30/08/2014 - 13:37

قبل قراءة نتائج الحرب.../ رامي منصور

المقاومة الفلسطينية تمكنت في الحرب العدوانية الأخيرة من المساس بعصب الفكرة الصهيونية، وهي أن الصهيونية هي صمام الأمان لليهود وتجمع شملهم من الشتات في أرض الميعاد

قبل قراءة نتائج الحرب.../ رامي منصور

يصعب على المَرْءِ تحليل مآل حرب غزة الأخيرة في ظل حجم الدمار والقتل، وعدد الشهداء والجرحى، ومشاهد التشرد وطقوس الرقص على الدماء في إسرائيل من قبل ساسة يصرخون "نريد المزيد من دماء أهل غزة"، وكأن عدد الشهداء الذي تجاوز الألفين لا يكفي لإشفاء غليل الشارع الإسرائيلي.

لكن رغم ذلك، يحتم علينا العقل التحليل ببرودة ورصانة، خصوصًا وأن المقاومة الفلسطينية تمكنت في الحرب العدوانية الأخيرة من المساس بعصب الفكرة الصهيونية، وهي أن الصهيونية هي صمام الأمان لليهود وتجمع شملهم من الشتات في أرض الميعاد وهي ملاذهم الآمن. فالكلمة المفتاح في هذه الحرب ليست القذائف الصاروخية التي طالت البلدات الشمالية ولا الأنفاق الهجومية، بل هي التهجير. تهجير المستوطنين اليهود من بلداتهم التي زرعوا فيها منذ أكثر من 6 عقود لتطويق غزة. فـ"الهجرة السلبية" أو التشريد أو النزوح أو الهروب هي نقيض العقيدة الصهيونية إذ تسعى لتجميع ولمّ شمل اليهود وحمايتهم من الأغيار. لكن في المقابل، التهجير في صلب العقيدة الأمنية حتى قبل قيام إسرائيل والتي تأسست على تشريد الفلسطينيين وقتلهم.

هذه المرة هجر سكان بلدات ما يسمى "غلاف غزة" مستوطناتهم، ويرفض عدد كبير منهم العودة إلى مسكنه رغم تطمينات الجيش والحكومة. فقد زرعت المقاومة الخوف في صفوف هؤلاء وأصبح جيش إسرائيل الأكثر تقدمًا تكنولوجيًا غير قادر على ضمان أمن مواطنيه في الجنوب.

وقد يكون هذا العامل - التهجير أو النزوح- أحد أهم العوامل لفهم السعي الإسرائيلي الحثيث لوقف الحرب. فمعادلة "الهدوء مقابل الهدوء" التي سعى بنيامين نتنياهو تحقيقها من هذه الحرب، قابلتها المقاومة بمعادلة "التهجير مقابل التشريد" و"التصعيد يقابله تصعيد"، وأن المقاومة لا تستجدي وقفًا للنار بل بمقدورها قصف البلدات الإسرائيلية وتهجير سكانها حتى تلبية مطالبها، وعلى رأسها رفع الحصار عن قطاع غزة.

إذن، حرب غزة أثبتت مرة أخرى أن الصهيونية ليست ملاذ اليهود الآمن، لكن هذه المرة  أضيفت إلى هذه الحقيقة صور مئات المستوطنين الذين هربوا من نيران المقاومة وأقروا بعجز دولتهم عن حمايتهم.

الإنذار المبكر والردع والحسم السريع

بغض النظر عن الأهداف الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة في الحرب على غزة، فإن ميزان الربح والخسارة الإسرائيلي يقاس بثلاثة أسس تقوم عليها العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي وضعها دافيد بن غوريون، وهي الإنذار المبكر والردع والحسم السريع. ومدى تحقق هذه الأسس يحدد مدى النجاح أو الفشل أو الربح والخسارة.

الإنذار المبكر أو توفر المعلومات الاستخبارية: عانى الجيش الإسرائيلي في الحرب الأخيرة، تمامًا كما في حرب لبنان الثانية، تدنيًا في قيمة المعلومات الاستخبارية أو جرى تضليله من قبل المقاومة، إلى درجة مفاجأته بنقل المعركة إلى داخل إسرائيل.

وقد تحدث ضباط سابقون ومحللون عن إخفاق مدوٍ لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي فشلت تقدير قدرات حماس العسكرية، وخصوصًا الأنفاق الهجومية، كما فشلت تحليلاتها قبل الحرب بأن حماس محاصرة عربيًا، وليس بمقدورها خوض معركة طويلة.

الردع: وهو أحد أهم أسس العقيدة الأمنية الإسرائيلية. وبلغة وزير الأمن الحالي، موشيه يعالون، "كي الوعي" لدى الطرف الآخر. لكن وباعتراف أهم المحللين الأمنيين ورئيس "الشاباك" السابق، يوفال ديسكين، فإن المقاومة هي التي قامت بـ"كي وعي" الإسرائيليين من خلال تواصل قصف وتهجير بلدات بأكملها في المناطق المحيطة بغزة.

كما أن تعطل الحياة في إسرائيل والتراجع الكبير في الحركة التجارية والسياحية وتعطيل مطار "بن غوريون" في اللد لأيام، كلها عمليات "كي وعي" للإسرائيليين.

ورجح محللون إسرائيليون، بمن فيهم قائد البحرية الإسرائيلية السابق، إليعزر ماروم، أن إسرائيل لم تحقق الردع حتى بعد تدميرها لعدة أنفاق لأنها اضطرت لاحقًا إلى التفاوض ولو بشكل غير مباشر مع فصائل المقاومة.

ويتوقع ماروم أن تدفع إسرائيل ثمنًا باهظًا في المستقبل القريب لعدم توفر أسس العقيدة الأمنية الإسرائيلية في الحرب الأخيرة.

الحسم السريع ونقل المعركة إلى أرض العدو: ثالث أسس العقيدة الأمنية الإسرائيلية هو الحسم السريع للمعركة، ونقلها إلى أرض العدو، لأن العمق الإسرائيلي ضيق وكذلك الجبهة الداخلية التي ليس بمقدورها تحمل تعطل الحياة لفترة طويلة. إلا أن الحرب الأخيرة كانت أطول حروب إسرائيل، ولم تستطع فيها إسرائيل حسم المعركة سريعًا ونقلها إلى أرض "العدو"، بل العكس هو الصحيح، فقد باغتت المقاومة إسرائيل بعمليات هجومية براً وبحراً وجوًا.

كما أن الحسم السريع يهدف إلى تدارك حرب الاستنزاف حفاظًا على تماسك الجبهة الداخلية، وهو ما حصل في هذه الحرب، إذ واجهت إسرائيل حرب استنزاف بعد انسحاب قواتها البرية من تخوم غزة بعدما فشلت بالتوغل.

القبة الحديدية وإجراء "هنيبعل"

أضيف إلى العقيدة الأمنية الإسرائيلية في الأعوام الأخيرة عاملان هامّان جرى تطبيقهما في الحرب الأخيرة، الأول دفاعي، والثاني هجومي وحشي.

العامل الأول هو منظومة "القبة الحديدية"، التي تثار الشكوك والتساؤلات حول حقيقة نجاحها ونجاعتها. فرغم تباهي إسرائيل بقدرات القبة الحديدية، لكنها لم توفر الحماية ولو القليلة لبلدات "غلاف غزة" أو حتى مدن مثل عسقلان وأسدود ومحيطها.

أما العامل الثاني، وهو استحدث مؤخراً لكنه يعود إلى مطلع سنوات الثمانين من القرن الماضي، وهو "إجراء هنيبعل"، الذي يقضي بقصف وتدمير المنطقة التي يشبته بأنه جرى اختطاف أحد الجنود فيها. وقد استخدم هذا الإجراء مرتين، على الأقل، في حي الشجاعية وفي رفح.

لو تناولنا الأسس الثلاثة المذكورة أعلاه بمنظور موضوعي سنصل إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل فشلت فشلاً مدويًا بفعل صمود المقاومة وقدراتها على مواصلة شن الهجمات وكان بمقدورها تحقيق إنجازات سياسة أفضل وأسرع لو توفرت "بيئة" عربية داعمة أو غير متآمرة أو لا تنسق مع الاحتلال، ولكان عدد الشهداء أقل، وأمد الحرب أقصر، والمطالب الفلسطينية تتحقق بسرعة أكبر.

إن صمود المقاومة وهو العامل الأهم في هذه المعركة، وأداءها المميز، وصمود "الجبهة الداخلية" الغزية الأسطوري، جعلت من رفع الحصار عن غزة أقرب من أي وقت مضى، وستعيد حتمًا تحجيم إسرائيل رغم كل أحاديث نتنياهو عن "آفاق سياسية جديدة" في المنطقة، أي إنشاء محور جديد يشمل السعودية ونظام السيسي وإسرائيل وربما السلطة الفلسطينية.

صمود أهل غزة والمقاومة بخّر مطالب نتنياهو بنزع سلاح المقاومة، وسيدفع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى إعادة النظر في ثلاثية عقيدتها الأمنية.

فلسطينيًا، صمود أهل غزة والمقاومة ينتظر أن يقابله حفر السلطة الفلسطينية أنفاقًا هجومية دوليًا، وعلى رأسها محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين. هذا عهد قطعته السلطة خلال الحرب، والشعب الفلسطيني في انتظار الوفاء به.

التعليقات