17/09/2015 - 20:15

رسالة إلى المسيحيين في البلاد../ رلى نصر - مزاوي

هذا الشعور بالنقص تجاه السيد الطاغية، ومقابله الشعور بالاستعلاء تجاه أبناء شعبنا لا يمثلني ولا يمثل الكثيرين من الأهالي والطلاب وأبناء هذا الشعب. وهو لا يمثل التعاليم المسيحية. مهادنة المحتل الظالم ليست شهادةً للحق.

رسالة إلى المسيحيين في البلاد../ رلى نصر - مزاوي

ردًا على مقالة الأستاذ العزيز بطرس منصور، مدير المدرسة المعمدانية في الناصرة

عزيزي بطرس،

ترددت كثيرًا قبل كتابتي هذه، فأنا ابنة المدرسة المعمدانية وأطفالي طلاب هناك. لكن هويتي الفلسطينية واضحة المعالم، لن يطغى عليها سوى انتمائي للإنسانية، وعليه، رأيت أن من واجبي التعبير عن نفسي وتوضيح الأمور من زاوية رؤيتي. أعرف مواقفك والتي بمعظمها إنسانية، حقّه، مشرفة، وأعتز باهتمامك في التعامل مع أهالي الطلاب كشركاء في أزمة المدارس الأهلية وكل ما يتعلق بمستجدات الأمور واتخاذ القرار بوضوح وشفافية، بما قد يكون قدوة لباقي المدارس، لكن مقالتك الأخيرة أخجلتني وأشعرتني باستياء لأنها لا تمثلني أنا والكثيرين وتؤذينا كثيرًا شعبًا وأفرادًا.

في دولة يشهد تاريخها الدموي، الاحتلالي، العنصري، عليها وعلى نهجها، لا أدري كيف يمكن أن تكون مكانًا آمنًا لمن احتلتهم، سلبتْ أراضيهم، هَجّرتْ أهاليهم، اقتلعتْ زيتونهم، اعتقلتْ أبناءهم، أسرتْ فلذات أكبادهم، وقتلتْ أغلى الغالين على قلوبهم. كيف تُختزل دولة الاحتلال بوصفها 'الأكثر أمانًا' لجزء لا يتجزأ من أهلها الأصلانيين؟ وكيف يُختزل نضال المدارس الأهلية ليكون نضالًا طائفيًا يزيد من حالة التشرذم وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟

لطالما تعلمنا في الدين المسيحي 'من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا' حتى أضحت عنوان المسيحيين في بلادنا. فَهِمنا للعمق كيف ضحى المسيح بنفسه من أجل البشر، ذوّتنا 'أحبوا أعداءكم' وواجب المسامحة. لكن المسامحة ليست سلاح الضعفاء الذين لا مناص لهم، بل هي عزم القوي. فنحن لا نسامح عندما نكون ضعفاء، نحن نتنازل عند الضعف ونسامح عند القوة.

على مر السنين، دأب كل من علمنا أسس المسيحية على التجاهل التام للأجزاء الأخرى من شخصية السيد المسيح. يسوع المسيح هو المعلم، الذي أوصانا بمحبة الأعداء، لكنه أوصانا، أيضا، أن نكون 'حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام'ً. لم يتوانَ يسوع للحظة عن قول كلمة الحق. وهو مَن دخل هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام وقال لهم 'بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص'.

أنصف يسوع الفقراء والمظلومين، فقال لراجمي المرأة المتهمة بالزنى 'من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر' ولها قال 'ولا أنا أدينك'. كان يسوع حازمًا، محبًا، غفورًا، واضحًا، حادًا، كلماته لا تقبل التأويل ولا التفسير. نعم، ليس صدفة تغييب هذا الجزء من التعليم المسيحي في هذه البلاد تحديدًا، وليس غريبًا بعد كل هذا شعور الغربة لدى المسيحيين هنا، لكن هذا لا يعطي الحق لأحد بالتعالي على الآخر.

لم يكن يسوع مواربًا ولا منافقًا ولا مراوغًا. رسالته واضحة جدًا 'لهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق'. لم يهادن الظالمين، ولم يحاول إرضاء الشاب الغني. لم يساير يسوع حتى حاكمه عندما كان على بعد ساعات من موته. بل أنصف الأرملة الفقيرة التي ألقت فلسين وأخجل الأغنياء الذين تباهوا بتقدمة قرابينهم 'الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع، لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين الله، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل المعيشة التي لها'. يسوع المسيح لم ينحن ولم يهادن ولم يفاوض على هويته حتى في أقسى اللحظات، ومضى في طريق الحق حتى النهاية فقال لبيلاطس قبيل صلبه وعندما صرخ ذاك بوجهه 'لم يكن لك علي من سلطان البتة، لو لم تكن قد أعطيت من فوق'.

نعم، كالأرملة بالضبط نُلقي كل ما بجعبتنا من أجل أن نعيش بكرامة. كيسوع، لا نهادن ولا نراوغ الطغاة ونقف مع الحق، مع المظلومين، مع الفقراء، مع أبناء شعبنا وإن اضطررنا لدفع أرواحنا ثمنًا وليس فقط أيامًا دراسية. نقف نحن وأبناء شعبنا جميعنا، بمختلف انتماءاتنا الشخصية، وننظر إلى بعضنا البعض بمستوى العينين وبمحبة واحترام لا مثيل لهما.

هذا الشعور بالنقص تجاه السيد الطاغية، ومقابله الشعور بالاستعلاء تجاه أبناء شعبنا لا يمثلني ولا يمثل الكثيرين من الأهالي والطلاب وأبناء هذا الشعب. وهو لا يمثل التعاليم المسيحية. مهادنة المحتل الظالم ليست شهادةً للحق، فالحق لا يحتاج إلى ترجًّ ولا إلى تغيير لغة الحوار. الحق واضح، ساطع كالشمس في ظهيرة يوم صيفي، عليك أن تطالب به بكل قوتك وعزمك وثقتك بنفسك وبحقك.

عندما احتلت فلسطين هُجّرنا نحن الفلسطينيين من قرانا وبلداتنا دون تمييز. فبأي حق نطالب الآن أن يعامَل المسيحيين بأفضل من إخوتهم؟ هل المسيحية هي أن نطالب لأنفسنا بما هو أفضل من غيرنا؟

إذا كان ظلم المدارس الأهلية هو الذي جعلك تتأكد أنك ستبقى في نظر المحتل عدوًا إن كنت مسيحيًا أو مسلمًا أو درزيًا أو آراميًا أو ما شئت، فهنيئًا لنا بهذا الظلم المباشر، الذي أتاح لنا المجال لنتعلم ونذوّت هذا الدرس. في هذه الدولة، أنت شفاف، غير مرئي، غير مسموع، غير محسوس. ارفع رأسك وجاهر بفلسطينيتك، فلن يفيدك التملق ولن يكون لك انتماء آخر حتى لو بعت كل شيء. ألم يقل السيد المسيح 'ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه'؟

التعليقات