19/05/2014 - 14:13

البطريرك الراعي ومنطقة الحرام../ رامي منصور

رعية الكنيسة المارونية مهجرون منذ ستة عقود، ولو أراد البطريرك الراعي دعم صمود رعيته هنا فإن أول قواعد الصمود هو العودة، ففي اليوم الذي سيزور فيه كفر برعم المهجرة سيلتقي عملاء لحد في إسرائيل، الذين سيطلبونه بالسعي لمساعدتهم بالعودة إلى لبنان، ومن المؤكد أن الراعي سيعود إلى لبنان وسيطالب بالسماح والعفو عن هؤلاء المنبوذين. لكن هل سيقف الراعي في كفر برعم وسط أهلها ويدعو أمام وسائل الاعلام إلى عودة أهالي القرية إلى أراضيهم. هل سيقف في القدس ويدعو إلى تحريرها من الاحتلال؟

البطريرك الراعي ومنطقة الحرام../ رامي منصور

يصر مؤيدو زيارة البطريرك بشارة الراعي إلى الأراضي المقدسة على أنها لا تحمل طابعًا سياسيًا ولا تطبيعيًا مع الاحتلال الإسرائيلي، وإنما هدفها ديني لتفقد الرعية، ويؤكدون أن للراعي مواقف وطنية وقومية تجاه فلسطين تعزز هذا الادعاء.‬ وفي واقع الأمر، فإن تناول زيارة أي شخصية دينية رفيعة المستوى للأراضي المحتلة، سواءً هنا في ما يعرف بأراضي الثماني وأربعين أو هناك، أي الضفة والقطاع، فيها من الحساسية ما يكفي لإثارة تعصبات ما قبل وطنية، والأمر أشد حساسية عندما يكون الحديث عن زيارة لشخصية دينية هامة مثل الراعي.‬ 

ليس الهدف تخوينيًا أو اتهاميًا في هذا المقال، بل مناقشة شرعية لزيارة استثنائية مثيرة للجدل.‬

زيارة دينية؟‬

لنتناول ادعاءات مؤيدي الزيارة، ولنحاول أن ندقق في صحتها. فالادعاء الأول هو أن زيارة الراعي لا تحمل أي طابع سياسي بل زيارة دينية لالتقاء وتفقد الرعية بعد انقطاع دام أكثر من ستة عقود (سيتلقي أيضًا عملاء لحد). هذا الادعاء فيه من الدقة، لكن، الراعي ليس شخصية دينية فحسب، بل له الوقع والتأثير السياسي الكبير في لبنان وعلى امتداد العالم العربي حيث يتواجد رعاياه. وبكركي تعتبر مرجعًا دينيًا هاماً جداً، لكنها أيضًا مرجعية سياسية للكثير من اللبنانيين، أو هكذا هم يرونها رغم أن الكنيسة لم تصرح بذلك. وكثير من اللبنانيين يحذون حذو الكنيسة في سلوكهم السياسي، وينتظرون عظات الأحد لتحديد وجهتهم السياسية. الراعي ليس رجل سياسة بكل تأكيد، لكنه مرجعية سياسية هامة للعديد من رعايا كنيسته، سواء شاء أم أبى.‬

فالبطريرك الماروني السابق، نصر الله صفير، قاطع سوريا ورفض التقاء وتفقد رعيته هناك طيلة أعوام بسبب رفضه مواقفها السياسية، أي أن البطريركية لها مواقف سياسية، تقاطع وتصالح. ‬كما رفض صفير طيلة عقود زيارة القدس أو الأراضي المقدسة، و‬يرد الراعي على هذه الحقيقة فيقول إن "لكل مرحلة ظروفها التي تُملي علينا مواقفنا. البطريرك ليس دولة، ولا يتمتع بأي هوية سياسية، ويتوجه الى القدس كرجل دين مسيحي لا عداوة له مع أحد".

هذا الادعاء ملفت للانتباه بشكل خاص ويطرح عدة تساؤلات: ماذا تغير في المرحلة وظروفها حتى يقرر الراعي زيارة القدس وإسرائيل؟ هل استعاد لبنان مزارع شبعا؟ هل استعادت البطريركية الكنائس المهجرة والتي دمرتها إسرائيل؟ أم أن أهالي إقرث وبرعم عادوا إلى كنائسهم وبيوتهم؟ أم هي محاولة إحياء الروح في خطاب "تحالف الأقليات"؟ وهل يتعامل الراعي مع إسرائيل كدولة محايدة لا عداوة له معها كلبناني وكنيسة لبنانية أولاً؟ ‫‬

البعد السياسي الآخر في الزيارة هو التقاء عملاء لحد، فقد نبذهم الشعب اللبناني لخيانتهم وطنهم مهما كانت المبررات، ولقاء الراعي بهم يعتبر منحهم الشرعية السياسية والأخلاقية والدينية على خلاف الإجماع اللبناني الذي نبذهم.‬ وهذا أمر في غاية الخطورة يمهد لعودتهم ويشرعن الخيانة.

صمود الرعية‬

الادعاء الثاني الذين يكرره مؤيدو الزيارة هو أنها تعزز صمود الرعية في هذه الأيام الحالكة التي يتمزق فيها المشرق العربي طائفيًا ومذهبيّا، وضد هجرة المسيحيين من وطنهم، وبعضهم ذهب إلى أن زيارة البطريرك تمنع تهويد القدس! وأحد أساتذة التاريخ المؤيدين للزيارة قال إنها "تكسر حاجز الخوف".‬ فيما قال  الراعي إن ‬"هذه الزيارة من شأنها أن تدفع كثيرين ممن أخذوا قرار الهجرة إلى العدول والتمسك بأرض فلسطين، وهي رعوية بحتة ولا علاقة لها بأي هدف سياسي".

كيف يمكن القول إن هذا الادعاء ليس سياسيًا. التمسك بأرض فلسطين كما يقول الراعي، هو موقف سياسي ليس روحيًا ولا دينيًا. إنه محاولة إضفاء الشرعية الوطنية والقومية على زيارة مثيرة للجدل لا أكثر، واستغلال اسم فلسطين لتبرير زيارة إسرائيل. كيف سيعدلون هؤلاء عن قرارهم بهجرة فلسطين بمجرد مرور الراعي من حاجز إسرائيلي؟
‫‬
‬ويحق لنا أن نتساءل رداً ‬على هذا الادعاء، كيف ستعزز زيارة رعيته بالضبط؟ وإن كانت زيارته حقًا تدعم صمودهم فلماذا لم يزرهم من قبل وتركهم ومصيرهم طيلة عقود؟

تحمل الكنيسة راية التسامح والعدل والسلام ورفع الظلم ومساندة المقهورين، وإذا كان الراعي حقًا يريد رفع الظلم ومساندة المقهورين والرعية، فإن قطاع غزة المحاصر جزء لا يتجزأ من الأراضي المقدسة وهو الأحق بزيارة الراعي لدعم الصمود هناك، ودخول القطاع ليس بحاجة إلى موافقة إسرائيلية بل مصرية، وزيارة غزة فيها رسالة إنسانية عالمية لا تقل أهمية عن زيارة الرعية هنا في إسرائيل.

أي صمود وأي رعية؟

رعية الكنيسة المارونية مهجرون منذ ستة عقود، ولو أراد البطريرك الراعي دعم صمود رعيته هنا فإن أول قواعد الصمود هو العودة، ففي اليوم الذي سيزور فيه كفر برعم المهجرة سيلتقي عملاء لحد في إسرائيل، الذين سيطلبونه بالسعي لمساعدتهم بالعودة إلى لبنان، ومن المؤكد أن الراعي سيعود إلى لبنان وسيطالب بالسماح والعفو عن هؤلاء المنبوذين. لكن هل سيقف الراعي في كفر برعم وسط أهلها ويدعو أمام وسائل الاعلام إلى عودة أهالي القرية إلى أراضيهم. هل سيقف في القدس ويدعو إلى تحريرها من الاحتلال؟

المنطقة الحرام: كسر الحاجز النفسي

بعيداً عن ثنائية التطبيع والمقاطعة، فإن أخطر ما في زيارة البطريرك الماروني إلى البلاد هو كسر الحاجز النفسي مع الاحتلال الإسرائيلي. هذا الحاجز علاوة على كونه نفسيًا فإنه أخلاقي بالدرجة الأولى، وكسره يعني فتح الطريق أمام مئات آلاف المؤمنين للهرولة إلى إسرائيل، لا الأراضي المقدسة، وإضفاء الشرعية على هذه السياحة "الدينية".

الخطيئة عادة تحدث في لحظة انكسار معنوي أو نفسي وأخلاقي، وبين الخير والشر حاجز رفيع يفصل بينهما وكسره قد يعقبه فيضان من الخطايا. ودليل على ذلك، هو أن إحدى الصحف اللبنانية وصفت زيارة الراعي بـ"الخطيئة"، لكن ما مر أسبوع حتى تحولت الزيارة في الصحافة اللبنانية إلى نقاش شرعي. هكذا تبدأ الخطيئة وتصبح شرعية.

ختاماً تخيلوا كيف سيكون رد فعل العديد منا لو أن شخصية دينية رفيعة مثل شيخ الأزهر أو رجل دين بقامة القرضاوي قرر" لقاء الرعية" في الأراضي المقدسة. ألم نكن سنتظاهر ضده أينما حل؟ وألن نصفه بالمطبع المهرول؟

التعليقات