل نخبتهم، من كتاب وعلماء وصحافيين وشخصيات عامة وسياسيين، حول الثورة بصورة بالغة الحدة، لم تسمح ولو بقليل من العقلانية والمنطق. ولأن المسألة السورية ما لبثت أن أصبحت أكثر تعقيداً وتفاقماً، فإن منعطفات الأزمة سرعان ما انعكست على هذا الجدل، وذهبت به إلى حالة من الانفجار المتكرر، حيث توزع النعوت بلا حساب، وتعاد التصنيفات بمجانية بالغة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، عاش المجال العربي واحدة من انفجارات الجدل هذه، بعد أن أقر حزب الله بتدخله في سورية إلى جانب قوات النظام. تواجد الحزب، بالطبع، في ساحة الأزمة السورية منذ بداية الثورة، ولكن دوره ما كان من قبل بهذا الوضوح والاتساع والصرامة. ولم يكن غريباً، بالتالي، أن يستدعي هذا الدور ردود فعل لا تقل اتساعاً ووضوحاً وصرامة. وبذلك، عاد الجدل إلى انفجاره الدوري.

طوال الشهور الماضية من هذا العام، وعلى الأقل منذ زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للقاهرة للمشاركة في مؤتمر القمة الإسلامية، صنف أنصار النظام السوري وحلفاؤه مصر تصنيفاً إيجابياً. كان مرسي بدأ دخوله إلى ساحة الأزمة السورية في آب/أغسطس الماضي بطرح مبادرته الرباعية، التي تضمنت لقاء القوى الإقليمية الأربع الرئيسية، مصر، السعودية، إيران وتركيا، للتوصل إلى حل سياسي للأزمة، يوقف نزيف الدم، يحافظ على مقدرات سورية، ويستجيب لآمال الشعب وطموحاته. لم تستجب السعودية للمبادرة، كما هو معروف، على أساس أن لا فائدة من الحديث مع الإيرانيين، ولكن مرسي استمر في مبادرته. الأهم من ذلك، أن الرئيس مرسي، في سعيه لإعادة بناء دور مصر الإقليمي، وفتح قنوات الاتصال المختلفة إقليمياً، وربما لأسباب اقتصادية ومالية، أرسل رئيس وزرائه إلى العراق، حليف إيران الرئيسي في المشرق، وأطلق دفئاً جديداً إلى شرايين العلاقات الإيرانية المصرية. ولكن سورية ظلت هدف مرسي الأهم؛ وهو ما دعاه لإرسال مساعده للشؤون الخارجية إلى طهران في الشهر الماضي، في محاولة أخيرة للتوصل إلى إطار حل؛ في الوقت الذي حافظت القاهرة على علاقات مع دمشق على مستوى القائم بالأعمال. جلبت جهود مرسي السياسية رضا أنصار النظام وحلفائه، الذين لم يأخذوا في الاعتبار أن الرئيس المصري لم يقصد مطلقاً أن تكون جهوده بلا نهاية، وأن أهدافه في سورية لم تتغير منذ بدأ حملته الانتخابية.

عندما كان مرسي مصنفاً في خانة الأصدقاء، لم يخف حلفاء النظام وأنصاره تقديرهم للرئيس الإخواني الذي يقود سياسة مستقلة لبلاده، إقليمياً ودولياً، وتجاهلوا وجود السفير الإسرائيلي في القاهرة، الموجود منذ عقود، على أية حال. ولكن، ما إن أعلن مرسي نفاد صبره من إمكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سورية، نظراً لإصرار حلفاء النظام على بقائه في السلطة، وألقى خطاب 15 حزيران/يونيو، الذي تضمن عدداً من الإجراءات، حتى انقلب تصنيف مرسي وتوصيفه. فجأة، رأى حلفاء النظام وأنصاره السفير الإسرائيلي، وكيلت للرئيس المصري وللإخوان المسلمين اتهامات العمالة للولايات المتحدة، والانضواء في معسكر الخونة للقضية العربية والإسلامية.

ولم تنج حماس من حمى الجدل المتصاعد. كانت قيادة حماس قررت الخروج من دمشق مبكراً، بعد أن أصبح البقاء في العاصمة السورية مكلفاً، سياسياً وأخلاقياً؛ ومنذ خروجها من دمشق، التزمت التوكيد على انحيازها للشعب السوري وحقه في الحرية والعدل، وتجنبها التدخل في الشأن السوري الداخلي بأي صورة من الصور.

مؤخراً، وكما هيئات عربية وإسلامية إخرى، أصدرت حماس بياناً، طالبت فيه حلفاءها في حزب الله بالانسحاب من سورية، والتوجه نحو فلسطين. خلال ساعات قليلة من صدور البيان، اتهمت حماس بالتخلي عن المقاومة، والارتهان للمخططات الأميركية في المنطقة؛ ولا يستبعد، أن تتطور الاتهامات في الأيام المقبلة لتسم حماس بالانحياز لمعسكر التكفيريين، وحماية المصالح الصهيونية في المنطقة. وفي واحدة من أعظم مفارقات الجدل العربي حول سورية، ولأن كل من يقف إلى جانب النظام في سورية بات يعد من المقاومين، أصبح المالكي في المقابل زعيماً مقاوماً. والمدهش، أن رئيس الوزراء، الذي وصل إلى الحكم بفعل توافق أميركي إيراني، والذي لم يعرف تاريخ العراق الحديث أكثر منه طائفية وقصر النظر، يجد الآن من يروج لخطاباته المناهضة للطائفية.

في هذه اللحظة من انفجار الجدل والانقسام، وثقل وطأة مناخ الكراهية والاتهامات المجانية، يستحسن، ربما، العودة، مرة أخرى، إلى أصول هذه الأزمة:

1 ـ بدأت المسألة السورية بثورة، ثورة شعبية ضد النظام، ولم يكن هناك في شهور الثورة الأولى ثمة أزمة، لا إقليمية ولا دولية؛ الأزمة الوحيدة كانت أزمة النظام في علاقته بشعبه. ولم تكن الثورة السورية حدثاً استثنائياً، بعد أن سيطر مناخ الثورة الشعبية على أرجاء المجال العربي، بدأت بتونس، وامتدت سريعاً إلى مصر وليبيا واليمن، ولم تفلت منها المغرب والجزائر والأردن. كما أشقاؤهم في الدول العربية الأخرى، نهض السوريون لتصفية الحساب مع قرن من الإهانة التي أوقعت بالعرب، ونصف قرن، على الأقل، من حكومات الأقلية السياسية والاجتماعية والطائفية، التي هيمنت على دولة ما بعد الاستقلال الوطني بالحديد والنار، احتكرت الثروة، وعصفت بكرامة الشعب وحقوقه. ولكن ما بدأ ثورة سلمية، تحول في النهاية، بفعل العنف المفرط والقمع الوحشي، إلى ثورة مسلحة؛

2 ـ رصدت مشاهد التسلح للمرة الأولى في نهايات آب/أغسطس 2011، ولكن مواجهات فعلية مسلحة بين عناصر النظام الأمنية وشبيحته ووحدات جيشه لم تسجل حتى نهاية العام. كان هدف المسلحين الأول حماية أحيائهم وقراهم وبلداتهم، أهلهم وحرماتهم، من تعديات قوات النظام؛

3 ـ ليس ثمة دليل واحد على أن قوى خارجية، عربية أو دولية، لعبت أي دور في اندلاع الثورة السورية أو مجرياتها. كانت القوى الغربية أظهرت قدراً واضحاً من الارتباك في التعامل مع الثورتين التونسية والمصرية، ولكنها لم تلبث أن أدركت عمق وقوة واتساع حركة الثورة العربية، وأخذت في الإعراب عن تأييد عمومي لمطالب الشعوب في الحرية والديمقراطية والكرامة، بدون أن تتدخل بصورة ملموسة في مسار الثورات. أما الدول العربية، فقد انقسمت مواقفها بصورة واضحة من حدث الثورة ككل، وبصورة أكثر وضوحاً في الموقف من كل ثورة على حدة. الأقلية فقط بين الأنظمة العربية، ولأسباب لا تخفى، أظهرت تعاطفاً مع فكرة التغيير السياسي في المجال العربي. بكلمة أخرى، كل الحديث عن مؤامرة أميركية على هذه الدولة العربية أو تلك، من الدول التي تعرضت لرياح الثورة والتغيير، بما في ذلك سورية، ليس سوى نمط من الدعاية السياسية؛

4 ـ بيد أن تحول الثورة إلى مقاومة مسلحة مثل متغيراً رئيسياً في طبيعة المواجهة، وفي تورط القوى الإقليمية والدولية. تحول التأييد السياسي، الروسي والإيراني، للنظام إلى تأييد اقتصادي وعسكري، سيما بعد أن طال أمد المواجهة، وأصبح الجيش السوري في حاجة ملحة للذخائر وقطع الغيار، والمعدات الضرورية لمحاربة شعب ثائر في المدن والقرى، وإلى دعم مالي متزايد للحفاظ على ماليته العام من الانهيار. إلى جانب ذلك، وفرت إيران وروسيا استشارات تقنية وفنية وعملياتية لإدارة المعركة. ومنذ النصف الثاني لـ 2012، وفي بؤر صغيرة ومحددة، بدأت مجموعات صغيرة من حزب الله تلعب دوراً ما في المواجهة مع الثوار السوريين. في المقابل، لم تقدم الولايات المتحدة، ومعها الدول الغربية الأخرى، للشعب السوري سوى الدعم البلاغي. وحتى كتابة هذا المقال، لم يقع أي تغيير ملموس في موقف الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى من الثورة، بالرغم من حجم التدخل الروسي الإيراني، ومن إعلان حزب الله الرسمي عن المشاركة في القتال، ومن إعلان واشنطن ولندن وباريس عزمها تقديم سلاح ما للمعارضة؛

5 ـ هناك الآن دور تسليحي تتعهده السعودية وقطر وتركيا؛ ولكن هذا الدور بدأ متأخراً وبصورة محدودة، ولم يزل كذلك. الحقيقة، أن مواقف الأغلبية العظمى من العرب، دولاً، شخصيات عامة وعلماء وقوى سياسية وكتاباً، ممن يقف اليوم إلى جانب الشعب السوري وثورته، تطورت ببطء وحذر شديدين. نظراً للدور الذي تلعبه سورية في التوازن العربي مع الدولة العبرية، لموقع سورية وتأثيرها، لم يطالب أحد في البداية بسقوط النظام، مع أن الحركة الشعبية حسمت موقفها من النظام بعد أسابيع قليلة على اندلاع الثورة. كانت قطر وتركيا تعتبر ضمن الدول الحليفة ووثيقة الصلة بالنظام؛ وبالرغم من الخلافات المتقطعة بين دمشق والرياض حول لبنان، فإن علاقات الدولتين، ذات الجذور العميقة، لم تكن غير طبيعية في شهور 2011 الأولى. حاولت هذه الدول في البداية إقناع النظام بالاستجابة لمطالب شعبه، متوسلة ليس فقط بعلاقاتها الوثيقة معه، ولكن أيضاً بمغريات مالية واقتصادية وتنموية ضخمة. مع نهاية 2011، وتصاعد مستويات العنف وأعداد الضحايا، اليأس من قدرة النظام على مقابلة الشعب في منتصف الطريق، وتزايد الأدلة على التدخل الإيراني في الشأن السوري، أخذت تركيا وقطر والسعودية، ومن ثم باقي دول الخليج الأخرى، في حسم موقفها من النظام. ولكن الموقف السياسي لم يترجم إلى دعم ملموس للشعب والثوار. والمؤكد أن أول مساعدات عسكرية قدمت للثوار في سورية من الدول الثلاث، لم يبدأ قبل نيسان/ابريل أو ايار/مايو 2012، وأن هذا الدعم لم يزل من المستوى النوعي المنخفض، ولا يؤهل الثوار السوريين لحسم المعركة مع النظام، بالرغم من التقدم الكبير الذي حققه الثوار في شمال وشرق وجنوب البلاد؛

6 ـ لم ترسل أية دول عربية، ولا حزب أو تنظيم شرعي، في معسكر المؤيدين للشعب والثورة، متطوعين للالتحاق بألوية وكتائب الثورة، ولا تعهدت حملة لتنظيم التطوع أو شجعت عليه. ثمة متطوعون غير سوريين في صفوف الثوار، بالطبع، ويصعب حصر عدد هؤلاء، على أية حال، بالرغم من أن التقديرات تشير إلى أعداد قليلة وغير ذات أثر على التوازنات العسكرية. وقد وفد هؤلاء إلى سورية بصورة فردية، وبدوافع متعددة، إسلامية، في أغلبها، ولكن عروبية وأخلاقية إنسانية أيضاً. الجهة الوحيدة، ذات الصفة الاعتبارية، التي تشارك في القتال هي حزب الله، والدول التي تتواجد بصورة أو أخرى، كخبراء واستشاريين، ربما، هي إيران وروسيا. وهؤلاء جميعاً يقاتلون إلى جانب قوات النظام، أو يوفرون العون والمساندة لقواته.

فمن المسؤول عن إيصال سورية إلى ما وصلت إليه، ومن المسؤول عن هذا التفاقم المتزايد في مجريات الأزمة السورية وأثرها على الجوار المشرقي؟
"القدس العربي"

التعليقات