10/07/2015 - 15:14

عن آليات الإقصاء ونزع الشرعية../ د.عمر سعيد

ولتحقيق تساوق شعبي واسع مع الفكرة الأصولية، يوظف خطاب الإسلامية بؤس الواقع الحياتي العربي وهموم وإحباطات الناس في إعادة صقل وشحن المخيال الشعبي بمقولات تضليلية وبرّاقة لمفهوم النهضة المنتظرة، فيختصرها بمقولات تداعب الميول الإيمانية العامة مثل وهم إعادة إنتاج دولة الخلافة الإسلامية

عن آليات الإقصاء ونزع الشرعية../ د.عمر سعيد

لسنا بتلك السذاجة كي نتجاهل تأثير عمليات الهدم التي تعصف بعالمنا العربي في توتير علاقة التيار الإسلامي بالوطني في الداخل الفلسطيني، لكن، وبذات الوقت، لا يمكننا أيضا تجاهل عقلية الإقصاء والتعصب المفرطة والحاضرة أصلا في خطاب الإسلامية منذ نشأتها ومن دون علاقة مع تلك الأحداث المأساوية. لقد جاءت واقعة 'الدبكة والاختلاط' الأخيرة، بما تعنيه من اختلال في سلم الالتزام والمسؤولية في وعي أبطالها، وبما تخللها من عاصفة انفلات مزر ومريع، لتفصح مجددا عن ضعف وهشاشة لحمتنا المجتمعية، وغياب محزن لقيادة دينية حكيمة ومتنورة تعرف واجباتها الوطنية، وتدرك جيدا معنى الاختلاف، وتعلي شأن الحوار وحرية الرأي، وتترفع عن صغائر الأمور لتحمي مجتمعها من الضياع، بدلا من الانشداد للشعاراتية الجوفاء والتحريض إلى حد الضلوع في إذكاء نار الفتنة والاحتراب الداخلي، كلما دق الكوز بالجرة.

في ما أسوق هذا الموقف النقدي، فليس معنى ذلك أن التيارات الوطنية العلمانية لم تسهم هي الأخرى في تعميق حالة القطيعة والتنافر المجتمعي عبر مواقف وسلوكيات مستهترة بتراثنا وتاريخنا وأخلاقيات مجتمعنا. وما دمنا نتحدث بهذا المستوى، فلا بد من الإشارة أيضا إلى أن تلك الغزوة وسابقاتها قد كشفت عن قصور معرفي خطير بهذا الحقل الوجودي، وفي كيفية تعامل كوادر الحركة الوطنية مع المسألة الدينية والتراثية وفهم محدداتها، فضلا عن العجز في استبطان خصوصيتها وأهميتها البالغة في صياغة هويتنا، ودورها المؤثر في حياتنا اليومية والوطنية، وهي أمور ستتم مناقشتها في معالجات قادمة.

في هذه الملاحظات السريعة، سأحاول الإشارة إلى الأساس الفكري الذي تعتمده الإسلامية في عملية تعزيز نفوذها ووصايتها المجتمعية، وتسليط الضوء على الآليات الخفية التي تستخدمها بذكاء وفطنة في عمليات الإقصاء ونزع الشرعية عن خصومها ومنافسيها، جنبا إلى جنب مع سعيها المتواصل للظهور بثوب العقلانية والمتقبل للآخر والمنفتح على الجديد والتطور. لكن قبل ذلك ينبغي التأكيد أن نجاحها في التمدد الشعبي والاستحواذ الكلي على النطاقين التراثي والديني، ما كان ليتحقق لولا ذاك الانسحاب شبه الشامل للتيار الوطني العلماني من هذه الساحة الوجودية، عبر ارتضاء تسوية غير صريحة 'لإعادة الانتشار' وتوزيع الإرث الثقافي المجتمعي بينهما على قاعدة 'لكم علمانيتكم ولنا ديننا'. بهذه التسوية العقيمة غير المعلنة تشكلت الشروط الموضوعية لإقامة سدود ومعازل اجتماعية في بيتنا الواحد، ودفعت بمجالنا الثقافي والوطني إلى معايشه قطيعة مقنعة بين مركبات الحركة المجتمعية بجناحيها العلماني والديني.

من الطبيعي، وبعد ذاك الانسحاب العلماني العبثي، وانشغال كوادره ومثقفيه بالشأن الوطني العام دون هذه الساحة، فقد تمكن أصحاب التيار الاسلامي المتشدد من عرض 'بضاعتهم الفكرية' وكأنها تجسيد فقهي لمبادئ الشرع، وبذلك وفروا لها 'شريطاً أمنياً عازلاً' لا يجوز اقتحامه سوى 'لأهل العلم'، وإلا وقع 'المتسللون' في المحظور الديني. وأهل العلم في قاموسهم هم جمهرة الشيوخ والدعاة والنشطاء والمتخصصون في العلوم الإسلامية من أنصار ومحازبي الحركات الأصولية. ومنذ هذه اللحظة أصبح ممكنا، لا بل من السهل، الانقضاض والمباشرة في ممارسة حلقات متواصلة من التشويه المنهجي للتيار الوطني، تبدأ باعتماد تصنيفات هابطة لألوان وتيارات حركتنا الثقافية، فتختصرها، هكذا، بتيارين: إسلامي وعلماني، فتجعل بذلك المتأسرل والعدمي والمتصهين والحالم.. في جبهة واحدة مع الوطني الديمقراطي المنتمي لجذوره ومجتمعه، هي جبهة العلمانية؛ بينما تحاول أن تظهر واقع التيار الإسلامي منسجما ومتناغما في وضوحه والتزامه، وكأنه وحدة واحدة لا يسري عليها قانون الاختلاف والتناقض.

لقد لعبت هذه التقسيمات السياسية المكشوفة دورا فعالا في تأليب بسطاء الناس ضد الحركات السياسية الناشطة وإفراغ خزانها البشري، وإبعادهم مجانيا عن الالتحاق بالعمل السياسي والوطني المنظم، فضلا عن قتل فرص الحوار والتثاقف، وتعميق التعصب الفئوي وتسفير العقل في إجازة لا تعرف نهايتها. ولأن الحركة الإسلامية في الداخل نأت بنفسها عن واجب المساهمة الفكرية في تطوير الخطاب الديني وتعميق جانبه التسامحي، انطلاقا مما يتيح لها وضعها الخاص في وطن سليب، وحضور هامش ديموقراطي مساعد، فقد ظلت تتلطى في الهامش الرمادي لحركة الفكر والثقافة، ومثقلة بمواقف تلقينية ومستعادة هي مجرد صدى لمواقف عفا عليها الدهر إسلاميا، وباتت بحاجة إلى مراجعة واستبعاد وتطوير. لهذا تحديدا، وفي معرض سجالها مع 'الآخر' تكاد تلجأ، وبصورة دائمة، إلى حيل الانتزاع والانتقاء وافتعال 'الزفات الفضائحية' لفرض هيمنة مطلقة لمواقفها، وذلك بعد أن تقوم بزج مكثف لمصطلحات ظاهرها ديني كالتحريم والنهي والتكفير، وما إلى ذلك من عوامل مساعدة، وباطنها الوظيفي نفي حق الآخر في عرض رأيه الحر وحرمانه من مقارعة الحجة بالحجة.

لا يكتفي هؤلاء بمحاولة إعدام الحركة الوطنية والتمثيل بها ودفنها في قبر واحد مع العملاء، بل يمعنون في اعتبار علمانيتها، وبأسلوب شعبوي مثير، مرادفا للكفر والإلحاد، لدرجة يصبح معها مجرد الترحم عليها وهي في قبرها، فعلا مشينا ومنافيا للإسلام. هذا ما يفسر حربهم المقدسة ضد العلمانية والتي تظهر في أدبياتهم وكأنها الوحش الكاسر الذي سيغرز أنيابه الصفراء في جسد العرب والمسلمين ليعلن موته النهائي واختفاءه عن الوجود.

ويتناسى بعض هؤلاء أن مفهوم العلمنة 'الملعون' في نظرهم، خضع لقانون التاريخية منذ أن استحدث في بيئته الغربية (فصل الدين عن الدولة)، حتى بات اليوم يعني بمفهومه الأوسع أنه مسعى وتوتر مستمر بغية الاندماج في العالم الواقعي. من هنا، أصبحت العلمانية تفهم كموقف حر ومنفتح من المعرفة نفسها، وبالتالي هي مفهوم مرادف للحرية. هذا هو جوهر الخلاف حول المضمون الحقيقي لفكرة العلمنة التي نسعى إلى إسناده وتأسيسه في فكرنا المعاصر، بل وحتى في فهمنا لتراث أسلافنا وليس في الجانب الإيماني، كما يروق لأصحاب هذا التوجه بثه وترويجه، وكأن الخلاف قائم على أساس الإيمان بالله ونبيه أو الإلحادية.

بهذا المعنى، يمكننا القول إن العلمانية ليست مخلوقا غريبا عن ثقافتنا، إذ لها جذور أصيلة رابضة في بنيتها، وعبر عنها تيارات ورموز هامة في تراثنا الفكري، كان أبرزهم ابن رشد الذي له يد خضراء في الحداثة الأوروبية اللاحقة، لكنه ابتلي بتحريض السلفيين في ذاك العصر جراء مساهماته النيرة، التي تعتبر من أهم المحاولات في تاريخ الفكر الإسلامي لتدشين قواعد للحداثة العقلية في حياة المجتمع.

ولتحقيق تساوق شعبي واسع مع الفكرة الأصولية، يوظف خطاب الإسلامية بؤس الواقع الحياتي العربي وهموم وإحباطات الناس في إعادة صقل وشحن المخيال الشعبي بمقولات تضليلية وبرّاقة لمفهوم النهضة المنتظرة، فيختصرها بمقولات تداعب الميول الإيمانية العامة مثل وهم إعادة إنتاج دولة الخلافة الإسلامية.

وبدلا من أن يتحول مشروع نهضة الأمة إلى الهاجس الأول لوجودنا في التعلم والمثابرة والوحدة والانسجام والانفتاح الواعي على إنجازات العصر، يحصر هؤلاء هذه المهمة المقدسة في قوالب نمطية ومعادلات مفارقة للواقع، حيث تردد عن ظهر قلب، بينما يمارس عكسها في الواقع المعاش. وبمنظور التيار الديني، تكفي العودة لطريق السلف الصالح مدعما بإقبال على بعض جوانب الحضارة الغربية من علوم طبيعية وتكنولوجية، حتى نحقق نهضتنا التي تخفق لها قلوبنا وترنو إليها عيوننا. أي أن فهمهم لتاريخ ومستقبل المجتمع الإسلامي ينطلق من تأسيس علاقة سبب واشتراط وحيدة تبدأ بتجذير الدين والأخلاق، وتنتهي بحصول التطور والتقدم المنشودين، دون الاهتمام بإصلاح العقل الفقهي ونقد الموروت الديني وتنقيته من معوقات التطور والحداثة، وتغيير أنماط التفكير والممارسة. والأنكى من ذلك أن دعاة هذا الموقف، وفي معرض الدفاع عن مشروعهم، يجندون مناهج وتقنيات البحث والتحليل العلمي 'الوافد إلينا من الغرب' لتدعيم حجتهم ولا يكترثون لحقيقة أن وعيهم الحاضر والمجادل متأثر حتى النخاع بنتاج تلك الحضارة، وبفضلها تتم عملية إعادة بناء تصورهم الجديد لمفهوم النهضة، والذي ينطوي على معان ومضامين لم يعرفها المجتمع الإسلامي الأول، ولم يكن أصلا بقادر على إنتاجها، لا لعيب فيه، وإنما بحكم درجة التطور المجتمعية والمعرفية لتلك الحقبة.

نستطيع الجزم، وليس من قبيل المزايدة أو المناكفة، أن الإسلامية في الداخل لا تولي اهتماما حقيقيا لقضايا الانفتاح والتجدد، ولا للشأن الثقافي والفكري التنويري، وهي ماضية بثبات في نهجها التلقيني، لهذا فهي تنتمي لصنف التنظيمات الموغلة في التعصب والانغلاق، حتى بالمقايسة مع نظيراتها في المنطقة العربية. لهذا السبب، فليس من قبيل الصدفة أن تكون الحركة الأولى، خارج الأراضي المصرية، التي أعلنت قبولها الفوري لتكفير المفكر الإسلامي الكبير نصر حامد أبو زيد، وتكاد تكون الجهة الوحيدة التي تحرم أو تمنع استعمال الآلات الموسيقية الوترية في النشاط الفني، وأول وآخر من تجرأ على تخوين حكيم الثورة (جورج حبش) والمطران كبوتشي ووصفهما بالصليبيين، وأما عن القائد الرمز جمال عبد الناصر فحدث ولا حرج. وقد تتطاول قائمة ضحايا هذه المدرسة المتشددة لتصل روما، لكن الأمر اللافت أكثر هو طريقة تعاطيها مع محنة المفكر الإخواني سيد قطب، والتي تكاد تأتي على نحو متطابق مع الطقوس المصاحبة لذكرى مقتل الإمام الحسين عليه السلام عند الطائفة الشيعية، حتى صار بعض أنصارهم ومحازبيهم يعتبر أفكاره وكأنها مقدس وجزء من الدين، ثم سرعان ما تزج بعنفوان في دائرة صراع سحرية لا تنتهي فصولها في مهمة تنشئة أجيال متتابعة على كره ناصر، وتسخيف دوره التحرري التاريخي، ومحاصرة الحركة القومية والتيارات الوطنية العلمانية.

إزاء هذا الواقع المحبط والمشحون بالريبة والعداوة، وبالعودة إلى قضيتنا الأولى يبقى السؤال الأهم: ما عسانا نفعل؟ وكيف ينبغي لنا التصرف لحماية ساحتنا الوطنية من التشرذم والصراعات الثانوية؟ برأيي، وبالنظر لخصوصية موقعنا وتوفر قنوات معتبرة للتواصل والتأثير، فإن الطريق الأمثل والأقصر تكون باحتواء ذيول هذه الحملة التي باتت تقترب من حدود الفتنة، والعمل الفوري على ضبط إيقاعها وتداعياتها، في إطار جهد مشترك بين الإسلامية من جهة، وبين التجمع وكافة الأطر الوطنية الأخرى من ناحية ثانية، على أن تأخذ مهمة علاجها موقعا أوليا من اهتمام أحزابنا في إعادة تنظيم صفوف مجتمعنا، الذي تنتظره مهمات جسام لن يكتب لها النجاح إلا بوحدة بيتنا الداخلي.

علينا أن نضع الأمور في نصابها المناسب، فنحن في نهاية المطاف جزء من شعب تحت الاحتلال الصهيوني، ولسنا بصدد التنافس على الفوز والظفر بقلب الجماهير للوصول لسدة الحكم حتى نختلف على طبيعة نظامه. مع هذا، ينبغي على كافة أطرنا العمل على مراجعة وتقييم هذه التجربة بكثير من الجرأة والنقد، وتعزيز عملية التثقيف الفكري لأبنائها، وترسيخ قيم التسامح والتشارك، كي يتسنى لكل طرف ممارسة واجباته تجاه الآخر، والتزام الحدود المرعية بين أطر تحترم دورها وتخلص لمهامها. 

التعليقات