21/11/2014 - 07:16

واجب المقاومة وضوابطها../ عوض عبد الفتاح

من يغزو بلاداً، ويدمر وطناً، ويشرد شعباً، ويتفنن في اختراع الأساليب لإدامة سيطرته على البلد وأهله، واستعبادهم، هو ذاته من يمارس العنف الأول. فهو البادئ، والبادئ أظلم.

واجب المقاومة وضوابطها../ عوض عبد الفتاح

 

 العنف يولد العنف، أو يولد ردّ فعل؛ رداً عنيفاً أو غير عنيف. هذا ما يعرفه الجميع.

 من يغزو بلاداً، ويدمر وطناً، ويشرد شعباً، ويتفنن في اختراع الأساليب لإدامة سيطرته على البلد وأهله، واستعبادهم، هو ذاته من يمارس العنف الأول. فهو البادئ، والبادئ أظلم.

 هل من شعب تعرض للغزو الخارجي ولم يقاوم. إذًا المقاومة رد فعل طبيعي على الظلم، وهي ليست حقاً فحسب بل هي واجب وطني وأخلاقي.

 الحرية هي حق إنساني، والسعي إلى نيلها سلوك إنساني مطلوب.

 لا تُلام الضحية بسبب مقاومتها، بل تُلام إذا ما استكانت للظلم والاستعباد، وتتهم بالتخاذل والهروب واستمراء العبودية.

 لكن هل يعني هذا أن حركات الشعوب المستعمرة، معفية من المسؤولية عن سلوكها في صراعها ضد المستعمر؟ هل يجوز لها أن تكون متحللة من أي ضابط أخلاقي؟

 إن مقاومة الظلم والقهر فعل أخلاقي، وهو فعل نبيل. لماذا؟ أولاً لأن حافز المقاومة هو غياب الحرية، وما يترتب عنه من معاناة وحرمان. والحرية هي مطلب إنساني. ثانياً، لأن من يخوض المقاومة يضع نفسه في الخطر؛ خطر القتل، أو الاعتقال، أو الضرب أو خسارة الوظيفة ومصدر الرزق. وهو يخوض المقاومة ليس من أجل ذاته فحسب، بل من أجل أن يحيا الآخرون، أبناء وبنات شعبه. فالمقاوم ذاهب إلى مصير غالباً يعرفه سلفاً.

 طبعاً التضحية لا تقتصر على التضحية بالروح، وهي أسماها، إذ يوجد هناك أشكال عديدة من التضحية، كالتضحية بالوقت، والمال، والراحة (من خلال إنكار الحياة الخاصة). كما أن المقاومة ليست بالضرورة عملا عنيفا. فقد يختار شعب مقاومة مدنيّة وفقًا لوضعية معينة، وقد يدمج بين أشكال مختلفة من المقاومة في وضعية أخرى.

 ليس هدف المقاوم القتل من أجل القتل. فهو يعتقد أنه بذلك يدافع عن نفسه، ويجعل العدو يدفع تكلفة استعماره، وبالتالي يدفعه للتفكير في التخلي عن استبداده بعد أن يصبح مكلفاً، وقد يختار شعب أو شعوب معينة مقاومة مدنية غير عنيفة كما اختار الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى عام 1987، وهي لا تقل خطراً عن المقاومة العنيفة. والمقاومة هي فعل طبيعي، ويجيزه القانون الدولي. مع ذلك هناك أيضاً قوانين إنسانية، كرستها الأديان، ورسختها المؤسسات الدولية الإنسانية، التي تحظر استهداف المدنيين.

 والحقيقة أن الدول، ودول كبرى، تمارس الانتهاكات لهذه القوانين أكثر بكثير من حركات المقاومة. وهذه الدول، نظراً لتمتعها بالقوة والنفوذ الدولي وداخل المؤسسات الدولية، فإنها تنجو من العقاب، وهذا هو أحد أشكال النفاق الصارخ الذي تعاني منه هذه المؤسسات وهذه الدول التي تتشدق بحقوق الإنسان. لقد نفذت إسرائيل حرب إبادة للمدنيين في غزة، ومن المشكوك جداً أن تتعرض للعقاب. وقد نجت هذه الدولة حتى الآن من العقاب على كافة جرائمها الإنسانية.

 لكن هل لحركات المقاومة أن تقلد هذه الدول؟ هل هي أصلاً تتمتع بهذا النفوذ وبهذه القوة التي تمكنها من أن تنجو من العقاب؟ والأهم، هل الفعل المقاوم، الذي هو أصلاً فعل أخلاقي، قادر على تحمل تبعات هذا السلوك أي استهداف المدنيين؟

 إن مصدر القوة الأساس لحركات المقاومة التي تدافع عن حرية شعوبها بالاستقلال والحرية، هو عدالة قضيتها. وقضيتها تتمثل في حرية الوطن، وحرية الشعب، وحرية الفرد.

إن النضال الذي خاضه السود، أهالي البلاد الأصليون لجنوب أفريقيا، ضد نظام الأبارتهايد البائد، اكتسب في نهاية المطاف تأييد غالبية دول العالم باستثناء إسرائيل، لأنه كان نضالاً عادلاً، ولأن هذا النضال سار وفق برنامج ديمقراطي إنساني واضح.

 إن محاولات وصم المؤتمر الوطني الأفريقي الذي قاد النضال، بالإرهاب من قبل إدارة رونالد ريغان، رئيس الولايات المتحدة في الثمانينيات، ومارغريت تاتشر الرئيسة السابقة لحكومة بريطانيا، لم تصمد أمام عدالة قضية هذا البلد، وأمام أخلاقية نضاله.. فانكشفت كدعاية إمبريالية رخيصة.. خاصة وأن المؤتمر الوطني الأفريقي طرح رؤية إنسانية للحل، تشمل المساواة الكاملة بين السود والبيض، وليس على أساس الاستئصال.

 أيضاً، يمكن الإشارة إلى اضطرار المحتل الإسرائيلي الانسحاب من جنوب لبنان تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية، عام 2000، التي خاضت نضالاً تحررياً منظماً ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، أكسبها آنذاك صورة المقاومة المتقيدة بضوابط أخلاقية، وزاد احترامها عندما قامت بتسليم عملاء جيش لحد إلى الدولة، ولم تقم بتنفيذ عمليات سحل (لينش) بهم كما كان الغربيون يتوقعون. (طبعًا هذه الصورة النبيلة للمقاومة أصيبت بنكسة بعد تدخلها في سوريا، خاصة وأن المقاومة اللبنانية عرفت نفسها كحركة للدفاع عن المقهورين).

كما يمكن أيضًا الإشارة إلى التطور الذي طرأ على أداء المقاومة الفلسطينية؛ (خاصة حركة حماس) في الميدان والإعلام.

 وأحدث مثال على تطور نهج المقاومة الفلسطينية، ذلك الذي تجلى في المقاومة الأسطورية ضد العدوان الصهيوني الإجرامي على غزة. إذ بان الفرق الواسع، بين دولة استعمارية قوية، تقتل المدنيين والفلسطينيين بقسوة، وبوحشية بالغة، طالت ما يزيد عن 2200 من الرجال والنساء والأطفال، وحركة مقاومة لا تمتلك قوة ولا تقنيات العدو، مع ذلك تستهدف الجنود في الأساس، فتكون النتيجة سقوط عشرات الجنود، في حين لم يُقتل سوى اثنان من المدنيين الإسرائيليين.

 وكان لافتاً أن الناطق الرسمي باسم المقاومة، أبو عبيدة، أن يُعلن أن المقاومة تستهدف الجنود وليس المدنيين. هكذا نرى أن دولة الاحتلال تجدد انحدارها نحو المزيد من البطش بالمدنيين في حين تقوم المقاومة الفلسطينية بمراجعة أساليبها ومنهجها. هذا من المفترض أن يكون مصدر قوة للشعب الفلسطيني وحركاته المقاومة.. لا مصدر ضعف كما يظن البعض.

الجدل حول أساليب المقاومة

 كانت تلك المقدمة الطويلة، للدخول إلى قلب الجدل الذي ثار حول الهجوم على الكنيست اليهودي في القدس الثلاثاء الماضي، في حي يهودي أقيم على أنقاض قرية دير ياسين التي ذبح منها الصهاينة بدم بارد 249 فلسطينياً من الرجال والنساء والأطفال عام 1948.

إن الانخراط في النقاش حول صحة هذه العملية أو عدمها هو شرعي، بل ضروري وبل صحّي. إن التسليم للعاطفة وحدها لا يُفيد النضال. ولا يجوز أن ينطلق النقاش من مدرسة الاستسلام التي رسختها أوسلو، والتي ترفض أي نوع من المقاومة حتى الشعبية منها، ولا من المدرسة العدمية التي لا تقيم وزناً للعقل والمنطق، وللقيم.

 يجب الانطلاق من مدرسة المقاومة التي تأخذ بالاعتبار كل مقومات النجاح العملية والأخلاقية والسياسية والإعلامية. هذا يعني أن المقاومة يجب أن تخضع أيضاً للمعايير الأخلاقية، باعتبار أن ذلك مُفيد ومُهمم للشعب الواقع تحت الاحتلال سواء لصورته أمام المجتمع العالمي وللحاجة في اكتساب المزيد من الدعم الدولي، أو لناحية الفائدة في بناء مجتمع سليم وصحي بعد التخلص من الاحتلال. لقد رأينا شعوباً تذبح بعضها بوحشية بعد التخلص من الاستعمار، دون رادع أخلاقي، الأمر الذي أعاق ولا يزال يُعيق نهضة هذه المجتمعات، ونشلها من الإرث القديم الناجم عن الاستبداد المتوارث، والتحديث المشوّه الذي أحدثه الاستعمار.

 تتساءل الصحفية عميرة هس، المناهضة للاحتلال (في مقال لها، هآرتس 19.11) عن سبب سكوت الفلسطينيين وعدم إدانتهم للعملية التي قام بها فلسطينيان مقدسيان على الكنيس اليهودي وقتل 4 من المصلين اليهود. في مقالها لا توفر نقداً للاحتلال ولسلوك الائتلاف الحاكم بزعامة بنيامين نتانياهو وتحمله المسؤولية عما يجري في القدس. ولكنها تقول إنها من مقابلتها للعديد من الفلسطينيين، لاحظت حرجهم إزاء هذا النوع من العمليات التي تستهدف دور عبادة. ولكن غضبهم العارم من سلوك حكومة إسرائيل في القدس وقبلها في غزة، يجعلهم يتفهمون دوافع الشباب.

 إن النقاش حول وسائل النضال كان دائماً خاضعاً للنقاش داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، من حيث جدواها. سواء العملي أو الأخلاقي. وقد تصاعد النقاش في الآونة الأخيرة حول ضرورة مراعاة القوانين الدولية، التي تطرقت للجانب الأخلاقي لأشكال النضال.

يُذكر أن العمليات الاستشهادية التي نفذتها حركة حماس ضد المدنيين بكثافة أثناء الانتفاضة الثانية، أثارت جدلاً حول جدواها، إذ كان هناك من رأى أنها تفقد الشعب الفلسطيني صورته كشعب واقع تحت الاحتلال، وأيضاً لأنها تستدعي رداً إسرائيلياً فائق الوحشية لا يتحمله الشعب. (لا بُدّ من الإشارة إلى أن أول عملية استشهادية قامت بها حركة حماس عام 1994 كانت ردًا على قيام طبيب إسرائيلي، هو باروخ غولدشطاين، بدخول الحرم الإبراهيمي في الخليل وقتل 29 فلسطينيًا).

 غير أنه في السنوات العشر الماضية وبعد توقف الانتفاضة الثانية بدون نتائج سياسية لصالح الفلسطينيين رغم ما تخللها من تضحيات هائلة، عادت القيادات والنخب إلى النقاش حول وسائل وإستراتيجيات النضال، فاتسعت قاعدة الرأي بأن المقاومة الشعبية غير العنيفة، أي نموذج الانتفاضة الأولى هو الأكثر نجاعة وتأثيراً في قضم مكانة إسرائيل الدولية، وفي استقطاب المجتمع الدولي لصالح القضية الفلسطينية، خاصة وأن المحيط العربي منشغل بأوضاعه الداخلية الكارثية. وقيل إن العمل المسلح ضد الاحتلال هو حق إنساني وقانوني، ولكن ليس بالضرورة اعتماده في كل الحالات.

 ورأينا نموذج المقاومة الشعبية المحدود ضد الجدار منذ عام 2004، ولكنه لم يتطور ويتسع لأسباب تتعلق بموقف السلطة الفلسطينية، وكذلك بقدرات ورؤية من يقود هذا النموذج.

القدس: انقلاب في الوضع القائم وفجر جديد

 غير أن الوضع الشعبي الجديد في مدينة القدس، الذي بدأ يتشكل منذ ثلاث سنوات وعلى أثر تسارع المخططات الاستعمارية في القدس المتمثلة في سرقة البيوت، وتهويد الأحياء العربية، واستباحة المسجد الأقصى، بدأ يولّد مناخاً جديداً، ويعيد روح المقاومة إلى أهالي المدينة.

 وجاء العدوان الإجرامي على قطاع غزة الصيف الأخير بهدف تدمير المقاومة الفلسطينية، وما تولد عنه من غضب عارم ومن مشاعر الاعتزاز بصمود المقاومة، ليمنح زخماً جديداً، وقوة إضافية للحراك الشعبي المتواصل الذي كان يتصاعد في أحياء مدينة القدس. وكان لافتاً تمكن أهالي شعفاط وخاصة الشباب منهم، تحرير الحي لمدة ثلاثة أيام بعد جريمة حرق وقتل الفتى محمد أبو خضير.

 وبعد تصاعد وتمادي المجموعات الاستيطانية المتطرفة باستباحة الأقصى بدعم من الحكومة الإسرائيلية، مضافاً إلى المصادرة والاستيلاء على البيوت في حي سلوان، في إطار مخطط تدمير مدينة القدس العربية، وتهويدها بالكامل، بدأت ترافق هذا الحراك عمليات فدائية فردية ضد المحتلين الإسرائيليين اتخذت شكل الدهس بالسيارات والطعن بالسكاكين، واستعمال السلاح الناري. ربما كان هذا ناجما عن الشعور بأن الحراك الشعبي الذي تطور بصورة لافتة وعلى مدار ثلاث سنوات على الأقل قوبل بقمع وحملات اعتقالات واسعة طالت المئات من الأجيال الشابة، دون أن تؤدي إلى ردع الإسرائيليين عن ممارساتها، سواء بالنسبة لاستباحة الأقصى، أو بالنسبة للاستيلاء على البيوت في إطار مخطط التطهير العرقي، والحفر تحت المسجد الأقصى.

 هذا المشهد المتغير بتسارع، أي من مشهد الحراك الشعبي اللاعنفي، إلى مبادرات هجومية فردية بدأت وكأنها تسير في تعارض مع اتجاه المقاومة المدنية، كان يتبلور داخل أُطر بحثية، وأوساط الفاعليات السياسية.

 وفي حين رحّب الجمهور الفلسطيني بكل التطورات الشعبية الأخيرة، بما فيها العمليات الفدائية الفردية، واعتبرها تطوراً طبيعياً بل مطلوباً منذ فترة طويلة، في ضوء الجموح الإسرائيلي الاستيطاني وانسداد أفق التسوية السلمية، فإن أوساطا يخالجها شعور مختلط بين التأييد والتحفظ إزاء عملية الهجوم على الكنيس.

إن عملية الهجوم على الكنيس اليهودي، فتحت نقاشاً حول جدوى عمليات معينة، من الناحية الأخلاقية ومن الناحية العملية (البراغمانية) أي حول مدى خدمتها للخط السياسي الأخلاقي الذي اكتسبته انتفاضة القدس البطولية وكذلك الصمود الأسطوري للمقاومة في غزة. بل أن ذلك يستدعي من الحركة الوطنية الفلسطينية المبادرة لتنظيم النضال وتوجيهه بطريقة تضمن انتصارات مؤكدة على المشروع الكولونيالي الإسرائيلي.

 إن الحراك في القدس، هو ظاهرة لافتة، نظراً للإجراءات القمعية الخاصة المعتمدة إسرائيلياً في المدينة. وقد مرّ وقت طويل على الجريمة الإسرائيلية المتواصلة دون أن تتمكن القيادة الفلسطينية (رام الله) من اتخاذ الإجراءات الكفاحية الكفيلة بكبح جماح الغول الاستيطاني الصهيوني. فانفجر الوضع في القدس، رغماً عن غياب هذا الدور الرسمي، وذلك عبر قوى شبابية صاعدة بدأت تستيقظ على فداحة الوضع الذي تعيشه وفي غياب الفصائل الفلسطينية. فقد بدأ شباب غاضب، ومفعم بالإحساس بواجب التضحية، يتحرك بدون تخطيط أو توجيه من فوق، في الغالب، بل بتأثير الأجواء العامة والمناخ الآخذ بالاتساع.

 ولذلك من الطبيعي أن تحصل عمليات من هذا النوع، دون دراسة جميع عواقبها. فالأفراد أرادوا إيلام المحتل، دون أن تسمح لهم أعمارهم وتجربتهم بتقدير نتائج وتداعيات كل عملية. وبطبيعة الحال فإن من يتحمل المسؤولية عن هذا الواقع، ومن يدفع هؤلاء الشباب إلى التضحية بأنفسهم، هو وجود الاحتلال. أما من يتحمل غياب التنظيم والمبادرة المنظمة والقوة الموجهة فهو القيادات الفلسطينية، وأولها سلطة رام الله، وثانيها الفصائل التي تحتاج إلى إعادة هيكلة، وإجراء تغييرات جذرية في الفكر والنهج والإدارة. هذا هو التحدي الكبير الذي لا بدّ للقيادات الفلسطينية أن تجيب عليه.

التعليقات