10/04/2014 - 16:27

من ذاكرة الأسر: 17 نيسان يستحضر أيقونات في حاضرنا البهيمي../ توفيق عبد الفتاح

وبروح الشباب والاندفاع الجامح والغضب ونزوع الرفض، تحولت المجموعة في أواسط الثمانينيات إلى خلية مقاومة خضع عناصرها للتدريبات المختلفة في الداخل وفي سوريا، ورصدت الأهداف والمهمات ونفذت عملية اختطاف جندي إسرائيلي بهدف مبادلته بأسرى فلسطينيين، إلا أن خللا ما اضطر عددا من أفراد الخلية إلى قتل الجندي لأسباب لم تتضح بعد، والتي تحولت إلى لغز بحسابات الاستخبارات الإسرائيلية.. بل ربما بحساباتنا ايضا..

من ذاكرة الأسر: 17 نيسان يستحضر أيقونات في حاضرنا البهيمي../ توفيق عبد الفتاح

لم تكن تلك اللحظات الحاسمة، من سويعات الصراع العابر، وليست همسات من رومانسيات الشباب والاندفاع المغلف بشبق الأحلام وتهور البدايات، بل الأيقونات التي ألقت بوميضها إشعاعات في متاهات الطريق الموحش، وإضاءات حملت عمق وصهيل الثورة والمعاني المنتزعة، ونزوع الإرادة الإنسانية الجامحة التي ربما دفعت بعضهم للريادة نحو الموت أو ربما نحو الحياة والمستقبل والمستحيل..

أكتب كلماتي بحروفي المترددة والخجولة نزفًا، بعدما تغيبنا عنهم حيث نتمرغ في ساحات "النضال القذر" وعبث الحاضر، و بعد أن غادرنا رفاقنا منذ ثمانية وعشرين عامًا ونحن لا نقوى على الوفاء بما يستحقون منا، رغم عناء المستحيل وصلف الزمن، ذلك بعدما كانت مجموعة رفاق تتقاسم الرصاص ونصف الرغيف.

كنا نتقاسم الجوع والجرح والموت معًا، ونصف الوطن، نكسر طفولتنا ونستنشق رائحة البارود قبل أن نستنشق رائحة الحليب من حلمات أمهاتنا اللدنة.. ويتعذر لقاؤنا بهم في الأسر لوطأة التقييدات الإسرائيلية التي تحول دون ذلك..

التقينا سويا في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بتعارف الصدفة التسلسلي كمجموعة من الشباب القادم من مناطق مختلفة وخلفيات متشابهة بحس متجانس متأثرين بما يدور في محيطنا وما يتعرض له شعبنا، لاسيما مشهد المقاومة والاستبسال لأبناء شعبنا خلال اجتياح لبنان عام 1982 وجرائم الاحتلال وارتكاب المجازر والفظائع، ومشهد الطفولة المقاوم "لأطفال الآر بي جي" الذي كان يخجلنا، ومشهد الحافلات الإسرائيلية التي تقل أولئك الأطفال معصوبي الأعين، القادمة من "المية والمية" وبرج البراجنة" من الجنوب اللبناني مرورا بطريق البروة بلد محمود درويش المهجرة" والتي لا نقوى على مجافاتها بعد، ومشهد الجرحى مبتوري الأطراف ممن واظبنا على زيارتهم في مستشفيات حيفا، وأبرزها المشاهد المروعة من مجزرة صبرا وشاتيلا، وتأثرنا العميق بالمشهد الإجرامي الذي اجترحه الجيش الإسرائيلي وحزب الكتائب اللبناني بحق أبناء شعبنا هناك..

وبروح الشباب والاندفاع الجامح والغضب ونزوع الرفض، تحولت المجموعة في أواسط الثمانينيات إلى خلية مقاومة خضع عناصرها للتدريبات المختلفة في الداخل وفي سوريا، ورصدت الأهداف والمهمات ونفذت عملية اختطاف جندي إسرائيلي بهدف مبادلته بأسرى فلسطينيين، إلا أن خللا ما اضطر عددا من أفراد الخلية إلى قتل الجندي لأسباب لم تتضح بعد، والتي تحولت إلى لغز بحسابات الاستخبارات الإسرائيلية.. بل ربما بحساباتنا ايضا..

بعد قرابة السنتين في أوائل عام 1986 وبعد تحريات استخبارية مكثفة ودقيقة اعتقلت المجموعة التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ضمن حملة إسرائيلية استهدفت الجبهة على أرض فلسطين التاريخية، في زمن الثورة بعد أن تم توجيه ضربة قاسية لها في غزة والضفة الغربية، في آذار من العام 1986 وشملت حملة الاعتقالات كلا من رفاق الداخل إبراهيم بيادسة، إبراهيم أبو مخ، صالح أبو مخ، وليد دقة، داهش عكري، توفيق عبد الفتاح، ناصيف نصار، وقيادات من غزة ومن الضفة الغربية، أبرزهم الشهيد الذي اغتيل خلال الاعتقال في سجن الرملة، إبراهيم الراعي بسبب صموده الأسطوري وعناده النادر وأهمية دوره ومكانته العسكرية..

نستحضرهم اليوم روحًا وعبقا من الأصالة النادرة، ليس لنكتب التاريخ وأمجاده، وليس تغنيًا بمآثر الماضي لرذالة الحاضر فحسب، بل وفاء للطريق الذي اخترناه.. واستكمالا للمسيرة واستحقاقاتها، ولنكتب بحروف وأبجديات المرحلة وسماتها من لعنة الحاضر لنزيل لعنة التاريخ ونمسح العار عن جباهنا، لنكرس الحياء والخجل أمام المصير في زمن عز فيه الحياء..

لاريب أنها كانت تلك هي سمات المرحلة، وكان ذلك الجموح المبرر واستحقاقات الزمن الفلسطيني الثائر، فإن الراهن يستدعي تلك الروح "المتواضعة" للنضال الشعبي والتحشيد الجماهيري الوحدوي واستعادة روح الشعب وإرادته الجامعة لنتيقن أننا شعب يستحق الحياة كما يستحق الحرية لنفض غبار العار أو وحله من على جباهنا.

أكتب هذه الكلمات وأنا مفعم بالوجع والأمل، وأدونها في زمن "وليد الدقة" الموازي، وأرسمها حروفا للطفولة ولـ"ميلاد" كما هو "ميلادي" الذي بت أسمع واستشعر نسيم همساته، ومناغاة وحليبا تبشر بانبلاج صباحات تبلل خصلات شعره الطفولي، وتحمله على أهداب الندى، يحلق بجناحيه الصغيرتين برحب الفضاءات، وشمس الصبح تتسلل خيوطها على وجنتيه وهي تعلو بسمته بعرضها لترسم ملامح طريق أخرى وأفق آخر في هذا الليل البهيمي.

التعليقات