03/06/2014 - 16:07

الزيارة المقدسة للراعي: في الصلب وما على الهامش../ توفيق عبد الفتاح

ونحن نقول إن لم يكن هؤلاء هم العملاء والخونة الذين سقطوا بمستنقعات الخيانة، وإذا كانوا يحبون لبنان أكثر من المقيمين هناك، وإن كانت الأوغاد تستحق هذه الشهادة والمكافأة من الراعي لرعيته وتمنح هذه الصفات لحثالات قذفها شعبها وتقيأها أسيادها، فأين يكون شرفاء لبنان وما هي صفاتهم؟ وبالتالي إذا كان هذا كله على الهامش فما هو صلب الزيارة؟

الزيارة المقدسة للراعي: في الصلب وما على الهامش../ توفيق عبد الفتاح

ربما كل ما حظيت به بالحياة الشخصية والالتزام الوطني من انسجام ورضى داخلي بالمجمل لم تحظ بمثله مصادفة مهمة تغطيتي لزيارة غبطته المقدسة للأراضي المقدسة، مع تأكيدي على أنه لا قدسية بنظري ومرتبة أعلى من قيمة وكرامة الإنسان التي تآكلت تحت حضيض انطمرت في قاعه كل معاني القدسية وأوهامها. وربما أدري أو لا أدري لماذا امتطيت أعالي جبال الجليل نحو برعم التي أعشقها فجرا قبل الصبح لتغطية الحدث التاريخي للزيارة المقررة قبل ساعات الظهر، وأنا منتظر هناك كطفل لدميته الثمينة، وبحماس ولهفة المراهق التي لم أعهدها في شبابي وبلوغي. كما أنه غني عن القول إن هذه التغطية لا تحمل لي أي تحد ومعنى مهني أو سبق صحفي رخيص أو سبق ذي رسالة، ولا تحمل لي أي شعور ديني رغم احترامي وإجلالي لرجال الدين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. ترجلت وسرت مسافات طويلة لمدة ساعتين وأكثر بانتظار موكب البطريرك للقائه، وأنا أترقب رعيته التي تنتظر لقاءه واستقباله وتفاعلات المئات بل الآلاف منهم من أبناء شعبي في قرية برعم المهجرة وكأنه عرس العودة.

استقبل غبطته بعرس من الحشود المتناثرة بمزيج الفرح والحزن الفلسطيني على مدخل القرية المهجرة، وصدح صدى إيقاعات وقرع الطبول والهتاف والأناشيد والزغاريد بملامح وطقوس وعبق العرس التقليدي، كل ذلك وسط تدافع وتسابق حشود المستقبلين للمس أي طرف من جسد أو ملابس غبطته، وفي عيونهم بريق الفرح والرجاء وكأنه المخلص المنتظر الذي انتظروه 66 عاما من الغربة والاغتراب، لا سيما وأن غالبيتهم من المهجرين من قراهم في الداخل، ولا زالوا ينتظرون عودتهم التي اصطدمت بالصلف والجرم الإسرائيلي.

في محطة أخرى، وعلى منصة الكلام وعلى خاصرة الجليل الأعلى ونحو كبد لبنان في أقصى الشمال، تحدث باسم أهل برعم أمام الحضور على منبر كنيسة برعم المنكوبة صبحي مخول من مهجري برعم متنكرا بجهله للموقف الوطني والدور الرائد للقوى السياسية والشعبية على اختلافها واختلافاتها في الداخل، وجهله ببعض الحضور المسيحي في قلب الحدث، وغير المسيحي ممن أفنوا أعمارهم وزهرات شبابهم من أجل برعم وغيرها، -تحدث- بإدانة منفرة وغير مبررة للقوى السياسية والشعبية بادعاء غيابهم المطلق عن الحدث البرعمي الذي أراده بوعي أو بغيره أن يكون محور القضية الفلسطينية، ودونه فإن أي عمل آخر فهو لاغ وباطل، علما أن القوى السياسية مع كل قصوراتها وتعثرها تعمل ليل نهار على عشرات بل مئات القضايا الحارقة التي تواجه عرب الداخل أمام عدوانية منقطعة النظير بما فيها عودة المهجرين. بل إن كلماته قاربت التنكر والعدائية السافرة للقوى السياسية في الداخل مما عكس انطباعا بأن ادعاءاته جاهلة، و ليست بريئة، وتطرح تساؤلا حول جدوى المواكبة وللمحاججة الرزينة والعقلانية التي تقتضي المحاكمة بالمنطق السليم والسوي وبالحقائق وبالوقائع.

كما أثار المتحدث بنشوة اللحظة التاريخية للزيارة وبشكواه الطفولية حفيظة لدى بعض الحضور جراء تزلف وتملق وجهل الرجل بالمواكبات اليومية لأنه تحدث بعد أن تفرغ من عمله، واستغل الحدث في إجازته الأسبوعية من العمل معولا ومشددا في كلامه على الدور الحاسم لرجالات الدين وقدرتهم على الحسم في مسألة العودة والمسائل المصيرية بعد نزع ثقته عن القوى السياسية، مما عكس الحال النفسي المزري والجهل المطبق الذي يعانيه الرجل ولن نقول أكثر من ذلك.

وفي مكان آخر حاولت أن أقرأ أنين الشكوى وملامح الفرح غير المألوف بحرارته، والانفعالات المثيرة لدى الشباب والفتية والأطفال والنسوة والشيوخ المنتظرين استقبال الراعي، ذلك في محاولة لفهم الحدث وأهميته علما أنني أعلم أنها الزيارة الأولى والتاريخية للرعية من راعي الطائفة وما يمثله من الأبوية بكل دلالاتها الدينية والإنسانية التي تكون غالبا مفقودة لدى المقهورين. كما أننا نعلم مكانة غبطته الدينية والكنسية والإنسانية، هذا ناهيك عن أن كل ذلك جاء في ظل موجة عارمة من الجدل واختلاف الآراء والرؤى لمعاني الزيارة، وما إذا كانت تحمل معاني التطبيع مع الإسرائيليين أم أنها زيارة دينية رعوية صرف. ولا أخفي أنني لم أكلف نفسي عناء التفكير العميق للخروج باستنتاجاتي القاطعة أمام المشهد الإنساني والديني المثير للتساؤل والجدل المسطح، ولا يمكن لي حصرها ببساطة بالدوافع الدينية فحسب، لأنه لم يكن الديني هو الجواب الشافي بالنسبة لي، كما أن الامر بنظري ليس بهذا التبسيط والتسطيح، بل قد يكون أكثر تركيبا وأكثر عمقا مما يعكسه ظاهر المشهد على من يبحث على السلم والأمان النفسي والوجودي له ولأبنائه في ظل أوضاع سياسية متداعية.

وعندما أتيح لي التفكير مرة أخرى باجتهاد متواضع، خرجت بفكرة مدفوعة بإحساس الحزن والأسى العميق إذ أنه بات معلوما لدي أو قل بقراءتي وقناعاتي الشخصية أن هذا الفرح ليس هو الشعور الإيماني والوجدان الديني فحسب، ولا فرح العودة لكفر برعم المهجرة أو إلى إقرث والمنصورة رغم الرهان الساذج لدى البعض في أن يؤثر ذلك في العقلية والمعادلة الإسرائيلية في معركتها مع الوجود الفلسطيني ومعادلة الصراع.

كما أنه ليس هو الدافع الديني والروحاني المجرد، بل قد يكون هذا التبجيل والتهليل إلى جانب المكانة الدينية العالية لغبطته أيضا دافع الشعور بالغربة وفقدان الاب الراعي مدفوعا بغياب دولة القانون ووطن وشعب سوي يحمي مواطنيه ويحفظ الأمن الشخصي والجماعي، بل الأهم هو الشعور العميق بالاغتراب والشعور بالتهديد والخوف وفقدان الأمان لأقلية مستضعفة تشعر بالاغتراب داخل "أقليات" وداخل وطنها ومع شعبها، الأمر الذي لا يصرح به أحد من أقليات دينية يهيمن عليها هذا الأسى والشعور العميق بالاغتراب والملاحقة، لأسباب لا مكان لذكرها في هذا المقام، وإذا كان هذا الاجتهاد المتواضع يحتمل الصواب أو الخطأ، لكنه يبقى ضمن استنتاجاتي وقناعاتي الشخصية التي تم استقصاء بعضها ميدانيا وعينيا لتكون مادة للتفكير والاجتهاد.

لا شك أن هذا الكلام إذا كان يتعلق بالزيارة الرعوية الدينية والإنسانية للرعية فإنه لا ينطبق بالمطلق على الشق الآخر من الزيارة السياسية بامتياز لغبطة البطريرك الراعي التي اتسمت بها زيارة ولقاء غبطته لعملاء لحد الفارين ممن غدروا بوطنهم وبشعبهم، وأذاقوا الجنوبيين مر الويلات، وارتكبوا الفظائع ومئات الجرائم والمجازر بحق أبناء شعبهم في الجنوب وفي سجن "مسلخ " الخيام الشهير بالجنوب اللبناني بالتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي هناك، وإن مثل هذا اللقاء مع العملاء على الأرض المقدسة هو لقاء و حدث سياسي بامتياز، ويستحق التوقف واتخاذ الموقف، وذلك باعتباره جزئية ذات دلالات خطيرة وقفت في صلب الزيارة، وليس على الهامش كما أراد البعض أن يفهمها أو يفهّمنا، ليس هذا فحسب بل إن الدفاع عمن سقطوا في وحل الرذيلة والخيانة والجريمة متجردين من أي قيمة إنسانية وأخلاقية ووطنية، كما أقرانهم في فلسطين وغيرها، لن يلقى المطهر الذي ينظف وسخ عارهم، ولا بكل مياه بحيرة طبريا التي التقوا غبطته على ضفافها، ولا كل البحار المالحة في متوسطنا. وإن الدفاع المستهجن لغبطته خلال الزيارة عن خيانتهم ورجسهم لن يشفع لهم وللخونة أمثالهم جرائمهم وساديتهم مع كل مكانته ومع كل شفاعته، ولن يبرر زيارته التي توجت بالدفاع عن سقوطهم وجرائمهم الوطنية والإنسانية مع كل فهمنا لرأفة غبطته المدفوعة بالشعور الأبوي.

عندما قال فيهم غبطته في عسفيا والناصرة بتساؤل استنكاري: "هل أولئك الذين اضطروا أن يتركوا لبنان سنة 2000 هم جماعة حاربت ضد لبنان؟ وهل أقدموا على محاربة الدولة اللبنانية والمؤسسات اللبنانية؟ هل ينبغي تسمية هؤلاء عملاء وخونة؟ هذا كلام أرفضه رفضا تاما أمام الملأ وهم يحبون لبنان أكثر من أي مقيم هناك، وقلت لهم إن الأبرياء دائما يدفعون ثمن غلطات وشرور الكبار". هذا هو كلام غبطته دفاعا عن سقوطهم المدوي في مستنقع الخيانة والرذيلة.

ونحن نقول إن لم يكن هؤلاء هم العملاء والخونة الذين سقطوا بمستنقعات الخيانة، وإذا كانوا يحبون لبنان أكثر من المقيمين هناك، وإن كانت الأوغاد تستحق هذه الشهادة والمكافأة من الراعي لرعيته وتمنح هذه الصفات لحثالات قذفها شعبها وتقيأها أسيادها، فأين يكون شرفاء لبنان وما هي صفاتهم؟ وبالتالي إذا كان هذا كله على الهامش فما هو صلب الزيارة؟

ولكم ما قاله الصحفي اللبناني نزار عبود، ومثله المئات إن لم يكن الآلاف ممن عذبوا على أيدي تلك الميليشيات العميلة: "هؤلاء كنت شخصيا قد غضيت النظر عن التعدي الذي وقع بحقي من خطف وتعذيب وتسليم لضباط إسرائيليين، على رأسهم سيء الذكر الكولونيل شلومو إيليا، فقط لأنني كنت صحفيا أؤدي مهمة صحفية من الجنوب أثناء الإحتلال. من خطفني وعذبني كانوا عناصر جيش لحد الذين مارسوا الخيانة على معبر جزين – باتر، وعلى رأسهم وحش كان يدعى أبو أحمد. يومها جرى تعذيبي أمام ابني الذي كان دون الثامنة من العمر، مع كل ما يترك ذلك من أثر نفسي بالغ على الطفل في ذلك العمر. اليوم أقول للبطريرك الراعي، أنت تعفي عن العملاء وتغفر لهم في كنيستك، هذا شأنك وضميرك. لكن شأن الوطن وضمير الشعب أن يعاد فتح ملف التعامل ورفع دعاوى شخصية من قبل كل من تعرض للتعذيب والأذى على أيدي الخونة العملاء من كل الطوائف، وليس من المسيحيين الموارنة فقط. إنك يا سيادة البطريرك تفتح جرحا ولا تضمد جراحا. كنا ننتظر منك أن تكون لبنانيا في الحد الأدنى".

التعليقات