26/04/2015 - 17:16

الداخل والخارج: أبعد من المأزق/ نمر سلطاني

ما نعنيه بالداخل والخارج اختلف بين الحقبتين. فالخارج في حينه كان عبارة عن تنظيمات فاعلة ومتنافسة، مركزها مخيمات اللجوء، ومسرح حراكها الحقبة الثورية واليسارية ضمن الحرب الباردة. أما الخارج اليوم فهو المخيمات والجاليات في ظروف هزيمة اليسار

الداخل والخارج: أبعد من المأزق/ نمر سلطاني

أولّ ما يتبادر إلى الذهن عند مقاربة المأزق الفلسطيني هو التفكير بالمصطلحات المهيمنة. فكلمة مأزق أو ورطة توحي في الغالب أننا في وضعية لا سيطرة لنا عليها وليست من صنعنا. ولا شك في أن الإنسان الفلسطيني جابه من الظروف الكثير مما لا طاقة له به. ولكن الفدائي الفلسطيني الذي نهض من مخيمات اللجوء لم يقبل دور الضحية ولم يقبل الانصياع لبراغماتية الواقع. أما اليوم، فيبدو أن دور الضحية هو الغالب وأن العقلانية المهيمنة هي القدرية، أي أنها عقلانية نافية لنفسها لأنها تتغاضى عن شروط الوكالة الاجتماعية وقدرة الإنسان العقلاني على تحديد مصيره. هل بإمكاننا مع ذلك الحديث عن المأزق دون تكريس دور الضحية؟ هل بإمكاننا تشخيص الهزيمة من دون إعادة إنتاجها؟

يتفق المحللون على أن عملية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية نقلت مركز ثقل القرار السياسي الفلسطيني من الخارج إلى الداخل. فبعد أن كان الداخل هامشيًا حتى ذاك، أصبح الخارج هامشيًا منذئذ. ولكنّ الحقيقة أيضًا أن الخارج لم يكن خارجًا والداخل ليس الآن داخلًا. أعني بذلك أننا ننزع إلى الإشارة إلى هذه المصطلحات بنوع من التجريد ونحوّلها إلى كتلة هلامية متجانسة ذات معنى محدد. في حين أن واقع الداخل والخارج، آنذاك والآن، كانا يخلوان من التبسيط الذي يسبغه التجريد، بل ويفرضه فرضًا.

بدايةً، ما نعنيه بالداخل والخارج اختلف بين الحقبتين. فالخارج في حينه كان عبارة عن تنظيمات فاعلة ومتنافسة، مركزها مخيمات اللجوء، ومسرح حراكها الحقبة الثورية واليسارية ضمن الحرب الباردة. أما الخارج اليوم فهو المخيمات والجاليات في ظروف هزيمة اليسار وصعود الهيمنة الأميركية. والداخل في حينه غير الداخل الآن مع وجود السلطة الفلسطينية في دور الطبقة الكومبرادورية، أي الوسيط ما بين الاستعمار والواقعين تحته، في مقابل بعض الامتيازات الممنوحة للوسطاء. ورغم اختلاف الظروف بين الحقبتين إلا أنّ معضلة استقلالية القرار الفلسطيني ما زالت نفسها.

إضافة إلى ذلك، كان الخارج في حينه جزئيًا من حيث مشهدي اللجوء والشتات. فكثير من الجاليات والقوى التي كان من الممكن أن تساهم تمّ تهميشها من قبل العناصر المسيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية. والداخل الذي يشير المحللون إليه عند حديثهم عن تبادل الأدوار بين الداخل والخارج لا يشمل الفلسطينيين في إسرائيل - فلسطين المحتلة عام 1948. وهؤلاء مهمّشون قبل أوسلو وبعدها.

صناعات فلسطين

ولا عجب في الظروف الراهنة أن ينتشر في السنوات الأخيرة نوعان مما يمكن تسميته بصناعات فلسطين. الأول هو مشاريع التفكير الإستراتيجي الفلسطيني. والثاني هو مشاريع اللقاءات العربية واليهودية التقدمية للبحث عن بدائل للوضع الراهن. وتموّل جهات أجنبية متعددة الحلقات الدراسية وورشات العمل والمؤتمرات المتكررة عن هذه الأمور. ويتكرر نفس الحديث وتتكرر نفس الوجوه مما يثير التساؤل حول جدوى ومعنى هذه النشاطات. وهي صناعة لأنها تملك رأس المال وخط الإنتاج المتكرر وهناك تقاسم للأدوار المتكررة. ورغم أنّ هذه الصناعات أفضل من صناعات المفاوضات وما لفّ لفّها، إلا أنّها تتشابه معها في نخبويتها وفي أنها لا تفضي إلى منتوج محدد، اللهم ما عدا الشعور بالإنتاج رغم عدمه. كلاهما مستمر بقوة دفع ذاتية وبشكل منقطع عن سيرورات الواقع وجدليته وتناقضاته.

وبذلك نرى أن ما قاله عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ينطبق على السلطة الفلسطينية ومعارضيها من يسار ويمين. إذ إنه أشار إلى أن الحقل السياسي يُنتج طبقة من محترفي السياسة فيتخذونها مهنة وأسلوب حياة. بالنسبة لهؤلاء تختفي الحدود ما بين المهنة والقضية، والتحرير والدولة. فقد يمارسون المهنة حتى لو غابت القضية، ويبنون الدولة حتى لو غاب التحرير. وكل ذلك متاح لأن الدولة والحزب، مثل الشركة التجارية، كهيئات تفصل بين ملكية الشعب والإدارة البيروقراطية. فقد تستمر الأخيرة في غياب الناس.

الرومانسيات الثلاث

ولا عجب أيضًا في الظروف الراهنة أن تنتشر النظرة الرومانسية للسياسة الفلسطينية. ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من الرومانسية: الأول هو رومانسية الحاضر. حيث نجد أن بعضهم يهلّل لخطوات السلطة الفلسطينية حتى لو كانت محدودة الفاعلية ولا تنمّ عن بعد رؤيا (مثل الإعلان عن دولة وطلب الانضمام الى الأمم المتحدة)، نظرًا ليأسهم من النضال وتفضيلهم للبراغماتية. ولكنّ هذا التيار متناقض داخليًا. فرُغم تبنيه البراغماتية خطابًا إلا أنّ نظرته إلى الواقع رومانسية وبالتالي غير واقعية. هو يستبدل رومانسية النضال التي ينتقدها برومانسية من نوع آخر. أما النوع الثاني فهو رومانسية الماضي. وأصحابه ينظرون بحنين وشغف إلى تاريخ الثورة في الخارج ما قبل أوسلو، نظرًا ليأسهم من السلطة الفلسطينية، متجاهلين أوهام النوستالجيا التي تُخفي عن الرائي مساوئ تلك المرحلة (من دوغمائية الكفاح المسلح، والتفرقة بين التنظيمات، وعدم نجاعة المؤسسات الجامعة، وانعدام الديمقراطية الداخلية في التنظيمات).

في حين أنّ النوع الثالث هو رومانسية المستقبل. وهؤلاء ينظرون برومانسية إلى جزء هامشي من الداخل الفلسطيني (الفلسطينيين في إسرائيل) على أنه من سيقود المرحلة المقبلة من المعركة، نظرًا ليأس هذا النوع من السلطة والشتات معًا. تتغاضى الرومانسية الأخيرة عن عوامل الضعف الحاضرة في هذا الجزء من الشعب الفلسطيني (من ازدياد الفقر واالجريمة والفُرقة السياسية).

مشكلة هذه الرومانسيات ومشكلة التقسيمات التي تفترضها المصطلحات هي واحدة. عندما نعتاد النظر إلى الواقع عبر خانات (وهذا بلا شك نتيجة أيضا للمكانة القانونية المختلفة المفروضة على المجموعات المختلفة)، تغيب عن المشهد منظومة السيطرة العامة التي تؤثر على حياة الفلسطيني.

وبذلك، فإنّنا عندما نركّز على الخانات نعجز عن رؤية المشترك ونركّز على المختلف. وأعني بالمشترك نقاط القوة والضعف معًا. فلو نظرنا إلى المجموعات المكوّنة للشعب الفلسطيني لوجدنا أن التقسيمات والخلافات الداخلية لكل مجموعة متشابهة إلى حدّ كبير. بل وجود تحالفات بين بعض هذه القوى تتخطى الحواجز السياسية.

فمثلاً هناك تشابه ودعم متبادل بين تيار السلطة الفلسطينية وتيارات سياسية داخل الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. وهناك تشابه كبير في رؤيتهم السياسية ونظرتهم لمفهوم الصراع مع إسرائيل (هناك تشابه مثير مثلاً بين تيار المفاوضات في الضفة وغزة وتيار التعايش والتعاون العربي اليهودي داخل إسرائيل).

وهناك تشابه كبير بينهما في الموقف من التيارات الداخلية المنافسة لهما ومن قضية التحالف معها (نجد مثلاً أنّ هذه التيارات تتبنى، قولاً وفعلاً، التقسيم بين المعتدلين والمتطرفين، ونجد أنّها غير معنية بالوحدة إلا اضطراراً وشكلاً). وبالتالي صراعات القوى الداخلية في كل مجموعة متشابهة إلى حدّ كبير.

كما أننا نجد أن الخلافات بين حماس وفتح في الضفة وغزة مُصدّرة إلى الشتات الفلسطيني مما أحدث انشقاقًا عموديًا في الجاليات. وأنّ أمرًا مشابهًا حدث للخلافات داخل فتح نفسها. فهذه حاضرة في كثير من الجاليات. وقس على ذلك ضعف اليسار الفلسطيني في كل مكان. أما الخلافات الناشبة بين الفلسطينيين في تقييمهم وموقفهم من أحداث الانتفاضات والثورات العربية، في سورية على وجه الخصوص، فهي حاضرة بقوة في كل أماكن الوجود الفلسطيني. وحتى في السجون نجد التفتت الفلسطيني وتآكل التنظيمات. ذلك أنّ وهنًا عامًا أصاب الحركة الأسيرة، على الأقل منذ كسر الإضراب العام سنة ٢٠٠٤، وكذلك بسبب تدفق أموال السلطة الفلسطينية وحماس على الأسرى، وبسبب ضعف المنظمات الخارجي وبالتالي داخل السجون أيضًا.     

وخلاصة القول أنه من الخطأ التفكير بالمأزق أو بآفاق الحل بحصرها في إحدى الخانات. ذلك أنّ المأزق ليس خارجيًا لأيّ من هذه المجموعات الفلسطينية بل هو داخليّ لها جميعًا. وبالتالي لم تنجُ منه أيّ منها. ومن هنا أيضًا، فإنّ آفاق الحل لن تنكشف لنا بمعاينة واحدة من المجموعات وتنصيبها لدور الملاذ أو الأمل الأخير. ومثلما علينا أن نرى المشترك في المأزق فعلينا أن نحاول البحث عن سبل التعاون والتنظيم التي تتخطى التقسيمات الداخلية التي تمترسنا فيها طويلًا. إذا كان المأزق مشتركًا فعلينا أن نبحث عن آفاق مشتركة.

وهذا ما لا يحدث حاليًا. ذلك أنّ العديد من الحركات والهيئات التمثيلية والتنظيمية أصبحت عائقًا لأنّ سلبياتها تعلو على إيجابياتها. وهي تستحضر لغة الماضي المجيد للتغطية على حاضر العجز. لذا تنشغل هذه الهيئات معظم الوقت بالعمل للحفاظ على وجودها وتبريره، نظرًا لفائدتها الرمزية والاقتصادية بالنسبة لبعض قطاعات الشعب. فتصبح هي الغاية بدلاً من أن تكون الوسيلة. ويستمر وجودها رغم انتهاء فائدتها.

ما العمل

للخروج من المأزق علينا أوّلاً أن نتوقف فورًا عن الافتتان بالتمثيل. هذا الافتتان ليس حكرًا على مجموعة واحدة للأسف. فهو حاضر في واقع السلطة الفلسطينية مثلما هو حاضر في واقع 'القائمة المشتركة' في الانتخابات الإسرائيلية. وهذا التمثيل يصبح غاية بحدّ ذاتها للنخب وبالتالي لا يشكل بالضرورة (خاصة إذا لم تتوفر معه عوامل موضوعية أخرى غير التمثيل) عاملاً تثويريًا للواقع. وهكذا، ومن دون أن ندرك، نصبح في دائرة مفرغة من التمثيل من أجل التمثيل.

ثانيًا، علينا الانتقال إلى مرحلة التنظيم بما يلائم المرحلة الحالية. ذلك أنّ التنظيم في أرقى تجلياته هو محاولة لتغيير علاقات القوة لا التأقلم والتعايش معها. والتمثيل يصبح عائقًا في وجه التنظيم، لأنه يُلهينا ويخفي عنّا رثاثة القدرة التنظيمية الحالية. لذلك علينا، ثالثًا، دمقرطة سيرورة البناء التنظيمي وبنائها من الأسفل على مستوى الكوادر، لا من الأعلى على مستوى القيادات.

على هذا العمل التنظيمي ألا يخضع للخانات القانونية والجغرافية، بل عليه أن يشمل كل قطاعات الشعب الفلسطيني. أي أنّ عليه أن يتجاوز ثنائية الداخل والخارج. مثل هذا التنظيم سيسكب معنى في مفهوم الوكالة الاجتماعية ومفهوم القيادة بحيث لا يتوقف ذلك عند حدود التمثيل. ولا عند دور الضحية.

(نشر المقال في ملحق 'فلسطين' في 'العربي الجديد')

التعليقات