11/12/2014 - 17:39

المطلوب: سقاية الجذر المشترك بين التجمع وأبناء البلد../ د. عمر سعيد

ليس لأحد أن يحتكر أو ينسب لشخصه حق الملكية على مشاريع حزبية وسياسية، أو يتوهم أنها تحمل علامة تجارية خاصة به، فلكل مشارك مخلص بالفضل باب

المطلوب: سقاية الجذر المشترك بين التجمع وأبناء البلد../ د. عمر سعيد

اللقاء الذي جمع مؤخرا قيادات من التجمع الوطني وأبناء البلد، يمثل خطوة مستحقة بالاتجاه الصحيح، ينبغي تسريعها ورفعها على محمل الجد والتنفيذ من قبل الطرفين، على أن يواكبها خطاب وطني تصالحي موجه أساسا لداخل الإطارين قبل الخارج. هذا يعني، وقبل أي شيء، الإحجام عن إصدار مواقف وتصريحات تنطوي على عدائية مجانية ومزايدة، ولا تستقيم مع أبسط قواعد النقد المتبع بين رفاق الأمس وأبناء البيت الوطني الواحد.

 أقول ذلك لأن كثيرا من أبناء التنظيمين، وخاصة الكوادر الشبابية، ليسوا على دراية كافية بالجذور الوثيقة الجامعة بينهما، والتي تكاد تجعل من تباعدهما ضربا من العبث واللامعقول. لا ريب عندي أن أجواء الشحن والقطيعة المفتعلة غيبت تلك الحقيقة، وأفضت إلى إهدار فرص التعاون والتقارب الطبيعي كلما تهيأت الظروف الملائمة لانطلاقة موحدة. هذه الحقيقة المحزنة تجعل من فتح باب المناقشة حول هذا الصراع الخفي وتوضيح ملابساته، أمرا في غاية الضرورة والأهمية، لحماية وتطوير منجزاتنا وتصويب مشوارنا الوطني المشترك.

 ولأننا، والحمد لله، ما زلنا بغالبيتنا العظمى على قيد الحياة، وذاكرتنا ما زالت صامدة بوجه عوامل الشيخوخة، وبصفتي واحدا من مؤسسي حركة أبناء البلد، ومن المشاركين في بلورة هويتها الفكرية والسياسية، فسأعرض باقتضاب شديد بعض الجوانب التاريخية والنقدية لهذا الموضوع الإشكالي وذلك منعا للتخريصات والتضليل، ولكن من موقع المحايث الغيور، وبعيدا عن تداعيات مثلنا الشعبي: "شب تغرب وختيار ماتت اجياله"، بقدر الإمكان وبما استطعت إلى ذلك سبيلا.

شيء من التاريخ:

لم تكن حركة أبناء البلد، في أي يوم من الأيام، تنظيما حزبيا واسعا، ولم تفلح حتى في اجتذاب قاعدة شعبية مساندة وعريضة كما هو حال غيرها من الأحزاب، والأغرب أن خطابها الفكري والسياسي لم يكن يوما مهيمنا على ساحتنا الثقافية. ومع ذلك، بل ورغم ذلك، تمكنت هذه الحركة الصغيرة من التموضع الفعال في أهم حلقات تطور الوعي الوطني والكفاحي والكياني لفلسطينيي الداخل، وتحولت لاحقا إلى ما يشبه الأيقونة النضالية لدى قطاعات هامة في مجتمعنا.

قد تكون تلك مفارقة منطقية محيّرة، وربما تستدعي التوقف عند أطراف جدلية "المرغوب والمرهوب" في ذاك الزمن، كي يتسنى لنا فهم وهضم هذا التناقض الشكلي. لهذا، فلا بأس هنا من التأكيد أن مقولاتها السياسية الوطنية الجريئة، وانسياقها السلس في مجرى تيار المقاومة الفلسطينية ومشروعها المتعاظم حينها، جاءت متجانسة لحد التطابق مع نوازع الانتماء الجذري والطبيعي عند أهلنا بعد استيعاب هول نكبتنا الكبرى، فداعبت وجدان أوسع قطاعاتهم، وعلى رأسها الحركة الطلابية والمثقفون الوطنيون. فضلا عن ذلك، فان حملة التنكيل الرهيبة والمتواصلة التي تعرضت لها كوادر أبناء البلد على يد أجهزة القمع والمخابرات، والتي تمت مواجهتها ببسالة لافتة وبمزيد من الإصرار والتحدي، وسط تخل واضح وتحريض، وربما تواطؤ، من جانب أبرز القوى المتنفذة في ساحتنا الوطنية وقتها. كل هذا قد أسهم عميقا في تأجيج مشاعر التعاطف معها، وبالتالي خلق صورة معيارية مجيدة لحركة مناضلة جاهزة لدفع أغلى الأثمان ذودا عن مواقفها. غير أن ما ذكرته يظل منقوصا، في عملية تحليل تميز دور أبناء البلد التاريخي، لولا تلك المساهمات الفكرية النوعية المعاندة جذريا للخطاب الفكري والسياسي الانفصامي للحزب الشيوعي الإسرائيلي، والذي ظل جاثما ردحا مديدا من الزمن على أنفاس كافة أوجه حركتنا المجتمعية. برأيي، فإن الجبهة الفكرية تلك كانت بمثابة الميدان الأهم في حياة هذا التنظيم، وهي التي منحته تلك الخصوصية وذاك الرصيد، حيث سجلت من خلالها أهم الاختراقات في سياج الوصاية السياسية المتجبرة، وخلخلت بهذا منظومة تصوراته العدمية المؤسرلة، والمدعمة برواية ملفقة وطنيا، أريد لها تسويغ مواقفها المعروفة من مسألة الوجود اليهودي الاستعماري في فلسطين ومشروعية دولته، وهي القضية المحورية التي ميزت التيار الوطني عن غيره حتى هذه اللحظة. ينبغي هنا التأكيد، أنه وفي خضم ذاك الحراك الفكري والتعبوي المضني والتحشيد غير المتكافئ، وخلافا لسلوك الطرف الآخر، لم تتنكر الحركة الوطنية للأدوار والإسهامات الوطنية والثقافية الهامة التي اضطلع بها الشيوعي حينها، ولم تلجأ أبدا إلى امتشاق سلاح التخوين أو إلى شخصنة مناقشاتها ونقدها وحججها القوية، فأسهمت كذلك جديا في تطوير ثقافة الاختلاف، واستقطبت بفضله عشرات المثقفين.

شيء من السياسة:

ولأن سنن الحياة تجري مستقلة عن رغباتنا، ولا تخضع لقوانين العدل الأخلاقية، وحيث حركة المجتمع والسياسة لا تفصح عن نفسها بدقة، وغالبا ما تبقى منيعة عن عين التكهن بخفايا القادم، لهذا لم يشفع رصيد أبناء البلد لها أمام استحقاقات التحولات المتواترة التي غزت حياتنا، وأعادت صياغة العقل السياسي ومهمات المرحلة بما عبرت عنه اتفاقيات أوسلو وأوهامها الوردية. في ضوء تلك المتغيرات الجارفة في الشأن الفلسطيني، وما انطوى عليه من تفريط تجاهنا، وفي ظل مناخ دولي متحمس ومخادع، وجدت أبناء البلد والقوى الوطنية الأخرى نفسها في مأزق وجودي كان أبسطه أفقا مسدودا، وأدركت أن مهمتها الوطنية التأسيسية قد استكملت، وأن أدواتها التقليدية قد استنفدت. لهذا كانت بحاجة إلى إعادة تذخير سلاحها الفكري وتجديد خطابها الوطني، واجتراح مشروع خاص بجمهور الداخل، يقدم على نحو جاذب لأجيالنا الصاعدة ليقيهم من لوثة التأسرل المستشرية حينها، وفعال في اعتراض وتعرية الادعاءات الصهيونية الخبيثة والكاذبة، وما دون ذلك سيعني السير الطوعي بالطريق إلى الهامش والتقوقع. هكذا، ومن رحم هذا التقييم العقلاني المسؤول، وبالاستناد إلى خلاصة تجربة التيار الوطني وإرثه النضالي وثوابته، ولد التجمع إطارا ومشروعا حيويا وفعّالا مسنودا بقرار ومساهمة كافة روافد الحركة الوطنية في الداخل، وتبوأ خطابها صدارة الساحة السياسية، وذاك لأول مرة في تاريخ مسيرة جماهيرنا. وبعيدا عن قصد الانتقاص من الأدوار الوازنة لجميع المركبات المؤسسة للتجمع، فإنه إذا جاز لنا القول إن عزمي بشارة، بما هو عليه من ملكة فكرية وقيادية ناجزة، كان العقل الأبرز في تطوير خطاب التجمع وترويجه شعبيا، فإنه ليس بأقل دقة القول إن أبناء البلد تحديدا كانت القلب النابض لهذا المشروع.

شيء من العتب:

بهذا المعنى وذاك السياق الموصوف، فإن التجمع جسّد الصيغة الوحدوية والشكل الإجماعي المتجدد للحركة الوطنية في الداخل، ومن ضمنها حركة أبناء البلد التي ما زال غالبية أعضائها وكوادرها ورفاقها المؤسسين منضوين تحت جناحه وهويته الجامعة تلك، ويمارسون دورهم الوطني المركزي، من خلال مواقعهم القيادية والإعلامية والفكرية والتنظيمية، بانسجام كامل مع ثوابتهم وبوعي والتزام عميقين لمهامهم، وترجمة لقرارهم الفارق بإقامة هذا الصرح الوطني وتعزيزه.

غني عن التنويه أن التجمع المتشكل حديثا في تلك الحقبة، قد شهد استقطابا هوياتيا وصراعات حامية الوطيس، وفي مرات ليست بقليلة وجدت أبناء البلد نفسها في مركزها، مما أحدث هزات عنيفة وأخرى ارتدادية أوصلت بعضهم حد خيبة الأمل والانعطاف والاغتراب. غير أن مثل تلك المناخات كانت متوقعة في ضوء ذلك الخليط المعقد من الكوادر والمشارب، مما استوجب الصبر والرويّة والعمل المثابر لتثبيت مشروعنا الأهم. وخلافا لادعاءات البعض، فإن مغادرة قسم من كوادر وأعضاء حركة أبناء البلد لصفوف التجمع، في مرحلة لاحقة، لم تكن مدعومة بقرار تنظيمي رسمي، وبرأيي، فهي لم تتحرك بجوهرها انطلاقا من دوافع سياسية أو نتيجة لخلافات مبدئية فكرية، كما يروج لذلك بعضهم، محاولين حشوها بمضامين سياسية بأثر رجعي، بل كانت بمجملها مسألة توازنات سياسية لإطار حديث التأسيس كما أشرت، ومرتبطة بجوانب تنظيمية وعصبياتية وإجرائية صرف، قابلة للحل والتجاوز وقتذاك. لست معنيا هنا بمزيد من التفصيل، إذ هناك يكمن الشيطان، ولكن أجدني مرغما على توضيح هذا الجانب حصرا، خاصة وأن غالبية رفاقنا الشباب في أبناء البلد اليوم، يجهلون هذه الحقائق. وقد يكون هذا المكان الأفضل للتنويه، أننا بصدد نشر تلك المناقشات الفكرية الهامّة قريبا، والتي جرت فصولها قبل وإبّان فترة الخلاف المذكورة، كي يطلع عليها الجميع، أملا بالاستزادة في فهم هذا الفصل الذي ظل مبهما لدى الكثيرين عن حياة حركة أبناء البلد.

ليس لأحد أن يحتكر أو ينسب لشخصه حق الملكية على مشاريع حزبية وسياسية، أو يتوهم أنها تحمل علامة تجارية خاصة به، فلكل مشارك مخلص بالفضل باب. عليه، فإن نجاح الحركة الوطنية في قلب معادلات الأمس رأسا على عقب، وتمكين وإشاعة رؤيتها على أوسع نطاق، يجب أن يبقى الانجاز الأهم في المشهد العام، وأن يكون محل فخر واعتزاز لكل وطني أسهم من قريب أو بعيد بتحقيقه، وليس مجالا للندب والندم والتمنين. من هنا، فلا يعقل أن يطل علينا، كلما دق الكوز بالجرة، من يدعي، وما أكثرهم، أنه نادم.. ولولاه.... لما حدث وما صار التجمع... وما كان عزمي بشارة زعيما.. وينبغي.. ولعل..، إلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة المملة، والتي لا تليق بقيادة وطنية عريقة.

شيء من النقد:

واذا كان بمقدور المكاشفة والنقد الصريح أن تقربا ويريحا، فلا بد لي من الهمس ببعض الملاحظات الهامة: من الناحية المبدئية، فلا حق ولا اعتراض عند أحد على خيار هؤلاء الرفاق الانسحاب من صفوف التجمع، وإعادة تفعيل وإحياء حركة أبناء البلد، ولكنني ما زلت عاجزا عن استيعاب وتفسير ذاك الانزياح الغريب عن المنطق الأساسي الناظم لدوائر الانتماء والتحالف لدى نفر محدد منهم، وتفضيلهم المتهافت والمنهجي للتنسيق والتحالف مع الجبهة الديمقراطية، في حين لم يبخل هؤلاء بالذات بتسجيل مواقف رديئة لا تخلو من العدائية المبطنة ضد حزب التجمع وقيادته.

ومنعا للالتباس، نؤكد أن لا مشكلة عندنا في التعاون والتحالف مع الاخوة في الجبهة، ونحن أول من يدعو لذلك، لكن من يبرر هجومه المتواصل متذرعا بثوابت وقضايا وطنية وقومية، عليه أن يسأل نفسه أولا من هي الجهة التي تعمل بيننا كعرّاب أمين لسياسة سلطة محمود عباس، ومن الذي يقدس أوهام الشراكة اليهودية العربية على حساب وحدة جماهيرنا. وقد تتملكنا الدهشة أكثر، ويجول بنا التفكير بعيدا، عندما نلاحظ غيابا مريبا لمثل هذه "الصولات" ضد شخوص وجهات مفسدة سياسيا ووطنيا، وحيث هاجسها الأساس إضعاف شوكة الحركة الوطنية وتشويه رسالتها.

 لست بوارد إعفاء التجمع من مسؤولية تعميق حالة التوتر، ولا من فشله في احتواء وتصريف بؤر الاحتقان المتزايدة، بيد أنها تبقى في نطاق الأخطاء الفنية والثانوية قياسا بطبيعة خطيئة الجهة الأولى. ومهما أحسنّا الظن والتمسنا الأعذار في تفسير أسباب ذاك التهافت المستهجن، فهذا لن يغني عن رؤية حقيقة التأثير الهدام على واقع أداء أبناء البلد المتناقض، والناتج أيضا عن التحاق وتسلل عناصر جديدة ومعروفة لجسد ورأس الحركة، ممن لا علاقة لهم بتاتا لا بفكرها ولا بتاريخها، وهم أقرب لوصفهم كمندوبين أو وكلاء لأحزاب أخرى هناك. لا مكان للتشكيك في صدق تخوفي لما قد يتعرض له رصيد أبناء البلد الوطني من قضم وتآكل، لهذا كان أشدها وطأة حينما استمعت مؤخرا لمقابلة مصورة مع من يقدم نفسه عضوا في مكتبها السياسي. تلك النماذج القيادية وغيرها ممن لا يربطها بمسيرة وتضحيات الحركة سوى اسمها، يهون عليها أن توظف إرثا قد بنيناه جميعا لصالح من ترتبط معه بقصة غرام محرمة، بل وتتجرأ على المطالبة بفصل خيرة كوادرها لكونه رئيسا لسلطة محلية، وتقبل لنفسها، بذات الوقت، أن تتحول لمجرد شاهد زور على حركتنا الوطنية، لصالح من هو بحاجة ماسة لتلك الشهادة.

الكثير من المسؤولية الوطنية:

هو أمر مفروغ منه بالنظر لموقف أبناء البلد، ولكن قطعا لدابر التكهنات غير البريئة، أقول لا علاقة لحديثي هذا بالانتخابات الوشيكة، وأقصى مبتغاي يرمي لتصويب حالة العلاقة الرفاقية المختلة بين الإطارين، وتأكيد المؤكد في نوعية القواسم الكثيرة المشتركة بينهما، التي تبدأ بالتاريخ المتداخل والثوابت الوطنية الجذرية، ولا تنتهي بساحات النضال. هناك مشروع أهم ينتظر التنفيذ، وليس له سوى سواعد ووعي من تربى على قيم الحركة الوطنية، وهو التصدي لكل المعوقات التي تعترض توحيد وتنظيم مجتمعنا، وتثبيت آليات مناسبة لانتخاب قيادته الوطنية المثابرة، وبناء مؤسساتنا الوطنية الجامعة، تماما كما عبر عنه أحد قياديي أبناء البلد في تصريحاته الأخيرة حول لجنة المتابعة وهوية ومشروع جماهير الداخل.

 

التعليقات