30/01/2014 - 13:56

في ضوء أزمة الناصرة../ عوض عبد الفتاح

حان الوقت لفتح النقاش مجدداً حول مستقبل "المتابعة".. مستقبل العرب في الداخل

في ضوء أزمة الناصرة../ عوض عبد الفتاح

هل يمكن القول إن الناصرة كشفت عورتنا، أم أن العورة مكشوفة من أصلها؟ وهل هذا المنعطف الجديد يختلف عن المنعطفات السابقة، التي مرت بها الناصرة والمجتمع العربي برمته، من حيث تفاعلاته وأبعاده وعواقبه؟

ثم ماذا يقول لنا هذا المنعطف، وهو ليس مقطوعاً عن سيرورة التحولات العميقة التي طالت وتطال المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر في العقود الثلاثة الأخيرة؟ وما هو سبب ذلك؟ هل هو فقط نتاج الغزوة الصهيونية المستمرة على الأرض والإنسان والمجتمع في وطننا، أم أنه أيضًا نتاج للتحديث المشوّه الذي أنتجه الوجود الإسرائيلي الكولونيالي؟

أم أنه في الأصل امتداد طبيعي لحالة الفوات الحضاري للأمة العربية، منذ دخولها في مرحلة الانحدار الحاد قبل قرون؟
هل كان هذا سيحصل لو كان المجتمع العربي قد أنجز حداثته وبلورة شخصيته الوطنية والديمقراطية؟ ولو لم يخضع لغزوة استعمارية غاشمة ولماذا نستغرب ذلك؟ فهل يختلف حال هذا المجتمع عن حال دول عربية امتلكت من الاستقلالية الكاملة أو النسبية لعقود من الزمن، وحكمتها نخب علمانية مثل العراق، سوريا، ليبيا وغيرها، أصولية كالسودان والآن نرى هذه الدول تحت وطأة خطر الانحلال والتفكك؟

هل يُلام "المتآمرون"، أم يُلام من أمسك بناصية القيادة لثلاثة أو أربعة عقود/ وكانت بحوزته كل مقدرات البلد المادية والبشرية فترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها للتدخل الخارجي والعبث بأقدار البلد بعد أن سحق المجتمع والفرد؟

وهناك من يتساءل بنغمة احتجاجية: إذاً لماذا يتوقع من مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر أداءً مختلفاً، وهو لا يملك كل تلك المقدرات وأسباب السلطة. وليس لدينا حاكماً سلطوياً وحشياً يطمس التناقضات المجتمعية (الطائفية والمذهبية) بفعل القمع الوحشي، المعنوي والمادي؟

هل لأن، كما يرى البعض، الأقلية الفلسطيني تعيش في دولة حديثة.. وتحمل مواطنتها؟.. حتى لو كان هذا البعض يدرك أن هذه الدولة ليس بوارد تحديث "الأقلية العربية"، إنما العكس تكريس البنية الاجتماعية القديمة وإدخال بعض أشكال الحداثة كوسيلة لإحكام سيطرتها والتحكم بمسيرة تطورها.

فكيف تتطور هذه الأقلية تطوراً طبيعياً، وتدخل عالم العصر، في الوقت الذي هدم هذا النظام الكولونيالي العنصري مدنها وقوّض مستلزمات تحديثها؟

ليس بطبيعة الحال العامل الخارجي هو السبب الوحيد لتكريس الفوات الحضاري للمجتمع العربي. فالأمر يعود أيضاً إلى أُهلية القيادات أو نخب هذا المجتمع، إذ يتوقف مستوى تطوره وتحرره ومستوى اعتماده على ذاته وعلى نوعية قيادته السياسية ونخبه المثقفة، وخاصة مقدرتها على هضم تركيبات الواقع وبالتالي على اجتراح التصورات واشتقاق الإستراتيجيات والوسائل المطلوبة للنهوض.

فهل يمكن عزل الحالة الراهنة لمدينة الناصرة عن إخفاق قيادة البلدية الجبهوية، وأيضاً عن قصورات المعارضة التي أيضاً حصلت على أصوات المهمشين في الدورات الانتخابية السابقة ثم خيّبت آمالهم بعد تحولها إلى حليف لنظام الجبهة، (القائمة الموحدة)؟

وهل يمكن عزل العجز عن حل الصراع المستمر والمتجدد بين فئة تحكمت في مقدرات البلدية دون نجاح، وفئة أعلنت عن نفسها في بداية حكمها كممثلة لطبقات "الشعب" من جهة وبين فئة بل أوساط شعبية واسعة تراكمت لديها مشاعر الحرمان والإقصاء من جهة أخرى إلى أن توافرت، أو بدا لها فرصة التغيير؟ (هل تذكرون شعارات الانحياز للبروليتاريا. هل بالصدفة انشق عنهم شيوعيون أصيلون وخاضوا الانتخابات بقائمة مستقلة (شباب التغيير). أليس أفضل نظرية لفهم تآكل سلطة جبهة الناصرة، هي النظرية الماركسية التي تتبناها رسميًا (والتي نسبتها حتى كشعار). أليس الجمود والتكلس هو نقيض الديالكتيك وروح التجديد وسنّة التغيّر الدائم.

وفق هذه النظرية، يمكن فهم سيرورة نمو شبكة من المصالح استندت اليها سلطة الجبهة (تحالفها مع رجال أعمال كبار مرتبطون بالمؤسسة الإسرائيلية). فراحت في العقدين الأخيرين تبتعد تدريجيًا عن الناس الذين قالت إنها ستمثل مصالحهم عند انتصارها التاريخي عام 1975. وكان ذلك الانتصار مفرحًا، وأنا شخصيًا كشاب وطني في تلك الفترة شاركت في أول مخيم تطوعي نظمته جبهة الناصرة ضمن وفد من قريتي، مع أني لم أنتم إلى صفوفها، فقد كانت توجهاتي قومية –ناصرية منذ شبابي تأثرًا بموقف والدي.

والادعاء أن هناك حقدًا على الجبهة بلا سبب، هو هروب من الحقيقة، هو هروب مُزمن من تحمل المسؤولية والمراجعة. هو تمسك بالمصالح التي راكمتها شبكة المصالح داخل وحول سلطة البلدية الجبهوية. إنها الذاتية، والفئوية، والعقم الفكري.

إن محاولة أقطاب الجبهة إظهار التآكل المتسارع لموقع ومكانة الجبهة في المدينة وكأنه مؤامرة خارجية، هو سلوك محزن فضلاً عن أنه يثير السخرية.

إنها سلطة جمدت، وتحجرت، وانتهت صلاحيتها. إن ما لا ترفض الجبهة إدراكه هو أن هزيمتها لا تقاس بالأصوات فحسب، بل في الجوهر.تجربة شاخت ولا بد من إتاحة الفرصة لتجارب أخرى. التوصيف الذي تستعمله بحق منافسها، ابنها السابق، الذي اختاره قطاع واسع من أهالي الناصرة هو توصيف لأزمتها. الجميع يدرك أن التفاف هذا القطاع من أهالي المدينة حوله ليس لأنه يمثل لها الأمل الحقيقي، بل لأنهم رأوا فيه الشخص الأضمن لإنهاء حكم فئة فاشلة وعاجزة، ولأنهم يتطلعون إلى أن يكون هذا الإنهاء بداية لتغيير حقيقي. نعم إنه اختيار اليأس الذي جرعته لهم الجبهة على مدار فترة طويلة من الزمن.

هل يمكن عزل ذلك كله عن القُصور الكبير في البُنية التنظيمية القيادية القطرية (لجنة المتابعة العليا تحديدًا)؟ وقد يكون التغيير الذي جرى في الانتخابات البلدية الأخيرة في الناصرة (22.11.2013) شكليا، وقد يصبح جوهرياً (وهذا هو المأمول) ولكنه مرهون بقدرة المهمشين عبر من يمثلهم على اقتراح الحلول والأداء السليم.

ما يجري في الناصرة يفتح الباب مجدداً على السؤال الكبير الخاص بواقع ومستقبل "الأقلية الفلسطينية" وكيفية إدارة صراعها مع التخلف والجمود الداخلي وإدارة اختلافاتها السياسية والاجتماعية، وكيفية مواجهة النظام الكولونيالي الإسرائيلي وإفرازاته اليومية في حياتنا كجزء حيوي من الشعب الفلسطيني يحيا في ظروف متميزة عن باقي تجمعاته!

المتابعة غائبة.. ولا بدّ من إيقاظها

وإذا أردنا مقاربة الولوج الآمن إلى خانة الوطنية الجامعة فإنه لا بدّ من إعادة فتح باب التداول بشأن موقع ومستقبل لجنة المتابعة.. التي كشفت عجزها مرة أخرى، إزاء الصراع الحالي داخل الناصرة.

إن النقاش يجب أن يبدأ من قاعدة أن مستقبل الجماهير العربية داخل الخط الأخضر، مرهون بإعادة تنظيم هذه اللجنة. لقد أنتجت هذه الجماهير قيادات حزبية، ونخب مثقفة وفئات من الأكاديميين ومهارات مختلفة، وحققت إنجازات هامة. ولكن كل ذلك لم يتحول حتى الآن إلى مأسسة حقيقية، أو إلى مؤسسة قيادية –ومهنية. ليست الجبهة وحدها التي تتحمل المسؤولية عن عدم إعادة بناء هذه اللجنة، بل إن بقية القوى أيضاً تتحمل قسطاً من المسؤولية لأنها لا تبذل جهداً جدياً مثابراً في تحويل تصوراتها الخاصة بإعادة البناء إلى مشروع إستراتيجي يجري العمل عليه يومياً.

بدل انتظار ما ستسفر عنه مداولات المحاكم الإسرائيلية، لنجدد المبادرة أو المبادرات لإعادة تنظيم أوضاعنا ومنح أهل الناصرة وكل جماهيرنا في الداخل أملاً حقيقياً في التغيير. وليكن جيل الأكاديميين الشباب الناشطين في الميدان أيضاً في صلب هذه المبادرة.

"على المدى الإستراتيجي انتخابات مباشرة.. وحاليًا تناوب بين الأحزاب"

لا أجد أن هناك حاجة لإعادة التذكير بماهية لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل، وظيفتها وبنيتها وطريقة اختيار أو انتخاب قيادتها.

عند تشكيل لجنة المتابعة أوائل الثمانينيات، وُضع هدف متواضع تمثل بالتنسيق بين اللجنة القطرية للسلطات المحلية العربية وأعضاء الكنيست العرب للمساعدة في نقل مظالم هذه السلطات إلى صانعي السياسة الإسرائيلية التي تقوم على الإقصاء والتمييز العنصري في الميزانيات ومناطق النفوذ والبناء والتعليم والتصنيع وغيرها من مجالات الحياة. ما معناه لم تقم اللجنة بناء على تصور إستراتيجي يتصل بالحاجة إلى قيادة موحدة لعرب الداخل.

وقد شارك في هذه التركيبة أيضا أعضاء كنيست عرب من الأحزاب الصهيونية التي تشارك في قمع واضطهاد شعبنا. ولكن شرعية هؤلاء تم سحبها بالتدريج، منذ تفجر هبة القدس والأقصى عام 2000. ولم نعد نرى وجودا لهؤلاء في لجنة المتابعة بعد العقد والنصف الأخير الذي تميز بنمو الوعي الوطني لعرب الداخل. هذه البنية المتواضعة للجنة المتابعة، والتي كانت حصيلة مستوى التطور السياسي والثقافي في تلك المرحلة لم تعد تف بالغرض. إن التحولات النوعية التي شهدها المجتمع العربي، في المرحلة اللاحقة، والتي تمثلت في ظهور حركات سياسية جديدة على الساحة، الحركة التقدمية والحركة الإسلامية في الثمانينيات، والتجمع الوطني الديمقراطي أواسط التسعينيات وازدياد عدد الأكاديميين والباحثين في مجال العلوم السياسية والاجتماعية، هذا من ناحية، وتكشف حجم الضرر الذي ألحقته سياسة الاضطهاد والنهب بالمجتمع العربي، كل ذلك أوجد الحاجة لتسريع العمل على إعادة تنظيم لجنة المتابعة، وكانت هذه أولى مهمات التجمع الوطني الديمقراطي فور تشكله.

ونقلت أنا شخصيا كممثل عن التجمع في لجنة الصياغة ورقة تصور لإعادة البناء، صُغناها داخل هيئات التجمع عند انطلاقته. وهي لجنة تشكلت أواخر التسعينيات وضمت: محمد زيدان رئيس المتابعة آن ذاك، عوض عبد الفتاح من التجمع، الشيخ رائد عن الحركة الإسلامية الشمالية، عبد المالك دهامشة عن الإسلامية الجنوبية، وعصام مخول عن الحزب الشيوعي، ورجا إغبارية عن حركة أبناء البلد ممثل الجناح الذي خرج من التجمع بعد ثلاثة أشهر (من إقامته).

وقد عقدت هذه اللجنة أكثر من عشرين لقاءً امتدت لسنوات الألفين، توقفت لفترة قصيرة بعد هبة القدس والأقصى ثم استؤنفت بعد ذلك. لقد استندت ورقة أو تصور التجمع إلى تجربة مجموعات قومية في دول غربية، المتصلة بحق الأقليات القومية بتنظيم نفسها على شكل حكم ذاتي (ثقافي، وسكاني أو جغرافي)، ويجري انتخاب اللجنة عبر الاقتراع المباشر والحر من جانب المواطنين العرب. وعندما تنتخب اللجنة، تقوم ببناء المؤسسات المهنية، مثل صندوق قومي ولجان تعليم، وثقافة، ولجان تخطيط وغيرها التي تمكن المواطنين العرب من الحفاظ على هويتهم العربية الوطنية وتحصين مجتمعهم في مواجهة سياسة التفتيت التي تنتهجها المؤسسة الإسرائيلية.

شكلت النقاشات داخل اللجنة أرضية لتطوير معرفة من كان جاهلاً بحقوق الأقليات الجماعية، ووطدت علاقات تفاهم بين قوى سياسية كانت متباعدة أيدلوجيًا. وفي نهاية المطاف التقى حول هذا الطرح التجمع، الحركة الإسلامية الشمالية، والجنوبية وأبناء البلد في حين أصرت الجبهة على أن تبقى اللجنة كإطار تنسيقي مع تحسين أدائها.

ونزلت القوى المذكورة عند رغبة الجبهة- الحزب الشيوعي، مؤقتا، أي قبول تحسينها كمرحلة انتقالية ولكن دون أن تتنازل عن رؤيتها الجذرية لإعادة البناء. وكان سبب هذا النزول آلية اتخاذ القرارات داخل هيئة المتابعة التي كانت تقوم على التوافق والإجماع. ولكن للأسف، أيضا هذه الصيغة (صيغة التحسين) لم توضع موضع التنفيذ، لا في زمن السيد شوقي خطيب ولا في زمن السيد محمد زيدان.

أما بخصوص الحل فاعتقد انه يجب العودة إلى الطرح الإستراتيجي، أي استعادة زمام المبادرة والبدء بالتحضير لانتخابات عامة تمتد على مدار العامين أو الثلاثة القادمة. وحاليا والى حين الوصول إلى ذلك يجب تطوير وتنسيق وتفعيل البنية الحالية والقيام بالحد الأدنى من الواجب. وأهم الخطوات هي بعث مبادرة إقامة صندوق قومي – (أصدقاء المتابعة). وهذا بالطبع يتطلب تعيين رئيس. وبهذا الخصوص فإننا نطرح مرة أخرى ما طرحناه سابقا، إلا وهو تناوب الأحزاب الرئيسية على رئاسة اللجنة لحين الوصول إلى الانتخاب المباشر من قبل المواطنين العرب.

ما نحتاجه الآن هو خوض حوارات حقيقية بين الأحزاب حول حاضر ومستقبل هذه اللجنة. هناك إمكانية لتحقيق تقدم على هذا الصعيد.

التعليقات