03/05/2014 - 13:40

الاستغلال الصامت.../ حنين زعبي

وفي النهاية، يُبقي كل حادث أو معلومة، أثرا ذاتيا في المتلقي، وما بقي من هذا البحث، ضمن سياق ما نعيشه هو ما مفاده، أن الحياة أصعب بكثير وأقسى، عندما ننطلق من منطلق أن الدفاع عن أنفسنا هو أمر يخضع لشروط وتسهيلات وحسابات نجاعة، أو ربح وخسارة، بينما، يبدو الواقع أكثر وُدّا وتحملاً، عندما ننطلق من واجبنا، وليس فقط حقنا، في الدفاع عن أنفسنا، ولتذهب حسابات الجدوى إلى الجحيم

الاستغلال الصامت.../ حنين زعبي

كما هي الحياة سلسلة من النجاحات والفشل، تكبر أو تصغر، كذلك هي سلسلة حالات من القمع أو الحرية، تكبر أو تصغر. وهي أيضا حالات من الخوف أو المحاسبة، الكبت أو المكاشفة.

البحث الأخير، الأول من حيث موضوعه، الذي بادر إليه تنظم "كيان" النسوي، والذي يدور حول انتهاك حقوق العاملات الفلسطينيات من قبل مشغليهن العرب، هو بحث غاية في الأهمية، حيث يعكس حالات القمع الصامت، وحالات خوف المظلوم من المكاشفة والمحاسبة.

وقد يكون أصعب ما في البحث، وأكثره مدعاة للغضب والألم والقلق معًا، هو خوف العاملات الفلسطينيات من محاسبة أرباب عملهن على واقع الانتهاك اليومي لحقوق عملهن.

حالات العنف الصامت، المخفي عن حديثنا اليومي، والموضوعات التي نتناولها، والتي لا نطور لها وسائل للنضال أو حتى للاحتجاج، هي أكثر عنفًا من حالات القمع التي لا تسمح لنا إرادتنا من أن نصمت عنها، فنناضل ضدها حتى وإن فشلنا، أو تجزأت وانكمشت نجاحاتنا.

الانتهاكات المسكوت عنها، تطبَّع في نفسياتنا وأذهاننا على أنها جزء لاصق وطبيعي من شروط الحياة، فندرب أنفسنا على التأقلم معها، بدل أن نحثها على التمرد. وأخطر ما في "العنف الصامت" هو تطويع نفسية المقموع للظلم، وإنتاج مجتمع سلبي تجاه حقوقه، ومستعد سلفا لاستقبال الانتهاكات بحقه.

ما عكسته إفادات النساء العاملات، في بحث "كيان"، يدل على نتائج خطيرة، خطيرة في عمق الاستباحة لحقوق العمل، وخطيرة في مدى استفحالها كظاهرة، وخطيرة في إظهارها لمجتمع سلبي، غير واع لحقوقه، وعندما يعي فهو يتردد في المكاشفة والمحاسبة والمطالبة.

النتائج خطيرة، وأورد أغلبها هنا:

88% من العاملات يحصلن على معاش أقل من الحد الأدنى للأجور، و80% من النساء العربيات العاملات لا يحصلن على قسيمة راتب، و 68% منهن لم يتلقين أجورا مقابل الساعات الإضافية، ولم يتم إعطاؤهن الإجازات في الأعياد، و92% من العاملات اللاتي شملهن البحث لم يتلقيّن مخصصات تقاعد.

تلك المعطيات تفيد بوجود حالة من "الاستباحة"، حيث أننا نتحدث عن واقع فيه 40% من النساء الفلسطينيات يعملن في القطاع العام. هذه "الاستباحة" وبدل أن تقلق المشغلين أنفسهم، جراء تعريضهم للمحاسبات والعقاب القانوني والاجتماعي، تنتج حالة استرخاء وراحة لمشغِّلين، كون الانتهاكات تتحول إلى قاعدة عامّة، وليس إلى استثناءات.

والمحاسبات القانونية هي ليست الوحيدة التي يجب أن تقلق أرباب العمل، بل أيضا محاسبة المجتمع الذي يساهم هؤلاء بإفقاره، عليها ألا تكون واهنة.

نحن مجتمع يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، وتلك المعطيات تعني أننا كمجتمع نساهم بشكل مباشر في إنتاج أكثر من 30% من فقرنا، هذا دون أن نحسب السوء الإداري والفساد الإداري لسلطاتنا المحلية التي تساهم هي أيضاً في واقع الفقر. مما يعني أيضا وبمكاشفات صريحة أننا نشارك وبشكل جماعي وكبير، السياسات الإسرائيلية في قمعها! على الأقل فيما يتعلق بواقعنا الاقتصادي والذي هو عماد حياتنا، وأحد ركائز تشكيل وعينا وتحديدنا لمطالبنا من أنفسنا ومن السلطة.

والانتهاكات لا تقتصر على المجال الاقتصادي، فالمعطيات التي تشير إلى أن 25% من النساء لا يأخذن حقهن في الاستراحة خلال ٦ ساعات من العمل، وأن الأجر الأدنى الذي تتقاضاه العاملة العربية لقاء ساعة العمل الواحدة لا يتعدى خمسة شواقل، هي معطيات تدل على إهانة إنسانية، أكثر مما تدل على انتهاكات في الحقوق الاقتصادية. وهي لا تشير إلى انتهاكات بقدر ما تشير إلى "استعباد". وهي تثير الغضب ليس فقط تجاه المشغل المستعبِد، بل تجاه العامل الذي يقبل بعبوديته، ويسكت عليها.

صحيح، أن الحاجة للقمة العيش قد تذل، لكننا لا نستطيع أن ننظِّر للذل ولا أن نبرره. كما أننا لا نطالب بمجتمع ولا بأفراد يستغنون عن عملهم، بل نطالب بمجتمع وبأفراد يستغنون عن ذلهم. ولمحاربة الذل، علينا أن نفك الارتباط بينه وبين "الحاجة"، بينه وبين الاضطرار.

لن تستطيع إسرائيل محونا عن الوجود أو قتلنا لو تمردنا بشكل جماعي على قمعها وظلمها ومحاولات إذلالها لنا، ولن يستطيع رب العمل طردنا لو تمردنا على انتهاكاته. يستطيع ذلك، فقط لو استفرد بنا.

بالتالي عندما نؤكد على أهمية التنظيم المجتمعي، فأننا نؤكد عليه ليس فقط كآلية بناء ونهضة وحداثة، بل أيضاً كآلية نضال. وهي الآلية الوحيدة التي لا تسمح لأي سلطة، والمشغل هنا سلطة، بالاستفراد بنا.

النضال الجماعي، تمرد العاملات على أوضاعهن، بشكل جماعي، شرط ضمان دعم قانوني لهن، من قبل الجمعيات المهنية، ومن قبلنا كأحزاب وطنية فاعلة، وتعميم الوعي بحقوقهن، كلها شروط ضرورية لتغيير الوضع القائم، الذي لا يمكننا السكوت عليه. ويصلح هذا البحث أن يكون أداة عمل مهمة لنا، كما يحتاج لأهمية موضوعه وخطورة نتائجه، إلى توسيع عينة البحث.

وفي النهاية، يُبقي كل حادث أو معلومة، أثرا ذاتيا في المتلقي، وما بقي من هذا البحث، ضمن سياق ما نعيشه هو ما مفاده، أن الحياة أصعب بكثير وأقسى، عندما ننطلق من منطلق أن الدفاع عن أنفسنا هو أمر يخضع لشروط وتسهيلات وحسابات نجاعة، أو ربح وخسارة، بينما، يبدو الواقع أكثر وُدّا وتحملاً، عندما ننطلق من واجبنا، وليس فقط حقنا، في الدفاع عن أنفسنا، ولتذهب حسابات الجدوى إلى الجحيم.

لا صراخ في البرية، كل صرخة، هي واقع من نور.

التعليقات