24/02/2014 - 12:38

"ماتروشكا" جمال عبد الناصر!../ مصطفى اللباد

ثارت جماهير المصريين في "25 يناير" لإسقاط ديكتاتورية حسني مبارك، وهي قادرة، قياسا، على إسقاط أي ديكتاتورية أخرى حتى وإن تلطّت وراء صورة... جمال عبد الناصر

ثارت جماهير المصريين في "25 يناير" لإسقاط ديكتاتورية حسني مبارك، وهي قادرة، قياسا، على إسقاط أي ديكتاتورية أخرى حتى وإن تلطّت وراء صورة... جمال عبد الناصر

تعود صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر راهناً للحضور بكثافة في وسائل الإعلام المصرية، بعد تغييب استمر أربعة عقود. الآن، وأينما يممت وجهك في قنوات التلفزيون المصرية، الرسمية منها والخاصة، فستجد صوت جمال عبد الناصر وصورته ببذلته العسكرية حاضرين. ويرسم هذا الحضور المستجد لجمال عبد الناصر في الإعلام المصري علامات استفهام تخص كامل تجربته، التي لم تعايشها الغالبية الساحقة من المصريين، بمن فيهم كاتب السطور.

عانت صورة عبد الناصر منذ وفاته من تغييب أولاً، ومن تشويه متعمد ثانياً طال "التجربة الناصرية"، أي مجمل سياسات الرئيس الراحل في فترة حكمه الواقعه بين عامي 1954 و1970. هكذا تفتّح وعي أجيال متعاقبة من المصريين على سلبيات التجربة بفعل الجهاز الدعائي للرئيس الراحل أنور السادات، الذي قدم هذه التجربة حصرياً من أكثر جوانبها سوءاً، بغرض تمرير سياسات تتصادم مع إيجابيات التجربة الناصرية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً. واستمر الحال كذلك في العقود الثلاثين، لفترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، إذ تم تصوير الفوضى في عصره باعتبارها "حرية ناجزة" في مقابل شمولية عبد الناصر، والتبعية للخارج بوصفها "انفتاحاً" في مقابل انغلاق عبد الناصر، وتراجع مكانة مصر الإقليمية على أنها "عقلانية" لا تورط مصر في حروب كارثية كالتي قادها عبد الناصر.

ومنذ إطاحة حكم جماعة "الإخوان المسلمين" صيف العام الماضي، يتم استحضار صورة الرجل بكثافة في وسائل الإعلام المصرية، ويجد كثير من المنتسبين سياسياً إلى تجربة جمال عبد الناصر طريقهم بسلاسة إلى أعمدة الصحف والبرامج في قنوات التلفزة المصرية، على العكس من العقود السابقة التي عانوا فيها من التهميش الإعلامي والسياسي. ويؤدي التوظيف السياسي الراهن لصورة عبد الناصر وتجربته إلى التباس في المعاني؛ وبالتالي إلى تظهير خلاف أساسي وعميق عن ماهية "الناصرية" في وقتنا الراهن.

"ماتروشكا" الانقلابي

يشبه الخلاف الحاد على مضمون "التجربة الناصرية" "ماتروشكا" روسية، وهي لعبة خشبية لها شكل خارجي يعاد تكراره، ولكن بمضمون أصغر كلما جرى تفكيكها. بمعنى مجازي، يظهر جمال عبد الناصر الآن في وسائل الإعلام المصرية على هيئة "ماتروشكا" توظف سياسياً، وأخرى يفترضها كاتب السطور لما يمكن وصفه "تجربة جمال عبد الناصر" التاريخية. تتوسل كلاهما صورة عبد الناصر لإبراز انحيازات سياسية، ولكنهما تحملان في طياتهما مضامين مختلفة. تحصر "ماتروشكا" الإعلام الرسمي عبد الناصر في صورة الانقلابي؛ فتكثر من ظهوره ببذلته العسكرية لتصبح الأخيرة في ذاتها دليلاً على وطنية ناضحة بحيث تخوّل من يرتديها الحصول على المكانة المعنوية نفسها التي كانت لناصر. وتزداد الجرعة مع تباري القريبين تاريخياً وبيولوجياً من الرئيس الراحل في الإعلان عن تأييد سياسات بعينها، فأصبح "هامان تجربته" الطاعن في السن منظّراً للمرحلة الشبابية الجديدة. وللعلم، هامان هو كبير كهنة الفرعون. وكأن "هامان تجربته" يملك سلطة معنوية من أي نوع، أو أن لأسرته مشروعية سياسية مخصوصة تمنحها لأحد الأطراف وتحجبها عن آخرين. ولقد امتد الابتسار ليطاول سياسيين وصحافيين وناشطين ينتسبون أيديولوجياً لتجربته ويتميزون بالنزاهة والشرف، لاعتقادهم أن الدولة المصرية تحارب معركة المصير مع قوى الإرهاب، وبالتالي تتراجع أية اعتبارات أخرى. باختصار، تثبت "ماتروشكا" الانقلابي أنه في أعماق كثر ممن ينتسبون إلى تجربة عبد الناصر، حتى ولو تنزهت مقاصدهم، عسكري صغير يتحين الفرصة للإعلان عن مكنونات نفسه، وما أن تحك الماتروشكا حتى يقفز صائحاً في وجهك.

ماتروشكا الثوري

تحولت "حركة الضباط" في تموز 1952 إلى ثورة بنفسها الشعبي وبإجراءاتها الثورية التي أظهرت انحيازات اجتماعية لا لبس فيها، فكان "الإصلاح الزراعي" بعد أربعين يوماً من قيامها. كما أن التنمية الاقتصادية الشاملة التي جرت في عهد جمال عبد الناصر، وبناء المصانع والمشروعات الوطنية العملاقة بسواعد المصريين هي ركن ركين من مشروعيته وتجربته السياسية. كان ناصر علماً على الاستقلال الوطني في مصر والعالم العربي والعالم الثالث، ومنارة للعدالة الاجتماعية ومؤمناً حقيقياً بالعروبتين السياسية والثقافية.

حكم ابن الفقراء والمهمشين باسمهم ولمصلحتهم من دون مكاسب شخصية أو عائلية، في مواجهة خصومهم في الداخل والخارج. فلم يكتسب جمال عبد الناصر ابن ساعي البريد البسيط شعبيته أو مشروعيته السياسية بالانتساب إلى أسرة كبيرة أو عصبية قبلية أو طائفية أو جهوية، وإنما من كونه ممثل الفقراء والمهمشين، المدافع عن مصالحهم والمؤتمن على أحلامهم.

بهذا المعنى، يؤدي حصر مشروعية جمال عبد الناصر في أسرته الصغيرة، إلى الحط بأثر رجعي من قدره المعنوي السامق وإلى وضعه في خانة أي حاكم عربي اعتيادي ورث السلطة عن عائلته، أو بصدد التوريث لأبنائه. ولا يمكن لأي منصف أو محب لتجربة عبد الناصر أن يغفر أو حتى يتجاهل الهزيمة المنكرة في العام 1967، التي يتحمل جمال عبد الناصر المسؤولية الأولى عنها. ولا يمكن المرور على كبت الآراء وحرية التعبير والاعتقال السياسي في زمن ناصر مرور الكرام، أو الاكتفاء بتبرير أن للحريات جناحين: اجتماعياً وسياسياً، وأن تلبية المطالب الاجتماعية يغطي على تغييب الحريات السياسية في عهده. ومثلما أسست تجربة عبد الناصر لدولة المخابرات والقمع وعسكرة السلطة، فقد ألهم هذا الجانب من تجربته أنظمة حكم في مصر وخارجها للسير على نهجه، ولكن من دون النفس الشعبي في سياساتها.

ومن وقت تجربة عبد الناصر وحتى كتابة السطور يتقدم أهل الثقة في بر مصر على أهل الكفاءة، فينزلون مصالح النظام مقام الأسبقية والأولوية على مصالح البلاد والعباد فتتردى الأحوال حكماً، في سابقة أرساها تاريخياً "أبو خالد". وفي كل الأحوال، اختصرت السياسة في شخص "الزعيم الملهم" و"القائد المفدى"، فاعتبر كثر من مؤيديه أن الشعب ينتصر حين ينتصر، فكانت النتيجة أنه انكسر حين انكسر.

لا تستند الناصرية الى قاعدة فكرية - الماركسية مثالاً - تمكن من الاشتباك النظري معها، أو على تراث فقهي يمكن تأويله على نحو ما تمثل تيارات الإسلام السياسي بتنوعاتها؛ وإنما على التجربة التاريخية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الحكم. هنا ربما تكون التجربة مفيدة كأداة قياس للمقارنة مع واقع الحال المصري والعربي الآن، باعتبارها تجربة ملهمة للنهوض الوطني والقومي بسلبياتها الضخمة وإيجابياتها الكثيفة، يستحيل أن تتكرر بملابساتها وشخوصها وسياقاتها مرة أخرى.

مات عبد الناصر مقهوراً من ضياع الأرض وتبدد الحلم وانكسار الأمل، وترك تجربة فردية ومتفردة، مفعمة بالانتصارات المعنوية ومثخنة بالجراح والهزائم المادية. فليلفظ الناصريون ذلك العسكري الصغير من أعماقهم، كما "الماتروشكا"، فليس هكذا يكون الانتصار لذكرى جمال عبد الناصر وتجربته. تضع "ماتروشكا" عبد الناصر الثوري عسكرته للمجتمع وتغييبه للحريات وخسارته المروّعة للأرض وتأسيسه لدولة الأمن والمخابرات في ميزان سيئاته، على العكس من وسائل الإعلام وبعض منتسبي عبد الناصر الذين يستعيدون صورته من هذا الباب تحديداً.

تغير الزمان، والعدالة الاجتماعية وإن كانت وما زالت وستبقى قيمة كبرى، إلا أنها لا تبرر أو تسوّغ غياب الديموقراطية وانتهاك حقوق الإنسان. ثارت جماهير المصريين في "25 يناير" 2011 لإسقاط ديكتاتورية حسني مبارك، وهي قادرة - قياساً - على إسقاط أي ديكتاتورية أخرى حتى وإن تلطت وراء صورة... جمال عبد الناصر!
"السفير"

التعليقات