21/07/2014 - 16:43

مسيحيو الموصل يودعون مدينتهم التي يحبون../ جوني منصور

باعتقادنا إن التشابه كبير بين داعش ومنهجية إسرائيل في الاقتلاع والترحيل والإبادة البشرية والحضارية لشعب أو مجموعة شعوب تعيش في منطقة الشرق الأوسط من آلاف السنين

مسيحيو الموصل يودعون مدينتهم التي يحبون../ جوني منصور

ترتكب يوميا آلاف الجرائم بحق الإنسان والإنسانية، لدرجة جرائم الحرب الكبرى، كتلك التي ترتكبها اسرائيل بحق الشعب الشجاع والبطل في قطاع غزة. لكن أن ترتكب جريمة من نوع آخر كتلك التي تحدث في الموصل، فهذا أمر لم يحدث من قبل، ولا بالشكل الذي يحدث الآن. نعني بهذا الكلام، إصدار "داعش" أمرها إلى مسيحيي الموصل في العراق إما اعتناق الاسلام، أو دفع الجزية أو ترك الموصل أو الموت قتلا بالطريقة التي تراها داعش مناسبة.

إن هذه الخطوة التي أعلنت عنها داعش والتي أدت إلى تفريغ كامل للموصل من مسيحييها تأتي في سياق الحملات الإرهابية التي تقوم بها هذه الحركة الهدامة والمجرمة بحق الإنسان المسيحي والمسلم (غير المتفق مع فكرها التكفيري)على حد سواء.

فالحركة التي نقشت على رايتها الشهادتان، لا تشهد إلا للموت في سبيل معتقدات تكفيرية مجرمة لم تشهد مثلها المنطقة من قبل. فلا يكفي المصائب التي تحل يوميا على منطقة الشرق الأوسط، وتوالي الويلات، حتى ظهرت هذه الحركة الهدامة الساعية ليس فقط إلى قلب أنظمة حكم وتدمير العمران، وقتل الإنسان، إنما إلى إعلان الخلافة على طريقتها الخاصة، وهي ترفض بقاء أي شخص مختلف في دينه ومعتقده وتوجهاته الحياتية في ظل دولة الخلافة الإسلامية.

هذه الحركة الهدامة بعيدة كل البعد عن الاسلام الحق والسمح، الذي تعايشت عبر 14 قرنا ونيف معه الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية بطوائفها المختلفة. عرفت المسيحية كيفية العيش في ظل حكم دول إسلامية متعددة عبر العصور، ولم يحدث ولو لمرة أن طًلب من مسيحيي بلد الخروج منه أو تركه أو تهديده بالقتل. ما الفرق بين ما تقوم به داعش في الموصل وإسرائيل في غزة خلال عدوانها الآثم على الشعب الفلسطيني الجريح والمتألم؟

باعتقادنا إن التشابه كبير بين داعش ومنهجية إسرائيل في الاقتلاع والترحيل والإبادة البشرية والحضارية لشعب أو مجموعة شعوب تعيش في منطقة الشرق الأوسط من آلاف السنين.

مسيحيو الموصل، لمن  لا يعرف، هم من أهل العراق – بلاد ما بين النهرين – الأصليين، أي أن تاريخ وجودهم في العراق يعود إلى آلاف السنين. فهم البابليون والكلدانيون والأشوريون والسومريون وغيرهم من الشعوب والأجناس التي سكنت تلك البلاد وساهمت في إعمارها وتنميتها ثقافيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا.  مسيحيو العراق هم مكون أساس من الشعب العراقي عموما، يقومون بواجباتهم المدنية والوطنية تجاه وطنهم أُسوة بباقي العراقيين. ولعبوا دورا بارزا عبر الأزمان في بناء العراق وتعزيز مكانته في الشرق الأوسط وفي العالم. وليس المكان هنا لذكر أسماء شخصيات وأعلام سياسيين ومثقفين واجتماعيين واقتصاديين، إنما بودنا الإشارة إلى ضعف النظام السياسي في العراق في الحيلولة دون تفكيك المجتمع العراقي من خلال ترحيل المسيحيين في الموصل إلى خارج وطنهم أو قبولهم الاسلام. وبودنا الاشارة أيضا إلى عجز آخر للنظام العربي والاسلامي المعتدل في مواجهة هذا المد التكفيري الذي أصبح منتشرا في سوريا والعراق، وواقفا على أبواب دول أخرى بانتظار لحظة الانقضاض عليها. فويل لأمة لا توفر الأمن والأمان لمواطنيها، وخاصة تلك غير المسلمة.

كما قلنا، عاش المسيحيون واليهود (إلى عام 1948) بين مواطنيهم المسلمين في البلاد العربية والإسلامية باحترام فائق، وصون لكرامتهم لدرجة لم تشهد مثلها أي دولة ديموقراطية. والتاريخ يوفر لنا الشهادات والوثائق الكثيرة لحالة العيش المشترك المؤسس على الاحترام والتعاون والسعي معا من أجل بناء مجتمع راق ومزدهر.

إن ترحيل مسيحيي الموصل، ومن قبل مسيحيي نينوى، لهو جريمة كبرى بحق شرائح عريقة من الشعب العراقي. ترحيل المسيحيين من الموصل سيجر وراءه موجة أخرى من موجات هجرة المسيحيين العراقيين من وطنهم الجريح. إن نزيف الهجرة مفتوح بقوة، وتسيل منه دماء كثيرة، هي هجرة أبناء الوطن الأصليين، أصحاب البلاد، من ساهم في بنائها. وتأتي موجات الهجرة هذه جراء حركة تكفيرية مجرمة وسفاحة ستأتي على الأخضر واليابس. ولن توفر حركة داعش والحركات الأخرى مثيلاتها من ضرب أعناق مخالفيها في العقيدة والرأي، حتى من بين المسلمين.

كان عدد المسيحيين من سكان العراق حتى الاجتياح الأمريكي والغربي قرابة مليون نسمة، من أصل عشرين مليونا. أما اليوم (2014) فلم يبق منهم سوى ثلاثمائة ألف فقط. وهؤلاء بجلهم مرشحون  لهجرة أوطانهم التي ولدوا فيها وأحبوها، لا لسبب إلا لأنهم مسيحيون، ولا لسبب إلا لأنهم متمسكون بإيمانهم، ويريدون العيش مع إخوانهم المسلمين سوية ومعا ومن أجل المستقبل، ولا لسبب إلا لأنهم لم يجدوا في وطنهم من يحميهم ويجعل حياتهم مستقرة وهادئة.

ما هو مطلوب من الشعوب العربية قبل الحكومات اجتثاث هذه الحركة الهدامة والمجرمة بكل قوة، ومحوها بل سحقها بالتمام من وجه الأرض، لأن ويلاتها ستأتي على غير المسيحيين كما أتت على المسيحيين في العراق وفي جزء من سوريا العربية الصامدة. فهل يتعظ حكام البلاد العربية مما يحدث في الموصل خاصة والعراق عامة؟
 

التعليقات