10/12/2013 - 18:51

الغزو والإلغاء:ما وراء برافر../ أحمد. م. جابر

(المضمون: برافر ليس مجرد مخطط هيكلي.. أو نزعة مارقة للسلب.. بل هو في جوهر الفكرة الاستعمارية الصهيوني.. وجوهر عقلية الإلغاء والتطهير العرقي)

الغزو والإلغاء:ما وراء برافر../ أحمد. م. جابر

"وكلم الرب موسى في عربات مؤاب على أردن أريحا قائلا: كلم بني إسرائيل وقل لهم أنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاته، تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها وتقتسمون الأرض بالقرعة حسب عشائركم.... (الخ)" (التوراة- سفر العدد- الإصحاح (50-56).

برافر ليس مجرد خطة عابرة في سياق الاحتلال المتواصل، بل ليس مجموعة مخططات، من حيث الجوهر هو مواصلة لجريمة لم تتوقف أبداً جوهرها الاستيلاء على الأرض وتطهيرها من سكانها الأصليين.

لسنا هنا بصدد توثيق أهمية النقب للفلسطينيين، ومخاطر تهويده، أو توثيق من هو ساكنه الأصلي، فذلك موضوع مواز وأساسي آخر، ولكن سنستعرض بداية لماذا يعتبر العرب من سكان النقب مشكلة لإسرائيل ولماذا النقب مهم لإسرائيل؟

منذ البداية اختارت سلطات دولة الاحتلال التعامل مع قضية (تطوير النقب) المزعومة انطلاقا من (مشكلة البدو) باعتبارهم عائقاً. وبالتالي أصبح مجلس الأمن القومي منذ 2005 هو الجهة المعنية بهذه (المشكلة)، ودأب عل اعتبارهم "مادة متفجرة" وتهديدا للدولة. والمخاطر المصنفة من ناحيتهم تشمل تنامي تأثير العناصر الإسلامية المتطرفة، وسيطرتهم على مساحات هائلة (بحكم نمط حياتهم بالأصل)، وأهم من ذلك كله المشكلة الديمغرافية، وتضاعف أعدادهم منذ النكبة بما يفشل مخططات التفريغ والاحلال.

وفي النقطة الأخيرة تكمن مخاطر مشروع برافر وأي مشروع شبيه، وبالذات عندما تتسرب معلومات عن نوايا مشابهة تجاه الجليل.

هناك آراء مختلفة حول جوهر الاستعمار أكثرها تشدد على المحتوى الاقتصادي للاضطهاد، وإضافة لذلك نرى أن جوهر الاستعمار يتشكل أيضا باعتباره حطا من مكانة الآخر، وربما إبادته، ومن هنا.. من الاقتصاد والعنصرية التطهيرية يستمد (النقب) أهميته لإسرائيل، وبالتنقيب فيما وراء الكواليس ربما ستكشف الأيام المحدد الاقتصادي الرأسمالي الإضافي وراء خطط التطوير المزعومة. الأهمية الاقتصادية يضاف إليها أهمية إستراتيجية، إذ تعتبرها إسرائيل نقطة ضعف ديمغرافية مكشوفة، لذلك يعتبر النقب بالمفهوم الاستعماري مجالا حيويا شديد الأهمية للكيان ليس من ناحية تعزيز مكامن قوته وتركيم موارده فقط بل لجهة بقائه بالذات.

والنقب يمثل مشكلة لإسرائيل إذ يعتبر سكانه العرب  تهديداً  حقيقياً للمخطط الصهيوني، مخطط التطهير العرقي القائم على فكرة (أرض أكبر عرب أقل). وبالطبع ثمة مراجع وافية حول المخططات الصهيونية للاستيلاء على النقب وتهويده منذ لجنة ألبك (بليئا ألبك 1975) مرورا بخطة (شارون-ليفني) وحتى خطة برافر – بيغن الحالية المعروفة بخطة برافر. لذلك تذهب هذه المادة إلى ما وراء الخطط المعلنة والعملياتية...

الحركة الصهيونية هي ظاهرة استعمارية، قامت على الغزو والفتح والاضطهاد كما أثبت تاريخها، وقد تبين أن كل مفكريها المؤسسين وسياسييها اللاحقين وضعوا الاستعمار والغزو كأولوية لتحقيق أهدافهم وجنونهم في آن معا.

وإذا كان الغزو الصهيوني لفلسطين، أحد مشتقات الغزو الأوربي الاستعماري لـ "القارات الثلاث" فإنه أضاف للاستعمارية الكلاسيكية بعدا لاهوتيا جديدا يجعل من فلسطين الأرض التي وعد الله بها "الشعب اليهودي" فالصهيونية استعمار استيطاني خاص يقيم الغزو على أساس الدين  والسلالة وبشكل أوحد على أساس الامتياز العنصري. أليست تلك كلها عناصر الغزو الفاشي لأوروبا، ألم تكن هي العلامة المتميزة للفاشية الإيطالية التوسعية.

وهكذا تتلخص في فكرة الاستيطان عناصر الفاشية جميعها، وحدة الأرض والعرق والتمييز العنصري والإبادة.

وإذا كانت العنصرية هي دين المستعمر الذي لا خلاص له منه، لم يكن بمقدور الصهيونية أن تكون خارج هذا الإطار أن تجد حلا لمأزقها الاستعماري، سوى العنصرية وافتراض تأخر الشعب الآخر، وتأصل هذا التأخر في دمه وعنصره، هكذا يخطب بن غوريون عام 1956 في مؤتمر  ماباي "إن رسالتنا التاريخية تتلخص في أن نكون شعبا مختارا، وتقيم موديلا جديدا من المجتمع وفقا للقيم الخلاصية لأنبياء إسرائيل ونبوءتهم بيوم الحساب" ويكون "اليهود هم أحد الشعوب المتميزة القليلة التي لعبت دورا فريدا في تاريخ البشرية".

ومن هذه الرؤية لم تكن كتابات هرتزل خارج السياق المبكر للأحداث، هو الذي يخلق مناخاً من التشدد متحدثاً عن "محاربة" العداء للسامية و"غزو الأرض" و"الاستيلاء على الجاليات اليهودية في الشتات" وتنبأ باستيلاء تدريجي على الأراضي وطرد السكان في النهاية، وما الذي يقوله وزير خارجية الكيان ليبرمان تعليقا على تظاهرات الغضب ضد مخطط برافر: "إن ما يحدث اليوم يثبت أن شيئا لم يتغير منذ الأيام الأولى للاستيطان اليهودي في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، فنحن نحارب من أجل أراضي الشعب اليهودي وهناك من يحاولون عن سابق قصد وإصرار سرقة هذه الأراضي والسيطرة عليها بالقوة.."!. وتذهب رئيسة لجنة الداخلية ميريت ريجيف حد وصف المتظاهرين العرب بأنهم "حفنة خطيرة وهوجاء  من الجمهور العربي والبدوي، وأن الفلسطينيين البدو في النقب يتعرضون لحملة غسيل دماغ وتحريض ضد شرعية القانون".

هنا تتجسد الخطوط الكبرى لما يحدث فعليا:  ذاتية يهودية وعنصرية غريبة تتمفصل على مقال التطوير والتقدم من أجل تبرير الحيازة المطلقة على إقليم مأهول، ويعود ذلك إلى طبيعة الغزوة التي تحمل منذ البداية شعار توطين (شعب)  بدلا عن شعب آخر، وأكثر من ذلك فكرة (الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض) مما يقتضي محو الشعب الأصلي، وإبادته، لتكون الأرض كلها خالصة (للعرق) اليهودي، دون أن تشوبها شائبة، فتكتمل معادلة الأرض المختارة للشعب المختار.

هذه الأفكار الإلغائية لم يأكلها الزمن وليست قديمة، وهي تشتد اليوم أكثر فأكثر بجنون الخوف الديمغرافي، ودعوات الترحيل عبر التبادل السكاني أو الجدار أو التخلي عن المناطق المكتظة بالسكان العرب أو تهويد النقب والجليل.

واليوم ومن يطلع على التحليلات والنقاشات الصهيونية حول مستقبل إسرائيل في ظل الخطر الديمغرافي العربي، لابد أن يسترجع محاضرة الوزير الإسرائيلي المقتول رحبعام زئيفي في الجامعة العبرية في القدس يوم 22/05/1980 حيث قال "هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل 700-800 ألف عربي.. ولم تتردد هذه الآراء فحسب وإنما أعدت أيضا الوسائل لتنفيذها".

ونقاشات مؤتمر هرتسليا (مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي) بدوراته المتعددة لم تكن بعيدة عن هذه الطروحات، وكانت كلها تصب في أنجح السبل للحفاظ على يهودية الدولة والتخلص من العرب. وقد سلمت الوثيقة التي أعدها المؤتمر في دورته ما بين 19 و21 كانون أول عام 2000 في جو احتفالي إلى رئيس الدولة موشيه قصاب، وعلق الصحافي يئير شيلنغ  بالقول "اليمين المتطرف ما كان في مقدرته أن يصوغ توصيات تعكس فكره البهيمي الجامح بأفضل مما صاغتها هذه الكراسة".

تتبلور فكرة التوسع باعتبارها ركيزة أساسية للفاشية باعتبارها حركة ذات سمة استعمارية. لقد آمن تيودور روزفلت في كتابه (اكتساب الغرب ) أنه "لأجل خير العالم فإن الشعب الناطق بالإنكليزية بكل فروعه يجب أن يسيطر على أكبر قدر ممكن من سطح العالم"، والسيطرة تأخذ معناها ليس فقط لأجل (خير العالم) وإنما انطلاقا من انحطاط الآخر ووجوب استعماره وإلغائه، فيصرح ونستون تشرشل في تبريره للغزو الصهيوني "أنا لا أوافق على أن الكلب في المذود يملك الحق النهائي في المذود حتى لو كان يضطجع هناك منذ زمن طويل، أنا لا أعترف على سبيل المثال أن هناك خطأ قد حدث بحق الهنود الحمر في أمريكا أو الناس السود في أستراليا، أنا لا أعترف بأن هناك خطأ قد حدث بحق تلك الشعوب بناء على الحقيقة بأن عرقا أقوى، عرقا من درجة أعلى قد استولى على الأرض".

وكما سعى المستعمرون البيض للتوسع غربا عبر إزاحة إستراتيجية للسكان الأصليين، في العالم الجديد كذلك بقيت الدولة الصهيونية بدون حدود رسمية، (.......)، وهكذا تؤكد غولدا مائير بعد حرب 1967 وفي رفضها للانسحاب بأن حدود الرابع من حزيران 1967 غير آمنة، ولا يمكن الدفاع عنها، غير أن الجنرال بيليد يرد عليها قائلاً "إن الحكومة الإسرائيلية توحي للرأي العام أن ثمة خوفا من الإبادة وتكون صورة كاذبة عن الظروف التي سببت الحرب وذلك لتبرير توسعها في أراض عربية جديدة"، ثم يضيف "إن احتلال أراض جديدة هو وصفة سحرية وحل لكل معضلات أمتنا".. وتؤكد مائير "أن الحدود تقع حيث يستوطن اليهود ويقيمون، ولا تقع على خريطة يحدها خط ما".ومرة أخرى يبدو ألا سبيل إلى التشابه بين أي شيء وشيء آخر كالتشابه الذي يتحقق بين الفاشية والصهيونية في إطار فاشي واحد.
 

التعليقات