12/03/2014 - 16:34

انتخابات الناصرة والـ"ماذا" بعد../ عوض عبد الفتاح

أن ينقضي حكم الجبهة في مدينة الناصرة في انتخابات ديمقراطية بعد أربعة عقود، نصفهم على الأقل كساد سياسي وثقافي وانقسام اجتماعي وطائفي، هو تطور هام، ويحق لمن تعب واجتهد، وإن أخطأ وأصاب، للوصول إلى هذه النتيجة أن يشعر بالارتياح

انتخابات الناصرة والـ

 أن ينقضي حكم الجبهة في مدينة الناصرة في انتخابات ديمقراطية بعد أربعة عقود، نصفهم على الأقل كساد سياسي وثقافي وانقسام اجتماعي وطائفي، هو تطور هام، ويحق لمن تعب واجتهد، وإن أخطأ وأصاب، للوصول إلى هذه النتيجة أن يشعر بالارتياح.

وبعد أن يسمع خطاب قادة الجبهة التخويني (رامز جرايسي، ومحمد بركة) بعد الإعلان عن فوز علي سلام وهزيمة الجبهة، يرتاح أكثر، ويؤكد مرة أخرى كم كانت الحاجة ملحة إلى تغيير هذه القيادة التي لم تتعلم شيئًا. هل يُعقل أن يضع حزب مركزي، أو قيادته بالأحرى، نفسه مقابل المجتمع بكل قواه السياسية؟!

لا يعني سقوط حكم الجبهة انفتاحاً تلقائياً على التغيير الذي ينشده الجمهور العربي. ما معناه أن هذا لا يعني أن الجمهور النصراوي أو غيره الذي منح ثقته للقوائم أو التحالفات الأهلية الفائزة على الجبهة أو غيرها هي ثقة دائمة ومُحصّنة. وهذه القوى تشمل أيضاً حزبنا، حزب التجمع وحلفاءه الذين ازداد تأثيرهم ونفوذهم.

رأينا ذلك في الانتفاضات العربية. ففي تونس ومصر، حيث أطاحت الشعوب برأسي السلطة، بدون تدخل خارجي، عادت هذه الشعوب واستأنفت بسرعة قياسية على من تولى القيادة باسم الثورة، على خلفية إخفاقها في الوفاء بوعودها. في تونس أجاد الثوريون من كل الاتجاهات إدارة العملية الانتقالية والعسيرة المستمرة، وفي مصر كان بمقدور الجماهير أن تطيح عبر ثورة ثانية بحكم محمد مرسي لو لم يتدخل الجيش ويعود حكم العسكر الذي وضع مصر أمام المجهول.

هذه الأنظمة، أو رموزها، الذين أطاحت بهم الشعوب العربية، لم تدرك ما كان يعتمل داخل مجتمعاتها وذلك بسبب تكلّس الفكر لديها أولاً، وثانياً بسبب تشكل شبكة من المصالح على مدار سنين من الاستبداد الذي يؤدي إلى التكلس، وإلى تحوّل السلطة إلى ملك للزعيم وحاشيته.

إن تجربة الاستبداد والقعود الطويل في الحكم وما تفرزه ومن عُقم، هي نفسها في كل مواقع الاستبداد. هي تنتج نفس النوع من البشر والمصالح.

الجبهة في الناصرة حكمت أربعة عقود. في العقدين الماضيين أو أكثر، كانت المتغيرات الاجتماعية في مجتمع الناصرة (أسوة بالمجتمع العربي) تتفاعل والشعور بالغبن يتزايد، وكانت قيادة الجبهة تنظر إلى هذه المتغيرات... تراها، ولكنها لا تلاحظها ولا تتفاعل معها ولا تدركها.

إن التجاهل أو تبلد المشاعر حيال هذه المتغيرات وما يرافقها من مشاعر الغضب والمطالبة بالتغيير، نابع من الشعور النرجسي أنهم قوة وطنية ولها شرعيتها التاريخية. هكذا تتصرف أنظمة الاستبداد.

عاشت قيادة الجبهة مسترخية في حضن الماضي، اعتاشت من تجربة الفترة الأولى التي انتصرت فيها جبهة الناصرة على القوى التقليدية آنذاك (1975)، إذ تحولت الناصرة في بداياتها وبحق إلى قلعة وطنية، ليس فقط بسبب صعود الجبهة بل أيضاً بسبب ظهور قوى وطنية شعبية وأكاديمية تحالفت مع الجبهة (وتنافست معها لاحقاً) كالحركة التقدمية، وهي قوى تم تهميشها وشن حملة شرسة ضدها لاحقاً لأنها تجرأت على تأطير نفسها بتنظيم سياسي متمايز.

قبلها وبعدها كانت حركة أبناء البلد الوطنية تتعرض بمنهجية لقصف آلة دعاية الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة.. ولمن يتناسى، فإن الدعاية الداخلية التي وجهت إلى أعضاء الجبهة كانت تقول إن الحركة هي صنيعة المخابرات.

غير أن انكسار المرجعية الأممية عام 1995 التي كانت تستند عليها الجبهة، وعجزها عن تطوير خطاب وطني وديمقراطي يلائم التحولات التي كانت تجري في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، دون أن تلاحظها، أدخلها في نفق من التراجع والتآكل. ويعود بقاؤها على قيد الحياة، إلى اجترار الدور التاريخي الذي لعبته في الماضي، وإلى ما بقي من جهازها البيروقراطي والمعبأ والمشحون بنرجسية فئوية لا حدود لها، وكراهية لكل ما هو قومي. كما أن لجوءها هي والموحدة في التسعينيات إلى الخطاب الطائفي ساعدها في استمرار حكمها، غير أن هذا السلاح الخطير استنفذ ذاته، ولم يُسعفها في هذه الانتخابات.

هذا الخطاب التخويني وكذلك الطائفي (المخفي) بالذات، كان سبب بقائها على قيد الحياة، ونفس الوقت هو سبب انهيارها المدوي في الناصرة وغيرها من البلدات الأخرى. وسيكون سبب المزيد من التدهور في وجودها وحضورها إن واصلت التمسّك بروح خطابي بركة وجرايسي المدمرين.

إنه لمحزن أن يتواصل هذا الخطاب المريض، بعد انتهاء الانتخابات وأن يُعبّر عنه في خطابين يائسين.

منذ البداية تركز خطاب قائمة "ناصرتي" وأنصارها وحلفائها في مواجهة خطاب وممارسة الجبهة على نهج الاستعلاء والتهميش، وعلى وضع الجبهة لنفسها في مرتبة عالية فوق الجميع، (فكان خطاب الرز واللبن). ولكن الجبهة بدل أن تراجع نفسها في خطابها حتى في حملتها الانتخابية، زادت جرعات إلى هذا الخطاب. وهو السبب الذي أوجد هذا الفرق الهائل في الأصوات، ليس لأن الجمهور "يموت" بعلي سلام، بل رغبة منه بمعاقبة المتكبرين والمتعالين ولأنه يريد التغيير ببساطة.

كان يفترض بقيادة الجبهة أن تعترف بالهزيمة، كما تتصرف القيادات المتزنة، كما اعترف العديد من الرؤساء الذين لم يسعفهم الحظ، والذين لم يلقوا خطابات نارية يحملون فيها المسؤولية للأسطول الأمريكي السادس وقطر العظمى وإسرائيل وغيرها.

إن الهجوم على التجمع الوطني الديمقراطي ونعته باللاوطني، ليس عابرًا، بل هو استمرار لنفس النهج المتبع منذ ممارستهم لموقفهم المشين من إسرائيل أثناء وبعد حرب أل 48.. ومروراً بالهجوم المنهجي على الحركات القومية.

طبعاً الهزيمة ليست أمراً هيناً، ويمكن فهم هذا الشعور. ويمكن فهم حاجة القائدين الجبهويين إلى صرف غضب كوادرهم عن مسؤوليتهما عن هذه الهزيمة. لكنهما لا يدركان مدى خطورة التعلق المزمن والمرضي بمدرسة التخوين البائسة، وبنظرية المؤامرة، وبشحن جمهورهما ضد الكل، والأخطر بخطاب الشحن الطائفي الذي يحتاج الآن إلى جهد هائل لاحتواء مفاعيله التدميرية. هذا خطاب أنظمة الاستبداد، خطاب عتيق، بائس، ومدمّر هدفه البقاء في الحكم وإنزال المزيد من العقاب بالشعب.

حين تقوم قيادة الجبهة بإعادة ضخ جرعات مسمومة في نظرية المؤامرة وتخوين الآخرين، فإنها تزيد من سُمك الغشاوة التي بثتها على مدار سنين من التضليل والخطاب العقيم على عيون أوساط واسعة من كوادرها الوطنية والمناضلة.

ماذا بعد

ليست الجبهة وحدها مطالبة بالمراجعة وإعادة البناء. لكن الجبهة كتيار مركزي في الخريطة الحزبية العربية في الداخل ومن أقدم التيارات السياسية والذي احتفظ بنفوذ مركزي لعشرات السنين في بنية القرار العربي في الداخل، مطالب أكثر من غيره بإجراء المراجعة.

لا أعتقد أن كوادره المبدئية وهم كثر، ستعفي القيادة من تحمل المسؤولية. وهذا ليس ديناً للأعضاء ولكوادر الجبهة بل للناس أيضاً، لأن قراراته كان لها دائماً، مثل كل حزب مركزي، تأثير على حياة الناس. وشعبنا بحاجة إلى كوادر وأنصار الجبهة في نضاله المستمرّ.

لا يُنصح من تولى القيادة في الناصرة أو في غيرها مكان الجبهة أو في غيرها، أن يستسلم لنشوة الانتصار، وإن كان التغيير الذي حصل ضرورياً وملحاً.. ليس منذ اليوم بل منذ سنوات طويلة.

كنا نحن في التجمع، وحلفاؤنا، نطمح في الوصول إلى رئاسة البلدية في الجولة الأولى، نحن ببرنامجنا الواضح والمستند إلى رؤية واضحة في الوصول إلى رئاسة البلدية. غير أنه تبيّن لنا قصورنا وعدم جاهزيتنا لذلك، رغم الجهد الكبير الذي بذله الفرع. ولكن الأمر الذي تأكد لنا، وكحزب يتدرب باستمرار على التفاعل مع المجتمع، أن الجمهور في المدينة متعطش لتغيير الحكم القائم، وذلك عبر من يستطيع أن يضمن له ذلك بغض النظر عن قدرته على الإدارة والقيادة في هذه المرحلة تحديدًا. وهذا ما حصل... وهي مرحلة انتقالية يدرك الكثيرون ممن صوتوا لـ"ناصرتي" أنها لن تكون سهلة، ولكنها تفتح باب التغيير.. وهو طريق طويل.. سينطوي على تحدٍ كبير. ونحتاج إلى أوسع التحالفات وإلى العقول الكثيرة المتوفرة في المدينة لخوض عملية التغيير الشاقة والصعبة ولكن الممكنة... والممكنة جدًا..

مهمات قطرية ووطنية

ليس بالإمكان، ولا يجوز، فصل المهمات الملقاة على عاتق الإدارة الجديدة في الناصرة، عن مهمات المجتمع العربي. إن هذا التغيّر في تموضع الأحزاب والأطر الفاعلة في الوسط العربي يجب أن يكون محفزاً لخوض غمار التجديد والمبادرات الخلاقة والتنسيق المشترك. من المفترض أن لا ننتظر كثيراً، بعد انقشاع غبار "المعركة" وبعد أن تهدأ النفوس، أي بعد أن تبدأ قيادة الجبهة باستيعاب الوضع الجديد وما يتطلبه، وبعد أن تكتشف الإدارة وطواقمها الجديدة (ناصرتي وحلفاؤها) حجم وكبر وثقل المهمات الملقاة على عاتقها. إن إدارة المجتمع العربي ليس كإدارة معركة انتخابية التي تعتمد الإعلام والتحشيد وإدارة التراشق الإعلامي، بل هي مسألة معقدة ودقيقة وتحتاج إلى نضج عالٍ في الرؤية، والنظرة الشاملة لتطور المجتمع العربي، لتحصينه ضد مظاهر التفكك والتأسرل والحشد الطائفي.

أما المجتمع العربي وقواه الوطنية والأهلية، بمن فيهم الأكاديميون والمثقفون والعمال المتنورون والطلاب الناشطون، فأمامهم مهمات أساسية هي كفيلة وحدها بشق الطريق نحو مرحلة جديدة والتي يمكن أن تنقلنا كعرب في الداخل إلى مجموعة قومية متماسكة ومحصنة (نسبياً) وهي:

1. فتح حوار جدي وحقيقي بين كافة القوى والحركات السياسية، بما فيها الجبهة، لمواجهة تداعيات هذه الانتخابات الاجتماعية، ولاعتماد خطاب وطني جامع لكل طوائف شعبنا وللتداول في سبل مواجهة المخططات الإسرائيلية، داخل الخط الأخضر، ضد القضية الفلسطينية عمومًا؛

2. إطلاق المبادرة لبناء القيادة الوطنية الموحدة لعرب الداخل، وذلك من خلال الوصول إلى انتخابات ديمقراطية وطنية للجنة المتابعة، ومن خلال وضع خطوات عينية متدرجة وصولاً إلى هذا الهدف؛

3. وضع إستراتيجية حقيقية لخوض نضال شعبي منهجي.. وهي عملية تنطوي على فعل تراكمي يصبُ في تنظيم المجتمع العربي الفلسطيني أي في المهمة الأولى المذكورة أعلاه. يُقام إطار قطري لهذا الغرض، يضم ممثلي اللجان الشعبية القائمة في البلدان العربية. إن تجربة مقاومة "مخطط برافر" ينبغي أن تكون محفزاً ومشجعاً على ذلك؛

4. الانخراط في الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل، نظراً لكون عرب الداخل في مكانة تؤهلهم للمساهمة أكثر من غيرهم من التجمعات الفلسطينية في تعرية النظام الإسرائيلي العنصري والكولونيالي. وهذا لا يفيد القضية الفلسطينية فحسب، بل أيضًا يُفيد نضالنا لأنه من شأنه أن يجلب الضغط على الحكومة الإسرائيلية للتراجع عن مخططاتها. ونشير إلى الدور الإعلامي على المستوى الدولي في الضغط على إسرائيل لتجميد قانون برافر.  

التعليقات