08/07/2014 - 19:14

محمد أبو خضير والاستقرار الهش../ عبير ياسين*

منذ سنوات قال لنا يوما أستاذ جليل إن الظلم لا يحرك الشعوب، ولكن الإحساس بالظلم هو الذي يحركها

محمد أبو خضير والاستقرار الهش../ عبير ياسين*

الشهيد الطفل محمد أبو خضير

يقول غسان كنفاني في رسالة من رسائله: "نحن نستطيع ان نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء" فهل تجد كلماته معنى خارج سياقها وداخل سياق الواقع الحالي حيث الاستقرار الهش والسلام الهش في ظل غياب التسوية المستدامة والسلام القابل للحياة؟ وهل تجد كلماته مكانها وسط الحياة التي لا تبدو إلا اقترابا ضعيفا يحاول أن يقدم بديلا للحياة العادية ولكنه لا يستطيع؟ فوسط كل ما يحيط بالأحداث الفلسطينية الحالية بعد عملية اختطاف وقتل الطفل الفلسطيني المقدسي محمد أو خضير، لا يمكن التجاوز بسهولة عما شهده أبو خضير في الوقت الذي مر عليه ما بين الاختطاف والموت. فكل ما نقرأ عن ظروف الاغتيال وكيفية الاغتيال وكل ما يمكن تخيله بين السطور من ألم لا يمكن أن ينقل لنا حقيقة شعوره ومخاوفه، ولا أن تعبر عنه الكلمات بسهولة، ليس لنقص فيها ولكن لعجز عن تصوير الحدث. طفل في طريقة الطبيعي المعتاد، وفي لحظة تتغير كل الأشياء، ويواجه لحظاته الأخيرة بكل ما يمكن تخيله من مشاعد مختلطة بين الخوف والألم والحزن والرعب. ولكنها تبقى تخيلات لا تقترب بأي شكل من الحقيقة.

عندما بدأت الأحداث في التصاعد بداية من عملية اختطاف الشباب المستوطنين وقتلهم، واختطاف أبو خضير وقتله، لم أتوقف عن التأمل في صورة أبو خضير، وتصور تلك التفاصيل المنشورة تاليا من التقرير الطبي أو التفاصيل المحيطة بحالته بعد العثور علي. وإلى جانب صورة أبو خضير الباسمة قبل عملية الاختطاف، أطل إلى الواجهة صورة لطفل فلسطيني آخر التقيته في طولكرم، لم أعرف اسمه ولم أنس تفاصيل اللقاء. تذكرت هذا الطفل الآخر وهو يقف عند الجدار الفاصل في طولكرم وينظر للجنود الإسرائيليين بإصرار وعزيمة لا يمكن تصورها، ولكنها كانت قادرة على إشعال الأحداث أيضا. في تلك اللحظة كان يفترض أن تكون الزيارة إلى الجدار والعودة مرة أخرى لاستكمال فاعليات أسبوع الشباب الوطني الفلسطيني، ولكن في طريقنا للمغادرة ظهرت سيارة عسكرية إسرائيلية فتغير المشهد فجأة. لم يكن هناك أى حدث جديد إلا ظهور السيارة ووصولها لنقطة قريبة من المكان الذى كنا نقف فيه. ولأننا كنا في طريقنا للمغادرة فقد بدأ البعض من الأكبر سنا في المطالبة بالمغادرة دون إبطاء. كان الحضور حولي فلسطينى الطابع، سواء من داخل فلسطين أو من خارجها. ولكن ما أوقف التطور الطبيعي المتصور كانت كلمة قالها هذا الطفل الصغير بنظرات ثاقبة وصوت حازم، وكأنه يأتي بسؤاله من عمق التاريخ، وهو يقول هل نخاف منهم؟ وعندما رد الشخص الأكبر سنا بأننا لا نخاف، ارتفعت الأصوات الأخرى مؤيدة للبقاء بل والعودة لموقعنا الأول بالقرب من الجدار.

تطورت الأحداث سريعا عند الجدار، وبدأ واضحا لغريب - قريب مثلي كيف أن لحظة أو كلمة أو حدث صغير يمكن أن يعكر سطح الاستقرار الزائف، وأن ينتج ثورة أو انتفاضة أو بالمجمل بداية لأحداث لا تعرف منها إلا تصورا ما لنقطة البداية. ظل شكل الطفل في الذاكرة، كما ظل صوته ونظرة عينيه كجزء من تفاصيل الحدث واللحظة التي أثارت حماس الكبار والصغار فبدأ التحرك مرة أخرى نحو الجدار مع تحرك السيارة الإسرائيلية لمسافة أقرب من المجموعة. في تلك التطورات كانت كل الاحتمالات ممكنة، فمن الممكن أن تزداد الحماسة لدى طرف، أو تزداد الرغبة في وقف تلك الحماسة لدى الطرف الآخر، وكأن الاقتراب هنا كان تقريبا للمسافة بين عود كبريت مشتعل أو على وشك الاشتعال وبرميل وقود ممتد الأثر. ولكن في تلك اللحظات الطويلة في التأمل، القصيرة في عمر الزمن ظهرت سيارة من الأمن الفلسطيني فتغيرت الصورة وبدأت الأحداث تتفاعل على طريقة تفاوض فلسطيني - إسرائيلي لتهدئة الموقف وتركه للجانب الفلسطيني للتعامل معه، وفلسطيني - فلسطيني لتهدئة حماسة الأطفال. تأملات المشهد تمثل، بالنسبة لى، حدثا شديد الأهمية والدلالة فيما يخص احتمالات التصاعد، والقدرة على التهدئة، وتغير مشهد الحماسة من التجمع بجوار الجدار الفاصل إلى الانضمام لتجمعات أخرى احتفالية الطابع، وصورة القيادة والخطاب الرشيد في المشهد ممثلة فى رئيس قطاع الأمن الوطني في طولكرم.. ولكن تفاصيل تلك الصورة تعود مع أبو خضير بصورة مختلفة..

مع أبو خضير نجد أنفسنا في مواجهة حالة اختطاف، لحظة فارقة في حياة شخص لم يختر فيها أن يحدث له ما حدث، ولم يطلب أن يكون بطلا، ولا أن يدفع حياته بتلك الطريقة الوحشية، ولم يختر أهله أن يحدث الفقد بتلك الصورة.. بالطبع لا أحد يختار موته، ولكن وبما أننا نتحدث في سياق خيارات ما بين السلام والحرب، التسوية والعنف، والحياة وما يشبه الحياة، الأمن الحقيقي والأمن الهش، السلام الورقي والسلام المستدام.. ما دمنا في مواجهة وضعية بتلك التعقيد والخيارات المتأزمة فإن حالة الغضب التي عبر عنها الطفل عند الجدار الفاصل في طولكرم، والشعب الفلسطيني في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية في الضفة والقطاع بعد استشهاد أبو خضير لن تهدأ أو تنتهى ما دامت وضعية الاحتلال قائمة، والسلام العادل غائب، والتسوية المستدامة القابلة لتحقيق حياة كالحياة كما يقول درويش غير متحققة.

منذ سنوات قال لنا يوما أستاذ جليل إن الظلم لا يحرك الشعوب، ولكن الإحساس بالظلم هو الذي يحركها. وظلت تلك الكلمات كعيون الطفل الفلسطيني عند الجدار وابتسامة محمد أبو خضير في صوره المنشورة تتشابك أمامي في هذا المشهد الفلسطيني الثائر، فمن يحرك هنا ليس الظلم ولكن الشعور بالظلم. من حرك الشعوب العربية في تونس أو مصر أو غيرها ليس الظلم لأنه لم يكن حدثا طارئا على حياة تلك الشعوب، ولكنه الإحساس بالظلم الذي أوصل البوعزيزي إلى إشعال النار في جسده ليمتد النار، ويوقظ إحساسا بالظلم في نفوس أخرى، وليمتد ليخترق الحدود ويتشابك مع احساس آخر بالظلم في مصر لأسباب متعددة منها خالد سعيد وغيره، ويمتد ليعبر من صدور استيقظ فيها الشعور بالظلم بعد أن تعايشت معه لعقود طويلة من مكان لآخر ومن لحظة لآخرى.

لم تكن التحركات الفلسطينية التالية على وفاة محمد أبو خضير نتاج للحظة ظلم، ولا تعبر عن عدم وجود الظلم فيما سبقها من أحداث، ولكنها الشرارة التي تشعل الاحساس بالظلم فيعبر عن نفسه ويتطور في طريقه. قد لا نعرف في تلك اللحظة، كما كان الموقف عند الجدار في طولكرم، ما الذي سيحدث تاليا، وما الذى سيوقف فورة الاحساس بالظلم الشخصي والعام في المشهد الفلسطيني، ولا حدود تلك الثورة القائمة لأن الأوضاع على الأرض لها كلمتها دوما. ولكن المؤكد أن وجود انتفاضة أولى وثانية لا يعنى أن بين الانتفاضة والأخرى يتحقق السلام ويغيب الظلم، فما دام السلام المستدام بعيد فالاستقرار المستدام بعيد أيضا. وما دام الاستقرار والسلام بعيد عن طرف فهو بالضرورة بعيد عن الطرف الآخر الذي يتشارك معه فى الصراع أو السلام، ولا يمكن أن تحقق إسرائيل الأمن بمداخل أمنية قائمة على جدار فصل وتهجير من مناطق وهدم منازل. وما دام الشعور بالظلم والغضب قائما، فيسيزيد عند كل حدث مشابه يهتك ستر الاستقرار الهش القائم ما بين أوقات الثورة. وما دامت صور الظلم متعددة من جدار لخطف وقتل وحياة ليست عادية بالمطلق، فأسباب الثورة ستظل قائمة كما لحظات التأمل في ألم وخوف محمد أبو خضير في لحظاته الأخيرة قبل الموت وثورة الشعب الفلسطيني في الطرقات.
 

التعليقات