20/02/2014 - 16:17

نحو فكر سياسي فلسطيني جديد../ عياد البطنيجي*

ويكفي هنا الإشارة إلى ما يؤكد ما أقول، هو متابعة التحول في الخطاب السياسي الفلسطيني من خطاب ثورة وتحرير إلى خطاب دولة، كيف تبدلت المفاهيم السياسية من مفاهيم تقوم على المقاومة والتحرير والثورة وعدم الاعتراف بالنظام الكولونيالي الإسرائيلي، إلى مفاهيم تقوم على الاعتراف بإسرائيل، السلام، التعايش المشترك، والمفاوضات

نحو فكر سياسي فلسطيني جديد../ عياد البطنيجي*

يبدو أن الحلول الدبلوماسية مع إسرائيل قد وصلت إلى طريق مسدود؛ لأكثر من سبب أهمها لأنها موضعت نفسها في سياق غير طبيعي يتعارض مع منطق الأشياء حيث تعاملت مع المسألة الفلسطينية بنمط تفكير بيروقراطي، حين اختزلت المشروع الوطني الفلسطيني إلى مجرد قيام كيان سياسي لجزء من الشعب على جزء من الأرض. ولهذا ليس بمستغرب أن تفشل في تحقيق مراميها.

وآخر هذه الحلول ما يتم تداوله اليوم في المشهد السياسي الفلسطيني حول اتفاق الإطار الأمريكي الذي ما زال يقابل بالرفض من قبل القيادة الفلسطينية. ونأمل أن يتمخض عن هذا الاتفاق المقترح، إيقاف حالة التصدع في الوعي الفلسطيني تجاه هويتهم وكيانهم الوطني ووحدتهم في الداخل والشتات. ليس لأن هذا الإطار أو المقترح القديم- الجديد يتناقض مع الاتفاقيات الثنائية السابقة منذ أوسلو إلى اليوم، ولا لأنه يؤسس "لتعارضات جديدة فلسطينية - فلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أيضاً والحركة الوطنية الفلسطينية عموماً". بل لأن هذا الطرح هو استمرار لنمط التفكير البيروقراطي نفسه الذي أوصلنا إلى طريق مسدود، أي في جوهر الطرح نفسه حيث يقوم على معالجة التناقضات التاريخية معالجة فنية إجرائية سياسية. وهو المنزع الذي بدأ يترسخ منذ أواسط السبعينيات من القرن العشرين. أي منذ التحول من خطاب الثورة إلى خطاب الدولة.

في هذا الإطار، سوف أكتفي هنا في تناول أثر قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. أي أثر قيام دولة فلسطينية في سياق النظام الكولونيالي الإسرائيلي على المشروع التحرري الفلسطيني. وهذا يقتضي بداية أن نفهم طبيعة التناقض مع هذا النظام- الدولة. فالتناقض هنا هو من نوع التناقض الجوهري الذي لا ينحل إلى شكل أرقى بعد عملية اصطراع مكوناته وعلاقاته. فالنظام الإسرائيلي الاستيطاني مسيَّطر على النظام الإقليمي العربي، ومهيمن على الإقليم الشرق أوسطي، ومتحكم بتفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، وهذا يعنى أن بقاءه ليس مشروطاً بامتلاك عناصر القوة كافة فقط، بل وفي استبقاء الأمة العربية ضعيفة وكيانا هزيلا.

وعليه، إن العلاقة معه، في ظل منظومة علاقات القوى السائدة، تؤدي إلى خدمته أكثر مما تخدم الطرف الضعيف (الطرف الفلسطيني في هذه الحالة). فقدرته على فرض شروطه هي أكبر من قدرة الفلسطينيين على فعل ذلك. وهذا يؤدي في نهاية الأمر إلى أن تكون وظيفة الأطر النظامية الفلسطينية في ظل سيادة النظام الكولونيالي الإسرائيلي، وقبل تقويضه لصالح كيان أرقى، تتمثل في إدخال الفلسطينيين إلى هذا النظام، وليس في الخروج منه. حيث يستحيل أن تكون هذه الأطر مقصودة لذاتها فحسب، وإنما مقصودة لغيرها أيضاً؛ لاستحالة أن تعبر عن الإرادة الفلسطينية المحضة إذ سوف يُستدخل في تشكيلها الإرادة الإسرائيلية تأميناً لمصلحتها كنظام كولونيالي. وبالرغم من أن الإرادة الفلسطينية في تشكيل أطرها السياسية تبدو وكأنها إرادة فلسطينية مستقلة بيد أنه في حقيقة الأمر فإن هذا المظهر الذي يبدو وكأنه مستقل هو في مضمونه عرضي وحسب.

ويكفي هنا الإشارة إلى ما يؤكد ما أقول، هو متابعة التحول في الخطاب السياسي الفلسطيني من خطاب ثورة وتحرير إلى خطاب دولة، كيف تبدلت المفاهيم السياسية من مفاهيم تقوم على المقاومة والتحرير والثورة وعدم الاعتراف بالنظام الكولونيالي الإسرائيلي، إلى مفاهيم تقوم على الاعتراف بإسرائيل، السلام، التعايش المشترك، والمفاوضات.

يؤدي هذا التحول إلى الاعتراف بالنظام الكولونيالي الإسرائيلي الذي استفاد منه أكثر مما استفاد منه الفلسطينيون. وكأننا أمام المعادلة التالية: إن أي تحول فلسطيني في السياق الكولنيالي، مشروط بأن يحافظ على ديمومة الدولة الإسرائيلية، وبالتالي تخلي الفلسطينيون، بشكل بطيء وتدريجي، عن هوية فلسطين التاريخية.

سبق لعدد من المفكرين الفلسطينيين الملتزمين بمسيرة الكفاح الفلسطيني أن طرحوا مشاريع وأفكار أرقى من مشروع الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، مثل مشروع "دولة فلسطين الديمقراطية" الذي تبنته معظم فصائل منظمة التحرير في سبعينيات القرن العشرين، وهو مشروع يلغي الكيان الصهيوني دون "أن يلقى بيهوده في البحر". وينادي نديم روحانا في دراسته الرائعة (نشرت في مجلة دراسات فلسطينية العدد 97) بالبدء بتفكير سياسي وأكاديمي يقود إلى بدائل عن حل الدولتين الذي وصل إلى طريق مسدود. ويقترح بضرورة العمل على مشروع وطني فلسطيني تحرري يرمي إلى هزيمة الكولونيالية الاستيطانية، واستبدالها بكيان وطني يشارك في بنائه الفلسطينيون والإسرائيليون على أسس من المساواة والأمن الجماعي بعد التخلص من الامتيازات الكولونيالية، والمشاركة في الحكم، واتباع وسائل نضالية تتلاءم مع هذا الهدف- المشروع.

إن هذا المشروع يحقق العودة للشعب الفلسطيني، ويقيم كيانه المستقل على كل التراب الوطني الفلسطيني دون أن يُقصر حق المواطنة فيه على العنصر العربي فقط. والأهم هو أن هذا المشروع لا يعالج التناقضات التاريخية بأسلوب بيروقراطي يتعامل معها بشكل فني وإجرائي كما ينطوي عليه أسلوب المعالجة الذي يستند إلى الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967.

سوف يخرج علينا البعض ويقول إن هذا التصور غير واقعي ويستحيل تحقيقه. أقول إن هذا التصور، بالطبع، يستحيل تحقيقه ما لم يتحرر الوعي الفلسطيني من وعي مهجوس بالواقع، إلى وعي متحرر يتطلع إلى تشكيل الأشياء والواقع وفق الأنموذج الصحيح. ويكفي هنا الإشارة إلى أن البحث الاجتماعي النقدي المعاصر بدأ يتجاوز الوضعية الامبريقية التي ترى الوقائع مستقلة تفرض نفسها على الوجود الاجتماعي، و التي تحجب دور الخيال في المعرفة لصالح تأسيس معرفي جديد يستند على أن "ما يحدد مجال العلوم المختلفة هو ليس العلاقات المتداخلة بين الأشياء، بل العلاقات المفاهيمية المتشابكة"، وأن "النظم الاجتماعية والأشكال الثقافية التي تتعدى التجربة المباشرة لابد أن تكون من حيث الحجم والمنظور من وحي الخيال".

هكذا، تكون الممارسة الفلسطينية متولدة من القيم التحررية ومشتقة منها، لا من طبيعة علاقتها بالأشياء فحسب، ومن جهة ثانية تكون ذات طبيعة كفاحية إنسانية بحسب ما يفرضه الأنموذج المعرفي التحرري الصحيح، الذي غرضه هو أن يعمل على صنع أدوات لبلوغ المشروع الفلسطيني مراده. ففي حالة قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، فهل يمكن أن تكون دولة نضالية (كفاحية) قائمة ضمن المجابهة مع المشروع الصهيوني الكولونيالي؟ سؤال نؤجل الإجابة عليه إلى حين.
 

التعليقات