09/07/2015 - 20:00

حول الخلاف​ الاجتماعي​/ نمر سلطاني

الصراع ليس فكرياً فحسب. بل هو مرتبط بالسياق العام وعلاقات القوة ويعبّر عن اختلاف في ​أنماط حياة. أي أن الموضوع ليس مجرد طرح رأي في سوق للأفكار على نسق "جادلهم بالتي هي أحسن".

حول الخلاف​ الاجتماعي​/ نمر سلطاني

ما معنى أن يعظ متدينٌ علمانيين حول الإختلاط بين الجنسين والرقص والصيام ​وما شابه ذلك، وهو يعلم أنهم من حزب آخر لا يقبل توجهاته ويختلف معه في رؤيته لتنظيم المجتمع ونمط الحياة المرغوب؟ مما لا شك فيه أن الخطاب الإصلاحي الإسلامي، أو الديني عموما، يبتغي تغيير المجتمع. ولكن الإصلاح هو أيضا هدف الأحزاب والحركات العلمانية أو غير المتدينة. ومن هنا، فلا ضير في أن تكون هناك نزعة تبشيرية للحركات السياسية والاجتماعية. فهي تتنافس جميعا على عقول وأفئدة الناس، وكل يطرح بضاعته في سوق الأفكار. أين المشكلة؟ تكمن المشكلة، في نظري، في الأمور التالية:

​أولا، بين الأفكار ونمط الحياة:

الصراع ليس فكرياً فحسب. بل هو مرتبط بالسياق العام وعلاقات القوة ويعبّر عن اختلاف في ​أنماط حياة. أي أن الموضوع ليس مجرد طرح رأي في سوق للأفكار على نسق 'جادلهم بالتي هي أحسن'. من ناحية، لا توجد مساواة بين الآراء المختلفة. هذه الغلبة أو الظهور أو الهيمنة لبعض الأفكار على حساب أفكار منافسة لا تنبع من تفوق معرفي. بل تنبع من السياق الاجتماعي والسياسي العام الذي تطرح فيه هذه الأفكار. وبالتالي عندما يطرح المتدين المحافظ نقدا لفئات أخرى من المجتمع فهو يعتمد على واقع الهيمنة الذي يعطي رأيه قوة وصدى لم تكن لتتوفر له في سياق آخر بديل. ومن ناحية أخرى، على هذا النقاش الفكري أو الثقافي أن يعي أنه لا غلبة له ولا تجوز له غلبة بمجرد الهيمنة الثقافية أو العددية. فمن حق الفئات أو الأفراد الذين يخالفون هذه الهيمنة أن يختاروا أنماط حياة مختلفة. ومرد ذلك اتفاق ضمني بين الأطراف على قبول التعددية ورفض الإكراه. وعلى هذا الاتفاق أن يسري مع اختلاف الظروف وعلاقات القوة. فمثلا، تحافظ فئات دينية إسلامية على، وتدافع عن، حقها بالاختلاف في ظل الهيمنة العلمانية أو غير المتدينة الغربية التي تتميز بالنمط الاستهلاكي وفردانية المجتمع. وفي المقابل، ومن منطلق التناسق الفكري، عليها أن تحترم حق الأقليات والأفراد في مجتمعات تكون فيها هي بموقع الأكثرية. المشكلة هنا، أن الهيمنة الدينية تحتاج إلى حالة أزمة مزمنة لكي تعيد إنتاج نفسها باستمرار. من هنا ما قلته لن يكون مقنعا لها لأن الأكثرية لا ترى نفسها في موضع الأكثرية المهيمنة. بل هي تتقمص وعي الأقلية وتتصرف في سياق تهديد وحصار دائم. ومهما امتلأت المساجد والكنائس بالمصلين فالعالم مليء بالخطيئة!                

ثانيًا، اختزال النقاش إلى الثقافة والهوية:

كان عبد الله العروي في كتابه 'الأيديولوجيا العريية المعاصرة' قد أشار إلى هذا النمط الاختزالي الذي يتمركز على القيم بالأساس وسماه نمط الشيخ ويقابله عنده نمط السياسي (الذي يدعو للتركيز على التنظيم السياسي) ونمط داعية التقنية (الذي يدعو للتحديث والعلم). ولمثل هذا الاختزال إنعكاسات سلبية أهمها: من ناحية، فإن أحد الأسباب التي تجعل بمقدور تصوير النقاش على أنه يتمحور على القيم هو الفصل بين الأفكار ونمط الحياة، أي بين الجانب المثالي والجانب المادي. ومن ناحية أخرى، هذا بالضبط ما يجعل من السهل على الفكر الديني أن يكون فكرا خلاصيا لأن هناك فصلا ما بين سعي المؤمن إلى الخلاص الروحي والواقع المرّ الذي يحياه. ولكن الإشكالية هنا هي اختزال تحليل الواقع إلى معتقدات وممارسات قيمية. ففي زمن الهزيمة والتفتت والتفاهة ينظر المتدين حوله فلا يرى بالأساس إلا صراعًا قيميًا. وهذا رد فعل طبيعي لأن من الواضح أن أصعب الأمور هو تغيير الواقع المادي. والحل المتدين هو الانطواء إلى العالم الذاتي للخلاص الفردي، من جهة، والوعظ بالآخرين ليجدوا خلاصهم الفردي أيضًا، من جهة أخرى. ولكن هذا الحل ينطوي على خداع للذات لأن الماديات لن تتغير بمجرد الخلاص القيمي. لذا يزداد اغتراب المتدين عن العالم مع الوقت وعزوفه عنه. وأخيرًا، يجب التنويه أنه حتى في الصراع المختزل الفكري من المغالطة تصوير الصراع على أنه بين من يمتلك القيم ويحافظ عليها وبين من لا يملكها أو تخلى عنها. ولكن هو خلاف على منظومة قيمية مختلفة أو تفسير مختلف لقيم متشابهة. فالعلمانيون، الليبراليون والاشتراكيون منهم، على سبيل المثال، لهم رؤى مختلفة حول تشكيل الحيز العام والحيز الخاص والعلاقة ما بينهما.  

ثالثا، الاستعمال الأيديولوجي للتراث: 

يقوم المتدين بتصوير النقاش الاجتماعي على أنه بين من ينهل من التراث وبين من يتنكر له. وكنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى إشكالية مثل هذا الادعاء بمقارنة المواقف المحافظة العربية بالغربية وتبيان أوجه الشبه العديدة واللافتة للنظر (ينظر: محافظون هنا، ومحافظون هناك). وتجد الوجه الآخر لهذا الادعاء عند بعض العلمانيين الذين يقبلون الادعاء الديني عن التمسك بالتراث ويطالبون بالقطيعة المعرفية مع التراث (مثلا: هاشم صالح في كتابه 'الانسداد التاريخي' وكتابه 'الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ'). فالفريق الأول يرى في التراث الملاذ، في حين يرى فيه الفريق الثاني عبئا تاريخيا يجب الخلاص منه. وقد قرأت هذا الادعاء الديني عند آخرين ليسوا من التيار الديني. فتجد أحدهم يقول: إن الليبرالية تهمل التراث مع أن التراث هو حجر الأساس الذي يمكن البناء عليه. ومشكلة هذا الادعاء أنه لا أساس له من الصحة عندما يتعلق الأمر بالمفكرين الليبراليين الأساسيين في الغرب. وكذلك فهو يتجاهل أن التراث (إن استخلصنا شيئا من النقاشات في العالم العربي على مدى العقود الأخيرة في القرن الماضي) هو سلعة أيديولوجية، إن صح التعبير. حيث يفسره المتنافسون ويغرفون من نبعه كيفما اتفق مع نظرتهم وفهمهم. والإشكالية الأخيرة لهذا الادعاء، مرتبطة بما أوردت في النقطة السابقة أعلاه، فكما أوضح برهان غليون في كتابه 'اغتيال العقل' مثلا، يصبح هذا النقاش (مع التراث أو ضده؟ مع أي نسخة من التراث؟) نقاشا ثقافيا عن النهضة بدل أن يكون نقاشا حول شروط النهضة.  ​

رابعًا، احتكار الحقيقة:

الأنكى من الاختزال والاستعمال الأيديولوجي للتراث هو إنكار هذا الاستخدام الأيديولوجي وذلك عن طريق اللهجة الدينية التي تحتكر الحقيقة. حتى عندما يلبس الموقف المتدين دور الواعظ ودور المتمسك بالعادات والتقاليد فهو يفعل ذلك من منطلق الدفاع عن الإسلام وتبيين موقف الدين: هذا ليس موقفي بل موقف الإسلام. أي أنه يقدم تفسيرا شخصيا للدين وللتراث وينفي كونه شخصيا في الوقت ذاته. ويتجاهل هذا الموقف الأيديولوجي النافي لأيديولوجيته تعدّد التفسيرات وكثرة الاجتهادات بين علماء المسلمين على مر العصور. وبذلك يسعى إلى احتكار الحقيقة عن طريق نفي الوكالة الاجتماعية التي تقوم بتفسير النص المقدس وتتوسط بين النص والمتلقي. وبذلك يسعى هذا الموقف في نهاية الأمر إلى إعلاء شأن نمط الحياة الذي اختاره على أنماط الحياة الأخرى المنافسة عن طريق ربطها بالحقيقة. بالتالي لا يقبل هذا الموقف بالمساواة بين أنماط الحياة المختلفة فهو يعتبر نمطه فقط الصحيح في حين ضل الآخرون عن الهداية وعن الصواب. ومن حق ممثلي هذا التيار التعبير عن رأيهم والاقتناع بصحته مثل غيرهم من التيارات. لكن الإشكالية أنهم لا يرون برأيهم رأيا شخصيا أو حركيا بل تعبيرا عن المقدس.  

خامسًا، الإقصاء والتكفير:

يتزاوج امتلاك ناصية الحقيقة واحتكار فهم النص المقدس مع اللغة الإقصائية والطائفية التي تنتشر في ربوع العالم العربي في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، وإن كانت ذات تاريخ طويل. هذه اللغة الإقصائية، وأحيانا التكفيرية، تنفي وتمنع إمكانية التعددية المشروعة. ومن الواضح أن علينا أن نجد توازنا ما بين الوحدة والاختلاف. إن الحديث عن 'النسيج الاجتماعي' وكذلك عن 'الوحدة' مقبول طالما لم يكن ذريعة لإخماد التعددية والحوار حول الاختلاف. ألا يستطيع المتدين أيضا أن يستعمل هذه المصطلحات لمنع إظهار وإشهار أنماط الحياة الخارجة عن نطاق الهيمنة؟ مشكلة الإقصاء والتكفير والعنف ليست في تهديد 'النسيج الاجتماعي' (أيا كان معنى هذا المصطلح الفضفاض). مشكلته في عدم احترام خيارات الآخرين وإكراههم. لذا يبدو أن علينا (على خطى الفيلسوف الليبرالي الأميركي جون رولز) التفرقة ما بين الاختلاف العقلاني والاختلاف غير العقلاني. الإقصاء العنيف والتكفيري لا يدع مجالا للحوار ويرفض التعددية ويتحول من الوعظ إلى الإكراه وصراع القوة (ينظر أيضا: أخطاء شائعة).   

سادسًا، بين المحافظ والديني:

 من الخطأ اختزال الخطاب ​المحافظ إلى الديني ​(من قبل العلمانيين) ​و​يقابل ذلك​ تصوير المحافظ كأنه امتداد مباشر للديني (من قبل المتدينين). فمن ناحية، الهيمنة التي يستند إليها التيار المتدين هي هيمنة ثقافية شاملة شهدها العالم العربي (ومثلها في شمال أميركا مثلا) منذ السبعينيات وما بعدها. بالتالي مشكلة التيار العلماني التقدمي لا تتوقف على التنافس مع التيار المتدين. المهمة أصعب وأوعر من ذلك. ومن ناحية أخرى، يغطّي التيار المتدين على حقيقة مواقفه الاجتماعية المحافظة بربطها بالمقدس وبالتالي يصعب مناقشتها بشكل عقلاني، لأن الأصول تختبأ وراء الفروع، ويختبئ المحافظون المتدينون خلف الدين. ومثل هذا الغطاء يمهد الأرضية للخطاب الإقصائي وللخلاف غير العقلاني الذي سبق ذكره (ينظر أيضا: 'ملاحظات عن الطيرة').       

​سابعًا، غياب ثقافة الحوار: 

من دواعي الأسف أن أسلوب النقاش الذي يحيط بمثل هذه المواضيع ويتميز بالإسفاف والشخصنة والشيطنة والإقصاء له تاريخ طويل حتى بين كبار الأدباء والمفكرين. فتجد مثلا أن أديبا معروفا ومحافظا مثل مصطفى صادق الرافعي يكتب كتابا كاملا عنوانه 'تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد' للهجوم المقذع بسخيف الكلام على طه حسين بعد أن كتب الأخير كتابه الشهير 'في الشعر الجاهلي'. كما رصد تركي علي الربيعو في كتابه 'المحاكمة والإرهاب: عقلية التخوين في الخطاب العربي المعاصر' للكثير من المعارك الأقرب زمنا. ولكن في أيامنا هذه يهاجم المهاجم ببضعة سطور فيسبوكية ومن ثم يتمّ استنفار الرعاع الفيسبوكي. ولا حاجة للاستفاضة بالقول إن مثل هذا الأسلوب من النقاش يضر ولا ينفع. وهذا يعني وجوب تطوير ثقافة حوار تقوم على التعددية لا نفي الآخر. ولا يصح، على سبيل المثال لا الحصر، مقابلة الذكورية الدينية بالذكورية النسوية التي تعيد إنتاج أنماط الأساليب الذكورية. فمثل هذه الأساليب لا تخرج عن ديناميكيات المجتمع الذي تسعى الحركة النسوية تغييرها (ينظر: 'ملاحظات حول الحركة النسوية الفلسطينية'). وعموما لا يجب مقابلة الإقصاء بالإقصاء المقابل. 

التعليقات