12/12/2013 - 15:25

رحيل مانديلا يضع إسرائيل مجددًا أمام أزمتها../ عوض عبد الفتاح

الأكثر إثارة في ردود الفعل بعد موت مانديلا هو النقاش الذي تفجر في إسرائيل بخصوص عدم مشاركة رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو ورئيسها شمعون بيرس. إن موت مانديلا أعاد تسليط الضوء على الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الكيان الإسرائيلي، وأظهر مجدداً، على الأقل في أوساط السياسيين والإعلاميين والأكاديميين، التناقض الأبدي الذي يعيشه المشروع الصهيوني وتجسيده إسرائيل. لقد كرّس الإعلام الإسرائيلي، مساحات ليست قليلة للتداعيات المستمرة للعلاقات التحالفية القوية التي استمرت حتى سقوط نظام الأبارتهايد عام 1994. ويأتي ذلك في مرحلة تتسع فيها حملات المقاطعة ونزع الشرعية عن نظام الأبارتهايد. وهو الخطر الذي لا ينفك يحذر منه الإسرائيليون

رحيل مانديلا يضع إسرائيل مجددًا أمام أزمتها../ عوض عبد الفتاح

لم يمض نلسون مانديلا إلى العالم الآخر مصاباً برصاصة أو بشظية في حرب التحرير مع أن هذا الأمر كان وارداً نظراً لدوره الريادي وطريق الآلام الذي اختاره من أجل بلده. ولم يقضِ وراء القضبان مع أن مصيراً كهذا كان وارداً أيضاً، كما حصل مع المناضل ستيف بيكو الراحل الذي تم تعريضه لتعذيب وحشي قبل قتله في المعتقل أوائل عام 1977 بادعاء أنه انتحر يُقال أنه (رُميَ من الطابق العلوي من بناية المعتقل).

رحل هذا الرجل الأيقونة رحيلاً طبيعياً بسبب مرض، وبسبب تقدمه في السن. عاش حياة طويلة وعريضة وزاخرة بتراث سيظل مصدر إلهام لأجيال وأجيال، ولمن اختار ويختار طريق الانعتاق من الاستعباد بكل أشكاله السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية. (هناك من يأخذ عليه تسليمه بالاستبداد النيولبرالي كجزء من التسوية لإسقاط الأبارتهايد السياسي).

لكن موت الرجل أطلق النقاش مجدداً داخل وحول إسرائيل، وألقى الضوء على الأسباب الكامنة وراء عدم مشاركة رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في الجنازة. واشتد النقاش أكثر مما حصل على أثر سقوط نظام الأبارتهايد (السياسي) وبعد أن طويت صفحة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وهو نقاش مُتصل بالالتزام الأخلاقي تجاه التجربة التي وُصفت بالخاصة جداً لما ميزها من اعتراف وتسامح ومصالحة، واستنادها إلى قيم كونية من المساواة والعدالة وقبول الآخر بغض النظر عن العرق واللون والدين والأصل الإثني. وكان لنلسون مانديلا الرجل الذي زُجَّ في غياهب السجن مدة 27 عاماً مع العديد من رفاقه، الدور الأبرز والألمع في هذا الإنجاز، مع أنه كان دائماً يؤكد أن النصر لم يكن نتاج نضال فردي بل نتاج كفاح جماعي طويل وشاق.

أما الدول التي شارك رؤساؤها (غالبيتها) في مراسيم الجنازة، فهي ساندت ودعمت الأبارتهايد في المراحل الأولى، ولم يتحول موقفها لاحقًا إلا بفضل عوامل كثيرة أهمها النضال الجسور الذي خاضه السود بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي وقياداته العديدة على رأسهم نلسون مانديلا.

ويجب الإشارة إلى أن اضطرار الغرب إلى التخلي عن نظام الأبارتهايد جاء في ظروف تغير فيه ميزان القوى لصالح المعسكر الرأسمالي والليبرالية الجديدة. هذا التغيّر تمثل في انهيار الاتحاد السوفيتي وتغيرات إقليمية في المنطقة العربية. كما وفي داخل أمريكا مارست جماعات (من السود جُلّها) ناشطة الضغوط على الإدارة الأمريكية. وهذا بطبيعة الحال كان امتدادًا لدور قوى التحرير في جنوب أفريقيا وفي مقدمتها المؤتمر الوطني الأفريقي، ولجان المقاطعة التي انتشرت ونشطت في أوروبا وأمريكا ابتداء من الستينيات. لقد أحرجت هذه القوى الوطنية والديمقراطية الناشطة، وعبر حملات إعلامية متواصلة، حكومات تلك الدول التي تتبنى رسمياً في دساتيرها قيم الديمقراطية والمساواة كنقيض للاستبداد والعنصرية والإقصاء.. مما دفعها إلى التخلي عن نظام الفصل العنصري بعد أن ضمنت بقاء الارتباط الاقتصادي الجنوب أفريقي بنموذج السوق الحر والاقتصاد النيولبرالي.

ولذلك فإن مجيء هؤلاء الرؤساء وخطابات بعضهم تنطوي على قدر كبير من النفاق والانفصام. وإذا كان باراك أوباما قد قال في خطابه، وهو خطيب بارع، عن رؤساء دول يشيدون بمانديلا لكن لا يتبنون في بلادهم القيم التي سار عليها، وهو صحيح، فإنّ حكومته وحكومات الدول الغربية وأن تبنت أشكالاً متقدمة من الديمقراطية وحرية التعبير والتنظيم فإنها لا تتعامل مع شعوب الدول النامية إلا من باب مصالحها. وأوباما الذي خيّب أمال الواهمين أصلاً خاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين، والذي مجّد في خطابه الإنجاز العظيم الذي حققه مانديلا ألا وهو إسقاط نظام فصل عنصري وكولونيالي بغيض، فإنه شخصياً وكذلك حكومته بطبيعة الحال، يستميت في الدفاع بل وفي تقديس نظام الأبارتهايد الكولونيالي الإسرائيلي. وليست المحاولات الأمريكية البائسة الجارية الآن في إطار المفاوضات بين سلطة الحكم الذاتي وإسرائيل لفرض حل تصفوي إلا تكريسًا لنظام الأبارتهايد الإسرائيلي وبالتالي إدامة الظلم والعنف الصهيوني. وهذا هو التجلي السافر للازدواجية الأخلاقية التي تُميز النخب الغربية الحاكمة.

على أية حال، إن أوباما في نهاية المطاف جزء من نظام سياسي إمبراطوري إمبريالي له مصالحه الواسعة التي تتغلب على المبادئ والقيم.

ولذلك من يعتقد من الفلسطينيين أن أسلوب الإقناع والحوار ونهج التنازلات والانبطاح هو السبيل الوحيد إلى تغيير موقف هذه الإمبراطورية من إسرائيل ومن الحق الفلسطيني فهو يكرس الجهل في علم السياسة ويواصل إلحاق الضرر الهائل في مسيرة التحرر الفلسطينية وتشويه قيمها وأخلاقياتها.

أزمة إسرائيل الأخلاقية تحت الضوء

الأكثر إثارة في ردود الفعل بعد موت مانديلا هو النقاش الذي تفجر في إسرائيل بخصوص عدم مشاركة رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو ورئيسها شمعون بيرس. إن موت مانديلا أعاد تسليط الضوء على الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الكيان الإسرائيلي، وأظهر مجدداً، على الأقل في أوساط السياسيين والإعلاميين والأكاديميين، التناقض الأبدي الذي يعيشه المشروع الصهيوني وتجسيده إسرائيل. لقد كرّس الإعلام الإسرائيلي، مساحات ليست قليلة للتداعيات المستمرة للعلاقات التحالفية القوية التي استمرت حتى سقوط نظام الأبارتهايد عام 1994. ويأتي ذلك في مرحلة تتسع فيها حملات المقاطعة ونزع الشرعية عن نظام الأبارتهايد. وهو الخطر الذي لا ينفك يحذر منه الإسرائيليون.

فقد أثارت عدم مشاركة بنيامين نتانياهو وشمعون بيرس الصديق القديم لنظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، أسئلة ونقاشات وتحليلات حول عدم المشاركة. والكثير من الأقلام استخفّت بالذرائع الواهية لعدم المشاركة (أسباب مالية). وذهب معظمهم إلى حدّ الاعتراف بأن ذلك التحالف الدنس يثير ذكريات غير مريحة لحكام إسرائيل الذين لا زالوا على نفس النهج العنصري والكولونيالي، فكيف يمدحون مناضلاً كمانديلا وهو الذي اختار العنف الثوري والنضال الشعبي في كفاحه من أجل دحر نظام الفصل العنصري في بلده، قبل أن يجلس إلى طاولة المفاوضات. وكيف يواجهون الصحفيين الذين سيسألونهم الأسئلة المحرجة، وكيف سيواجهون صيحات الجمهور استنكاراً لتحالفات إسرائيل السابقة، وسياستها الحالية تجاه الفلسطينيين.

يكتب إيتان هابر، وهو أحد كتاب الأعمدة في يديعوت أحرونوت، ومُدير مكتب رئيس حكومة إسرائيل السابق، إسحاق رابين، مفسرًا أسباب امتناع نتنياهو عن المشاركة في الجنازة.

"كانت إسرائيل شريكًا كاملاً ومتحمسًا لنظام الأبارتهايد في السبعينيات والثمانينيات، حتى هذا اليوم لم يغفر ولم ينسَ الملايين من المواطنين في جنوب أفريقيا دور إسرائيل...

لا يمكن القول إن هذا النقاش لن يترك تأثيراً على بعض أوساط الرأي العام داخل إسرائيل، خاصة أنه يأتي في ظل تنامي الكراهية في العالم لسياسات إسرائيل، والتي تمهد لنجاحات قادمة في مجال عزلها بين شعوب العالم وحركاته المدنية، وإلى حدّ ما على مستوى بعض حكوماتها. وبالتأكيد فإن فتح ملف التحالف وعقد المقارنات بين النظامين، يساهم في تعميق المأزق الأخلاقي الداخل لدى نظام الأبارتهايد الإسرائيلي. إن صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية مزعومة يتآكل يوميًا.

وهنا يحضرنا الانشغال المتزايد في عقد المقارنات بين النظامين العنصريين، وبين تجربتي حركتي التحرر في جنوب أفريقيا وفي فلسطين. ونرى ذلك إما داخل هيئات أكاديمية بحثية أو داخل مجموعات كثيرة وآخذ في الاتساع تناضل من أجل تعرية إسرائيل كنظام غير شرعي تمهيدًا لحل إنساني شامل. ولهذا الانشغال ما يسوّغه ويدعمه. أولاً، لأن نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا كان نظاماً عنصرياً صارخاً، تعود جذوره إلى التجربة الاستعمارية الأوروبية وشبّه بالتجربة الاستعمارية الصهيونية في فلسطين. وثانيا، إقدام المجتمع الدولي ولو متأخراً على رفضه وإسقاطه، وبغض النظر عن بعض دوافع هذا الرفض. وثالثاً، لأن النموذج التحرري الذي اعتمده السود، أعطى ثماره وإن كان نجاحه ليس كاملاً بسبب بقاء الأبارتهايد الاقتصادي وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وازدياد معدلات الجريمة وهي تحديات تقف أمام التجربة الناشئة. وهذا النجاح في هزم نظام فصل عنصري وكولونيالي يمنح الأمل للقوى الفلسطينية التي تتبنى المقاومة وقيم نموذج المساواة والديمقراطية كبديل عن نموذج الفضل والتقسيم.

طبعاً ليس نظاما البلدين متطابقين، وليست تجربتا التحرر متطابقتين، ولكن هناك أوجه شبه كثيرة وجوهرية بين النظامين. ولكن طالما هناك اختلافات أيضاً فيجب إدراكها حتى يمكن أيضاً ابتكار أساليب وآليات تجيب على هذا الاختلاف. لكن كل ذلك لا يمنع برأيي ورأي الكثيرين من الاستعانة بتجربة جنوب أفريقيا إضافة إلى التجربة الفلسطينية الممارسة منذ عقود، واستلهام الرؤية التي طرحتها قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي وواظبت عليها حتى سقوط الأبارتهايد- منذ عام 1955- (تاريخ وضع ميثاق الحرية- freedom charter).

لا زال أغلبية أنصار حلّ الدولتين يرفضون الخوض في البدائل الإستراتيجية. فالخوف، أو التهيب، أو قراءتهم الخاصة لحيثيات الصراع، كل ذلك لا يزال يكبح خيالهم باتجاه التفكير خارج دائرة المألوف..

بل لا تراهم يتحمسون لاستحضار تجربة جنوب أفريقيا. فيكثرون من تعداد الاختلافات بين النظامين والتجربتين لينأوا بأنفسهم عن حمل عبء ما يترتب على ذلك من واجبات وأدوار. وهناك كما قلنا اختلافات. ولكن لماذا لا يقدمون على طرح بدائل أو إستراتيجيات عمل لخوض نضال حقيقي ضد الاحتلال في الضفة والقطاع على الأقل، وهذا السؤال موجه بالأساس إلى من يمسك زمام القيادة بروح سلطوية شديدة، والنخب التي توفر المسوغات للنهج الفلسطيني الرسمي.
 

التعليقات