25/05/2015 - 15:56

أخطاء شائعة../ نمر سلطاني

وإذا كان المتدينون والمحافظون قد نجحوا بفرض إرادتهم، ومنع هذه العروض الفنية والنشاطات الرياضية فمردّ ذلك ليس الموعظة الحسنة، ولا قدرتهم على إقناع من يخالفهم الرأي، وإنما فرضهم لإرادتهم بالإكراه وتسلطهم على الحيّز العامّ بدون اعتبار لرغبة وحرية الآخرين

أخطاء شائعة../ نمر سلطاني

أحد التبريرات التي يسوقها محافظون ومتدينون لدعم إلغاء عروض فنية (مثل 'وطن ع وتر') أو أحداث رياضية (مثل الماراثون النسائي في مدينة الطيرة) 'تمس بالمعتقدات والعادات' هو الادعاء التالي: 'الحرية تنتهي عندما تتعدى على حرية غيرك، وعندما تتعدى على حرية الدين أو تمس بـالمعتقدات الدينية أو بالمتدينين...' والحقيقة أن استعمال مثل هذا الادعاء يدل على البلبلة الفكرية والتناقض الجليّ اللذين يسودان في أوساط بعض المحافظين في معرض تبريرهم لقمع الحريات.

بداية، يجب الانتباه هنا إلى الخلط غير البريء بين 'المسّ بالمتدينين' و'المسّ بالدين'. فمن الواضح أن ليس كل ما هو مسّ أو انتقاد يوجّه للمتدينين أو بعضهم أو بعض مماراساتهم هو مسّ بالدين ذاته. فالغالبية الساحقة من العروض الفنية أو الرياضية التي تمّ الاحتجاج عليها في السنوات الأخيرة من قبل المتدينين والمحافظين لا تنتقد الدين بمعنى مناقشة أسس الإيمان أو الدعوة لعدم الإيمان. لذا، من الواضح أن الذين يدّعون أنها تمس بالدين يريدون فرض آرائهم بالقوة ومنع إمكانية مناقشتها عن طريق ربطها بالدين وتصوير معارضتها كأنها معارضة للدين. لذا علينا أن نميّز بين المعتقدات الدينية ومعتقدات المتدينين فليست كلها سواء.  

لكنّي أريد التركيز هنا على الاستعمال الخاطئ للمصطلحات والادعاءات الأساسية. فهذا التعريف للحرية ('الحرية تنتهي عندما تتعدى على حرية غيرك') هو تبرير ليبرالي كلاسيكي (مثلا: جون ستيوارت ميل). ووفقًا لهذا التعريف فإن الحرية هي حرية العمل أو القيام بأمر ما دام الشخص لا يسبب ضررًا للآخرين. وبالتالي لا يحق للدولة التدخل ومنع حرية الشخص ما دامت ممارساته لا تسبب الضرر للآخرين. ولا تتوقف غرابة الأمر هنا على استعمال تبرير ليبرالي وغربي من قبل من يرون في أنفسهم معادين لليبرالية أو القيم الغربية. فالغريب، أولاً، هو التناقض بين التعريف والجملة التي تليه مباشرة (أن 'تتعدى على حرية الدين'). فالليبراليون الذين يدعمون هذا التعريف يدافعون عن عدم تدخل الدولة أو الجماعة بحرية تعبير المرء عن نفسه. وهذا يشمل الحرية الدينية، من ناحية، ولكنه يشمل أيضًا حرية مهاجمة المعتقدات والممارسات والمؤسسات الدينية. لذا، ومن قبيل التناسق الفكري، على من يقتبس هذا التعريف أن لا يكيل بمكيالين: الدفاع عن حرية المتدينين للتعبير عن آراء محافظة، وعدم الدفاع عن حرية انتقاد هذه الآراء المحافظة التي تتسربل بالدين.

ثانيًا، الحرية الممنوحة للمتدينين، حسب هذا التعريف، هي بالتعبير عن معارضتهم لهذا العرض الفني أو حتى اشمئزازهم منه. ولكن هذه الحرية لا تمتدّ إلى الاعتداء على حرية الآخرين بمنعهم (بالقوة أو بالتهديد باستعمال القوة) من التعبير عن مواقف مخالفة لرأي المتدينين.        

ثالثًا، الأكثر غرابة هنا هو أن هذا تعريف قديم عفا عنه الزمن وثبت بطلانه إلى درجة أن معظم الليبراليين قد تجاوزوه. كما انتقده غير الليبراليين. فمثلا، ليس صحيحًا أن الحرية هي حرية عدم تسبيب الضرر أو عدم الاعتداء على مصالح ومعتقدات الآخرين. ففي كثير من المواقف في الحياة نسبب الضرر للآخرين دون أن نعتبر ذلك تعدّيًا. فعلى سبيل المثال، المنافسة التجارية والتنافس على الزبائن تلحق الضرر بالطرف الآخر أو بالأضعف اقتصاديًا. من هنا، حتى لو تبنينا التعريف الليبرالي، لا يوجد للمتدينين الحق بأن لا يتم انتقادهم أو السخرية من مماراساتهم، ولا يوجد لهم الحق بمنع عرض فني أو ماراثون لعدم موافقتهم عليه أو لاعتبارهم أنه يمسّ بهم. وإذا كانوا نجحوا بمنع هذه العروض رغم عدم وجود هذا الحق فمعنى ذلك أنهم حصلوا على ما أرادوا بالإكراه وبالتسلط.

ولكنّ ناقدي التعريف الليبرالي اقترحوا تعريفات أخرى نظرًا لأن هذا التعريف الليبرالي الكلاسيكي كان تبريرًا فكريًا لرأسمالية السوق، وبالتالي للفوارق الطبقية الشاسعة والتوزيع الظالم للموارد. أحد التعريفات البديلة هو التعريف الجمهوراني الحديث. ووفقًا لهذا التعريف، الحرية هي عدم الرضوخ لسيطرة وإرادة آخر. أي أن لا يخضع المرء لهيمنة طرف آخر وسيطرته بشكل اعتباطي واستبدادي. لذا، علينا إذا تبنينا مثل هذا التعريف ومثل هذا التوجه أن نفكر في طرق بناء مجتمع لا هيمنة فيه لطرف على آخر، وتتوفر فيه الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمكن الإنسان من الاستقلالية، وتتخذ فيه القرارات لحل الخلافات بناءً على قواعد لعبة متفق عليها وأساس ديموقراطي لا تسلطي واعتباطي.

وإذا كان المتدينون والمحافظون قد نجحوا بفرض إرادتهم، ومنع هذه العروض الفنية والنشاطات الرياضية فمردّ ذلك ليس الموعظة الحسنة، ولا قدرتهم على إقناع من يخالفهم الرأي، وإنما فرضهم لإرادتهم بالإكراه وتسلطهم على الحيّز العامّ بدون اعتبار لرغبة وحرية الآخرين. من هنا، لا يستطيع اقتباس تعريف الحرية من يعادي الحرية (بتعريفها الليبرالي أو الجمهوراني).

ومثال آخر على التناقض هو المسيرة الأخيرة التي نظمتها الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني احتجاجًا على أحكام الإعدام على الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي وكثيرين من معارضي النظام الحالي. (وسأتجاهل هنا التناقض بين قدرة الحركة على تحشيد الآلاف الذين ساروا في المسيرة ومسيرات سابقة ضد الانقلاب على مرسي وبين عدم قيامهم بمظاهرات مماثلة حاشدة ضد مخطط برافر والذي يمسّ بحقوق ومكانة الفلسطينيين في الداخل بشكل مباشر.) وبطبيعة الحال، هذه الأحكام هزلية وجائرة ومخالفة لحقوق الإنسان، وتعبّر عن تسلطية نظام السيسي. وبالتالي، موقف الاحتجاج سليم ولا غبار عليه. ولكن، هل يعترض هؤلاء على حكم الإعدام عمومًا أو فقط عندما ينفذ ضد الإسلاميين في مصر (مثلا، هل هم ضد حكم الإعدام في السعودية)؟ وهل يعترضون على السيسي من منطلق الإيمان بالقيم الديموقراطية التي تتيح حرية الممارسة والتعبير الفرديين؟ وهل هم مستعدون للاعتراض على التسلط عمومًا أم فقط عندما يوجّه ضد الإسلاميين في مصر (مثلاً، هل هم ضد التسلط الذي يمنع العروض الفنية والرياضية التي لا يستسيغونها)؟ وبالمثل، لا يستطيع داعمو هذه العروض الفنية والرياضية تحت مسمى الحريات الفردية والحرية من الطغيان الديني، أن يدعموا في نفس الوقت تسلط وطغيان النظام السوري وخرقه لحقوق الإنسان السوري. طبعًا هذه أمثلة مختلفة، ولكنّ السؤال عن المبدأ وعن التناسق الأخلاقي والفكري.        

هذه التناقضات وهذه البلبلة الفكرية تدلّ على أن مواقف معارضي العروض الفنية والرياضية واهية، وليست إلا غطاءً للتسلط.       

التعليقات