29/03/2014 - 15:09

7 سنوات على المنفى؛ عزمي بشارة القائد والمفكر../ د. جمال زحالقة

سبع سنين مضت، ولسنا بحاجة لنتذكر ما قاله وما كتبه بشارة، فهو واقع نعيشه يوميًا، وأفكار بشارة ما زالت حية في وعي الناس ووجدانهم، ولها الأثر الكبير في حراكهم السياسي. صحيح أن بشارة في المنفى، لكن لا أحد يستطيع أن ينفي أفكاره! بشارة في المنفي وأفكاره حية في الوطن

7 سنوات على المنفى؛ عزمي بشارة القائد والمفكر../ د. جمال زحالقة

سبع سنوات مضت على المنفى القسري من الوطن للدكتور عزمي بشارة. هي فترة صعبة بالنسبة لنا، نحن أصدقاؤه ورفاقه المشتاقون دومًا للقائه ولحضوره بيننا. لقد تعددت الألقاب التي حملها، لكنه بالنسبة لنا أولًا وقبل كل شيء قائد وطني، كرس نفسه للعمل والنضال من أجل تصحيح الغبن التاريخي، الذي لحق بشعب فلسطين. من هذا الموقع/الموقف انطلق بشارة، من المعاناة الخاصة لشعبه، إلى الانحياز للشعوب المقهورة وإلى الاستناد إلى قيم التحرر الكونية في التعامل مع قضايانا العينية، بما فيها قضية فلسطين وقضايا الوطن العربي عمومًا. ولعل أكثر ما يميز بشارة هو دأبه الدائم، وحتى اليومي، للربط الجدلي بين الفكر والواقع. هكذا نرى، نحن في الداخل الفلسطيني، بشارة من موقعنا ومن تاريخ علاقتنا وتفاعلنا معه كقائد سياسي أولًا، وكمفكر ثانيًا. لكن المنفى القسري فرض عليه أن يكون عمله السياسي الميداني المباشر محدودًا، ودوره الفكري والبحثي رحبًا وواسعًا أكثر بكثير مما كان عليه في الوطن.

التقيت بعزمي بشارة في الجامعة العبرية في القدس، التي التحقت بها بعد أن قضيت عامين في السجن. كنت حينها أعيش النقاشات الصاخبة بين المنظمات والتيارات اليسارية الفلسطينية. أول ما لفت انتباهي عنده هو قدرته الخارقة على طرح الأسئلة غير المتوقعة في أي قضية تعرض أمامه، وأذكر جيدًا تحليله الثاقب لمواقف اليسار الفلسطيني في ذلك الحين، وكيف لخصه بجملة: "هذا اليسار، ينادي بالتحرر الجذري، إلا أنه يريد أن يبقى معارضة لا أن يقود شعبه، وهو لا يستطيع أن يكون بديلًا لفتح، فلنبدأ من هنا ونتقدم بلا أوهام". قيل هذا الكلام في أواسط السبعينيات حين ساد الاعتقاد بأن اليسار يكتسح الدنيا، بما فيها فلسطين.

لقد تميزت فترة عزمي بشارة في الجامعة بالصدام والمواجهة مع اليمين الفاشي، وبنقاش صاخب في الحركة الطلابية الفلسطينية. لم يهدأ بشارة وخاض معمعان النقاش بين الطلاب، ولكن بالأساس لم يتوان في المواجهة، ولم يتجنب الصدام مع اليمين الإسرائيلي، الذي اعتبر بشارة "المحرض رقم واحد"، إضافة إلى ألقاب مثل "داعم الإرهاب ضد إسرائيل"، وكذلك "قلب الهجوم على الدولة"، وحتى "ممثل م. ت. ف في الجامعة" وما شابه من ألقاب هي بالمفهوم السائد في إسرائيل وجامعاتها تحريض سافر وهدر للدم.

عشية المظاهرات، التي كننا ننظمها ضد جرائم الاحتلال وضد مصادرة الأراضي والملاحقة السياسية، كانت لوحات الإعلانات في الجامعة تمتلئ بملصقات مثل: "بشارة يدعو الطلاب العرب للتسلح بالسكاكين والعصي في المظاهرة"، "عزمي بشارة للطلاب العرب: أهجموا لا تخافوا!"، "بشارة يدعو لرفع أعلام م. ت. ف في الجامعة"، "بشارة يقود الطلاب العرب في إنشاد أغان معادية". وغير ذلك من الشعارات. وفي كل مظاهرة كان الطلاب اليهود من اليمين المتطرف يحاولون الاعتداء عليه، لكن ما كان أحدهم يقترب منه حتى يجد نفسه تحت الأقدام من شدة الضربات التي يتلقاها من شبابنا.

في إحدى المظاهرات، التي نظمناها بعد تقديم عزمي بشارة للمحكمة التأديبية في الجامعة، هاجمت قطعان اليمين الفاشي الطلاب العرب بالعصي والسلاسل الحديدية، بوجود الشرطة وحرس الجامعة، التي وقفت متفرجة. وقاد طلاب اليمين حينها تساحي هنغبي ويسرائيل كاتس وأفيغدور ليبرمان، وكلهم أصبحوا فيما بعد وزراء في حكومات اليمين في إسرائيل. لقد التقى بشارة بهؤلاء حين أصبح نائبا في الكنيست، واستمر الصدام السياسي معهم ومع غيرهم ومع المؤسسة الإسرائيلية عمومًا في معركة شرسة، يصعب وصفها، انتهت بمنفاه الاضطراري بعد ملاحقة ومحاولة تصفية سياسية.

في النقاشات السياسية والفكرية في الجامعة زرعت البذور الأولى لفكر عزمي بشارة السياسي. هو لم يجد، وأنا أعرف ذلك عن قرب، أجوبة شافية على أسئلته في أي من التيارات السياسية الموجودة آنذاك، ولعل أهم ما رسب من تلك الفترة عنده هي الأسئلة الكثيرة حول مفاهيم مثل الديمقراطية واليسار والقومية والوطنية، وحول قضايا تتعلق بالحركة الوطنية الفلسطينية وإستراتيجيتها وقضايا عرب الداخل وجدلية الفكر والواقع وغيرها. لقد بدأت في الحقبة الجامعية تتبلور أفكار بشارة ومبادئه وتوجهه السياسي والقيمي، وهذا التوجه بالذات جعله يصطدم مع الكثيرين، وهو لم يتهرب من الصدام يومًا، لم يفعل ذلك سابقًا ولا الآن.

كان عزمي بشارة شريكًا فاعلُا في إقامة وقيادة الاتحاد القطري للطلاب العرب في جامعات البلاد، وقبلها كان مؤسسًا لاتحاد الطلاب الثانويين العرب. حتى في تلك الفترة المبكرة من حياته، برزت إحدى المعالم الهامة في شخصية عزمي بشارة السياسية. على العكس مما روج له المنافسون وما اتهمه به الحاقدون عليه، فهو كان دائمًا حريصًا على بناء المؤسسات، التي اعتبر إقامتها أحد أركان فكره السياسي، باعتبار أن الهوية القومية والوطنية في ظروف فلسطينيي الداخل المعقدة بحاجة إلى مؤسسات وطنية لاحتضانها ورعايتها وبدون المؤسسات الوطنية فإن خطر الأسرلة يهددهم. ولعل أهم المؤسسات التي أقامها بشارة هي حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي أسماه البعض "حزب الرجل الواحد"، وتوقعوا اختفاءه عن الساحة السياسية بعد غياب بشارة، ليكتشفوا بعدها أن هذا الحزب ازداد قوة واثرًا.

من أهم مميزات نهج بشارة السياسي هو أنه كان دائمًا يقيم المؤسسات، ويحاول أن يجسد أفكاره عبر مؤسسات، لذا فإن إقامة "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" هو استمرار لما فعله بشارة منذ خطواته الأولى في العمل السياسي وفي النضال الوطني وفي بلورة فكره ومعتقداته. وقد أسس أو شارك في تأسيس تنظيمات ومؤسسات كثيرة منها اتحاد الطلاب الثانويين ومثله في لجنة الدفاع عن الأراضي، الاتحاد القطري للطلاب العرب، ميثاق المساواة، التجمع الوطني الديمقراطي، اتحاد الشباب الديمقراطي، مركز "مواطن" في رام الله، مركز "مدى الكرمل" للأبحاث الاجتماعية التطبيقية في حيفا، جمعية الثقافة العربية في الناصرة.

حين بادر بشارة إلى إقامة التجمع الوطني الديمقراطي، كانت قد اختمرت عنده فكرة الحزب وبرنامجه السياسي. وكان كعادته لا يبحث عن شعبية عابرة بل عن تعبير صادق عما يؤمن به ويناضل من أجله. وليس صدفة أن يكون برنامج التجمع وخطه السياسي، كما رسمه بشارة، يحمل ردودًا على أسئلة كثيرة طرحت على الساحة الطلابية قبلها في النقاش حامي الوطيس بين الحزب الشيوعي وحركة أبناء البلد. ومع ذلك تجاوز فكر بشارة السياسي الحقبة الجامعية ليدخل مجالات فيها التجديد من جهة والتحدي المباشر للصهيونية وللنظام السياسي السائد في إسرائيل.

عارض بشارة بشدة الانضواء تحت مظلة اليسار الإسرائيلي، حتى ذلك المعادي للصهيونية منه، و انحاز إلى الانتماء للحركة الوطنية الفلسطينية، وكرس عمله السياسي لبناء الحركة الوطنية في الداخل وفي مركزها حزب التجمع، ووضع برنامجًا واختط نهجًا في العمل اعتبرته المؤسسة الإسرائيلية لاحقًا خطرًا إستراتيجيًا على الدولة اليهودية.

حمل المشروع السياسي لبشارة عنوان "هوية قومية ومواطنة كاملة"، ومن خلاله جرى التأكيد على انتماء فلسطينيي الداخل للشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية، والتشديد على الهوية القومية العربية والهوية الوطنية الفلسطينية، ومن خلاله أيضًا جاء التصدي لمفهوم المساواة، الذي اعتبرته القوى الفاعلة على الساحة مشروع اندماج وأسرلة، وطرحت فكرة أن لا مساواة في دولة تعتبر نفسها دولة يهودية ودولة لليهود، وأن المساواة الحقيقية ممكنة فقط إذا كانت الدولة لكل مواطنيها وليست لليهود فقط. وهكذا حول بشارة مفهوم المساواة من مشروع اندماجي إلى مشروع مناهض للصهيونية ومتناقض معها، إذ أن "الدولة اليهودية" هي الصهيونية ذاتها.

بعد طرح مشروعه السياسي وإقامته لحزب التجمع تحول بشارة إلى أهم المتحدثين في العالم ضد الصهيونية وضد نظام "الدولة اليهودية"، واستطاع أن يضع علامات استفهام حقيقية على المستوى الدولي على مفهوم "الديمقراطية الإسرائيلية" وعلى مشروعية "الدولة اليهودية". وإذا أخدنا بعين الاعتبار أن بشارة حمل أيضًا مشروع تنظيم المواطنين العرب في الداخل على أساس قومية وعلى قاعدة بناء المؤسسات الوطنية، نستطيع أن نفهم سر الغضب والحقد والرغبة بالانتقام من بشارة في إسرائيل باعتبار أن ما يروج له من أفكار وما يقوم به من أفعال يشكل "خطرًا على الدولة".

في يناير 2007، نشرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية تصريحًا لرئيس المخابرات الإسرائيلية "الشاباك" مفاده أن "ما يجري في المجتمع العربي في إسرائيل هو التهديد الإستراتيجي على إسرائيل كدولة يهودية". بعدها بشهرين انفجرت قضية عزمي بشارة، حيث قامت المخابرات بتلفيق ملف أمني خطير ضده، وذلك بهدف حبسه والتخلص منه. وتعلقت التهم التي وجهت لبشارة بالحرب الثانية على لبنان عام 2006، حيث وجهت له تهم مثل "التخابر مع عميل أجنبي"، "تقديم معلومات للعدو" و "مساعدة العدو أثناء الحرب"، والتهمة الأخيرة تحديدًا عقوبتها السجن المؤبد وحتى الإعدام. وقد اتهم بشارة بأنه كان يوجه صواريخ حزب الله إلى حيفا وإلى شمال إسرائيل.

لقد أنكر بشارة التهم الموجهة إليه، لكن الدافع الحقيقي لهذه التهم كان ما هو أخطر من الصواريخ وهو كشف القناع دوليًا عن الوجه الحقيقي للنظام الإسرائيلي، الذي سوق نفسه كنظام ديمقراطي وحظي تبعًا على شرعية وعلى دعم عالمي. لقد شخصت إسرائيل أن فضح الطبيعة الفعلية للديمقراطية الإسرائيلية والإقناع بعدم شرعية نظام الدولة اليهودية، والتأكيد على أن المشكلة مع إسرائيل ليس احتلال 67 فحسب، بل ما حدث عام 48 أساسًا، كلها تعد تهديدًأ إستراتيجيًا لللدولة اليهودية.

لقد شخصت إسرائيل أيضًا أن مشروعًا مثل دولة المواطنين هو خطر على الدولة اليهودية، وقد يقود إلى نهايتها، وكذلك فإن التاكيد على الهوية القومية وعلى الحقوق القومية لعرب الداخل يقود إلى دولة ثنائية القومية ونهاية الدولة اليهودية.

هذه هي التهم الحقيقية التي وجهت لعزمي بشارة وبسببها جرت ملاحقته حتى وصل إلى المنفى القسري. ولعل أكثر ما أزعج إسرائيل هو أن بشارة مثقف عضوي، لا يكتب المقالات ويلقي المحاضرات فحسب، بل كان قائدًا سياسيًا حرث البلاد شمالًا جنوبًا، وأسس حزبًا، وحشد الشباب وحرضهم، وأصبح خطابه السياسي هو المهيمن والسائد عند الفلسطينيين في الداخل. هو لم يكتف بالموقف السياسي بل سعى إلى بناء قوة سياسية فاعلة هي التجمع الوطني الديمقراطي، والذي يعتبر قوة سياسية مركزية على ساحة الفلسطينيين في الداخل.

سبع سنين مضت، ولسنا بحاجة لنتذكر ما قاله وما كتبه بشارة، فهو واقع نعيشه يوميًا، وأفكار بشارة ما زالت حية في وعي الناس ووجدانهم، ولها الأثر الكبير في حراكهم السياسي. صحيح أن بشارة في المنفى، لكن لا أحد يستطيع أن ينفي أفكاره! بشارة في المنفي وأفكاره حية في الوطن.

التعليقات