16/07/2015 - 14:00

عبر يونانية للمجتمع الفلسطيني/ د. امطانس شحادة

إن التنظيم على أساس قومي ديمقراطي لا يعني فقط إقامة مؤسسات تمثيلية أو منتخبة، بل يعني قبل كل ذلك قيما مشتركة وقواعد تنظم الاختلاف والتمايز داخل المجتمع، وتوفر الشرعية والمنطق لطرح مطالب سياسية ومعيشية جماعية

عبر يونانية للمجتمع الفلسطيني/ د. امطانس شحادة

تعد الأزمات الاقتصادية مناخا جيدا بل فرصة متاحة لفرض تغيرات في السياسات، خصوصا الاقتصادية، ولطرح أطر فكرية مغايرة تتحدى الوضع القائم. فمثلا الأزمة الاقتصادية في سبعينيات القرن الماضي كانت فرصة سانحة انتهزها المحافظون في بريطانيا للوصول إلى الحكم وفرض حلول قاسية للأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي عصفت ببريطانيا. مع ذلك، لم يتردد المحافظون برئاسة مارغريت تاتشر من طرح مشروع اجتماعي-ثقافي- هوياتي محافظ مرافق للبرامج الاقتصادية الليبرالية. وفي تلك الحقبة أيضا، طرح الرئيس الأميركي رونالد ريغين مشروعا اقتصاديا اجتماعيا شبيها بطرح المحافظين في بريطانيا ونجح في إعادة تعريف وظائف الدولة الاقتصادية، والذي روفق بمشروع اجتماعي ثقافي محافظ. بات هذا الطرح يعرف بطرح المحافظين الجدد، الذي يدمج بين الليبرالية الاقتصادية الجارفة والطرح الاجتماعي المحافظ والعودة إلى الدين. تغلغل طرح المحافظين الجدد بأشكال متعددة إلى بقية الدول الغربية الرأسمالية. حاولت بعض الأحزاب في التسعينيات ترويض هذا الطرح ودمج أقسام منه بالفكر اليساري التقليدي ليعود إلى سدة الحكم، خصوصا الطرح الاقتصادي، كما فعل طوني بلير حين عرض منظومة "الطريق الثالث"، الذي ما برح أن تحول إلى نهج نيوليبرالي ملطف بعض الشيء.

هذا العرض التاريخي المقتضب جاء ليوضح أهمية الدمج الذي جاء به تيار المحافظين الجدد واليمين الأوروبي (ويمين الوسط) بين نظام اقتصادي ليبرالي ونهج اجتماعي محافظ لتعزيز تأثيره على المجتمعات الغربية. يفسر هذا الدمج، مثلا، نجاح أحزاب اليمين بالبقاء في السلطة لمدة طويلة على الرغم من عدم الاستقرار الاقتصادي. إذ نجحت أحزاب اليمين بتحويل الطرح الاقتصادي الليبرالي إلى نهج سائد في غالبية الدول، حتى تلك التي انتقلت فيها السلطة إلى أحزاب غير يمينة أو أحزاب معدودة على يسار الوسط أو اشتراكية - ديمقراطية. وحظيت أحزاب اليمين، بكثير من الحالات، بدعم الطبقات العاملة وأحيانا المسحوقة والمتضررة المباشرة من سياساتها الاقتصادية، نتيجة تغيير الوعي الاجتماعي والثقافي والهوياتي والرغبة في الحفاظ على خصوصية المجتمعات الغربية.

لم يجد اليسار التقليدي لغاية السنوات الأخيرة طريق العودة إلى الحكم بسبب النجاح الاقتصادي لأحزاب اليمين ونجاحها في تحويل مسؤولية فشل الأفراد الاقتصادي للأفراد ذاتهم وليس الدولة، وكذلك توسع الاقتصاد العالمي ونموه – بالرغم من العثرات الاقتصادية التي تواجهها في السنوات الأخيرة - هذا من جهة، ومن جهة أخرى فشل في إقناع المجتمعات بتشوهات النظام الاقتصادي الليبرالي، وتكلس فكر اليسار الاجتماعي، وعجزه عن تقديم بديل ينظم العلاقات داخل المجتمعات. ولهذا بدا اليسار الأوروبي التقليدي بصورة المهادن والمتفهم للطرح النيوليبرالي لأنه لم يواجهه بطرح اقتصادي اجتماعي ثقافي شامل.

مؤخرا، وبسبب تزايد عوارض العطب في السياسات النيوليبرالية المتوحشة وتراجع النمو الاقتصادي والأزمات المالية المتتالية، بدأت عودة، متواضعة، لأحزاب اليسار إلى الحكم في بعض الدول الأوروبية، لكنها كانت عودة متعايشة إلى حد ما مع النظام الاقتصادي العالمي، تتعامل معه دون أن تتنازل تماما عن تدخل الدولة بالاقتصاد. هذا ما حصل في إسبانيا وفي فرنسا بصورة أقل مع عودة يسار الوسط وهزيمة الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي. عملت أحزاب اليسار أو يسار الوسط تلك بأدوات ناتجة عن تزاوج النظام الاقتصادي الرأسمالي مع بعض آليات دولة الرفاه وتدخل الدولة. هذا التزاوج أعاق نمو يسار جديد جريء وواضح يقنع الجمهور بضرورة مواجهة جشع الأسواق وسيطرة رأس المال ويطرح مشروعا اجتماعيا واضحا؛ إلى أن جاء فوز حزب "سيريزا" (أقصى اليسار) بزعامة ألكسيس تسيبراس في الانتخابات اليونانية الأخيرة، الذي عرض بديلا اقتصاديا اجتماعيا ثقافيا جريئا وشاملا للنظام النيوليبرالي المهيمن. نجح تسيبراس وأقنع الشعب اليوناني بأن هناك بديلا ديمقراطيا يدمج بين التعامل مع الأزمة الاقتصادية وإعادة العنفوان والكرامة الوطنية.

وبغض النظر عن نتيجة المفاوضات بين الحكومة اليونانية والاتحاد الأوروبي لغاية الآن، إلا أنه من الواضح أن مسار اليونان المستقبلي سيكون إيجابيا ومختلفا. ذكّر الشعب اليوناني العالم وأوروبا أن هناك بديلا، وأنه توجد إمكانية لعودة اليسار الحقيقي للحكم، شرط أن يشتبك فكريا مع اليمين في كافة المحاور دون مهادنة.

عدم التنازل أمام التيارات اليمينية الدينية المحافظة واليسار المتكلس

العبر الأساسية التي نستقيها من تجربة اليونان ونتائجها في غاية الأهمية لتغيير واقع الفلسطينيين في الداخل ولتطوير الأحزاب اليسارية الفاعلة داخل المجتمع الفلسطيني. أهمها عدم التنازل أمام التيارات اليمينية الدينية المحافظة، أيا كانت، ولا أمام اليسار التقليدي المتكلس، الذين لا يرون في الديمقراطية ولا في تنظيم المجتمع الفلسطيني على أساس قومي شروطا ضرورية لتغيير واقع المجتمع الفلسطيني في الداخل؛ ثانيا، طرح بديل سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي متكامل أمام الطروحات القائمة. هذه وظائف اليسار الذي يصبو إلى التغيير ولا يقبل المحافظة على القائم. ثالثا، إن العنفوان والكرامة الوطنية لا تتعارض مع طرح يساري حقيقي، شرط أن يكون المشروع ديمقراطيا بجوهره؛ فالتعامل مع مشاكل وهموم الناس اليومية ومواجهة سياسات الدولة، لا يكفيان لتحويل المشروع القومي اليساري إلى تيار مركزي، بل يجب طرح مضامين سياسية واجتماعية وثقافية وهوياتية، تعمل في حالة الفلسطينيين في الداخل على ترتيب وتنظيم المجتمع على أساس قومي وتعرض بديلا للمشاريع التقليدية المحافظة.

إن تنظيم المجتمع على أساس قومي لا يعني بأي حال أن تتحول القومية إلى حركة عصبية وإقصائية أو، في أقصى الحالات، إلى فاشية. المقصود أن تكون القومية الإطار الأوسع الذي يحتوي كافة فئات المجتمع على تنوع انتماءاته الدينية والمناطقية والطبقية، وأن تشكل القاعدة التي تنظم علاقات المجتمع وأن تكون أساس العقد الاجتماعي بين أفراده. إن التنظيم على أساس قومي ديمقراطي يصون الهوية الجامعة ويطورها، ويحول دون البحث عن هويات قبل حداثية قد تغلب الهوية القومية الجامعة ويحولنا إلى فتات مجتمع. إن التنظيم على أساس قومي ديمقراطي لا يعني فقط إقامة مؤسسات تمثيلية أو منتخبة، بل يعني قبل كل ذلك قيما مشتركة وقواعد تنظم الاختلاف والتمايز داخل المجتمع، وتوفر الشرعية والمنطق لطرح مطالب سياسية ومعيشية جماعية؛ يعني أن تهيمن القيم الديمقراطية الجوهرية واحترام الإنسان على وعينا وتصرفنا القومي وعلاقاتنا، خصوصا وأن المشاركة الجماعية طوعية دون إكراه، لكي لا نعود على أخطاء الطرح القومي العربي واليسار العربي التقليدي. إن التنظيم على أساس قومي وديمقراطي يحمل وعيا يساريا حقيقيا شاملا هو السياج الحامي للحقوق والوجود والنضال الجماعي، ويشكل بديلا لليمين الديني المحافظ، ولليسار التقليدي المتكلس.               

التعليقات