06/10/2015 - 17:10

لم يولدوا كمشروع شهادة بل كمشروع حياة../ سوار حسن عاصلة

تجربتي الشخصية في الانتفاضة الثانية أثارت لدي أسئلة ثاقبة حول العديد من المفاهيم السائدة في المجتمع الفلسطيني المرتبطة بالوطن والشهادة، وهذه المقالة هي عبارة عن محاولة لوضع هذه الأسئلة في إطار تحليلي اجتماعي وإنساني، وطرح الحاجة لإعادة تعريف هذه المفاهيم

لم يولدوا كمشروع شهادة بل كمشروع حياة../ سوار حسن عاصلة

تجربتي الشخصية في الانتفاضة الثانية أثارت لدي أسئلة ثاقبة حول العديد من المفاهيم السائدة في المجتمع الفلسطيني المرتبطة بالوطن والشهادة، وهذه المقالة هي عبارة عن محاولة لوضع هذه الأسئلة في إطار تحليلي اجتماعي وإنساني، وطرح الحاجة لإعادة تعريف هذه المفاهيم.

إذا ما سألنا افراد المجتمع الفلسطيني الذين عاشوا تجربة الانتفاضة الثانية عام 2000، فسنرى اختلاف التفسيرات والتأويلات حول عود الثقاب الذي أشعل الاحداث، فينسب التفسير الأول حيثية الانتفاضة إلى استشهاد الطفل محمد الدرة، والتفسير الثاني إلى انتهاك شارون لحرمة المسجد الأقصى، تفسير يظهر الوجه الإنساني مقابل آخر يظهر الوجه الديني والروحي. أيا كان السّبب، فالأكيد هو أن الانتفاضة الثانية حملت رسائل مختلفة من حيث الشكل والمضمون سواء في حيثيات وخلفية الانتفاضة، أهداف النضال الفلسطيني، أساليب ورموز هذا النضال.

لن استحضر هذه الرسائل بشكل مباشر، ولكن سألامسها من خلال التطرق إلى الرسائل الأخرى التي غابت أو غيّبت من الخطاب الفلسطيني.

لقد أثارت زيارة شارون ورجال الشرطة إلى المسجد الأقصى في أواخر أيلول عام 2000 موجة واسعة من الغضب، امتدت من الضفة وغزة إلى الداخل الفلسطيني. طبعا أتى هذا الغضب على خلفية أسباب جذرية أخرى، منها واقع الاحتلال والتمييز العنصري وفشل عملية السلام التي راهنت عليها اتفاقية أوسلو. تحركت الانتفاضة الثانية على المستوى الشعبي (رغم غياب رؤية سياسية موحدة) ضمن سقف حماية المقدسات، ومقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير، وركلت بخيار التسوية والمفاوضات.

بهذا، وعلى خلفية الأحداث ارتبط اسم الانتفاضة بالمسجد الأقصى فسميت انتفاضة أو 'هبة القدس والأقصى'، وصبغت بصبغة دينية مما لهذا المكان من أهمية دينية. هذه التسمية لم تأت كرد فعل على حالة مباشرة فقط، والقدس والأقصى ليسا تعبيرين مجردين مطلقين، إنما رموز مثقلة بالمعاني تعكس أمداء الخطاب الفلسطيني في مسيرة نضالنا. الخطاب الذي أفرزناه خلال الانتفاضة الثانية أبرز الجانب الديني الروحي، علمًا أن هناك رموزا أخرى غابت شكلا وحضرت مضمونا كالجانب الإنساني.

المجتمع الفلسطيني كغيره من المجموعات البشرية، فللبشر رغبة وحاجة لإيجاد معنى للعالم وتجربتهم فيه وينتجون معاني الوجود من خلال منح الأشياء دلالات رمزية معينة [1]. هذه الرموز هي نتاج ظروف تاريخية اجتماعية وسياسية تختلف أشكالها ومعانيها واستخداماتها تبعا لثقافة الشعب، ولهذا فهي تحمل في أعطافها ملامح نفسية وفكرية تسمح بفهم مشاعر ومفاهيم المجتمع، وفي الوقت نفسه، وبحكم وظيفتها، فهي عنصر مهم في تشكيل الوعي والهوية الجمعية. للرموز أدوار وظيفية، إذ تعتبر أدوات مشاركة يتواصل من خلالها الأفراد فيما بينهم، وتساهم كذلك في انخراطهم في المجتمع والتوحد أو التماهي معه identification[2] [3]. على سبيل المثال فإن العلم، الكوفية، الأغاني، والشعارات الفلسطينية كرموز لا تساهم فقط بتمثيل المجتمع الفلسطيني وتمييزه عن غيره من الجماعات، وإنما تثير أو تعزز شعور التضامن والانتماء لدى أفراد المجتمع، وتوحد مشاعرهم حول القضية.

هذه الأدوار الوظيفية ذات أهمية خاصة في ظل الاحتلال، والتجربة الفلسطينية حافلة بالرموز التي استمدت معناها من هذا الواقع، والتي عبّر من خلالها الفلسطينيون عن انفعالاتهم ومشاعرهم وعن قيم التحدي والنضال كما تمثلت بالحجر، والبندقية والرموز القيادية. كل هذه الرموز كانت موظفة لتعميق التجذر والانتماء للوطن وللشعب الفلسطيني في مواجهة عوامل الاضطهاد والتفكك والتجزؤ، ولهذا فقد أدت دورًا مهمًا في التعبئة وتحفيز العمل الجماعي الثوري.

فيما يلي، سألقي الضوء على الرموز التي استحضرت بقوة في الانتفاضة الثانية، وعبرت عن ثلاثية المفاهيم –الشهادة الحرية والوطن، التي أرى فيها مكونات مركزية في الخطاب وثقافة المقاومة التي غذّيناها ونميناها في الوعي الجمعي، والتي تظهر في سلوكيات الشعب الفلسطيني وحياته اليومية. أتت هذه الرموز في الرسالة التي أطلقت من الشارع من خلال هتافات مثل 'بالروح بالدم نفديك يا أقصى' و 'بالروح بالدم نفديك يا شهيد' و 'ع القدس رايحين شهداء بالملايين' و 'وأم الشهيد وزغردي كل الشباب ولادك'.

في السياق الفلسطيني تكمن رمزية الوطن في الأرض والحدود الجغرافية والمدينة والأماكن المقدسة. للقدس والأقصى أبعاد رمزية مرتبطة بالمكانة التاريخية والحضارية والدينية كونها مقصد الأنبياء، أولى القبلتين وثالث الحرمين، مما جعل منها علامة روحية خاصة للفلسطينيين. وكما ذكرت سابقًا، ارتبطت هذه الأمكنة بالحركة الأولى للهبة الشعبية، أدت إلى بروز القدس والأقصى كرموز للانتفاضة الثانية. والشهيد هو الانسان الذي يقدم نفسه فداء الله والوطن في سبيل الحرية، والشهادة تعتبر من أسمى مراتب التضحية والبطولة. ولا يقتصر استحضار مفهوم الشهادة على الهتافات في الشارع بل يأتي ورودها في القصص الشعبية والأدب والشعر والفن تحت مفهوم الاستعداد للتضحية والإقبال على الشهادة. المراسم الجنائزية للشهداء كممارسات رمزية تختلف عن طقوس الموت العادي، إذ أن الاستشهاد لا يرتبط بالحزن والتفجع وإنما بالفرح، فالشهيد عريس، والتشييع عرس ترافقه زغاريد النساء. من حيث المفهوم الديني تعبر هذه المقاربة عن العلاقة بين الشهيد والله، فيزف الشهيد إلى الجنة، وبحسب المفهوم الوطني الشهيد يرتبط بالوطن وهو يزف إلى الأرض (بالرغم من أن الرموز الوطنية متأثرة بالمفاهيم الدينية للشهادة).

مثل هذا الطقس الرمزي يفرض أجواء نفسية معينة، ويحدد ما هو مرغوب من التجارب الشعورية للأفراد، ووفق هذه المعايير والقناعات الإيمانية والروحية لا يصح التعبير عن الحزن والتفجع على الشهيد، وإنما يجب التعالي على ألم الفراق والفقدان. ولم أجد تعبيرًا أكثر بلاغة مما جاء في رواية إبراهيم نصر الله – أعراس آمنة 'الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحسَّ لحظة أنه هزمنا... نحن لسنا أبطالًا، ولكننا مضطّرين أن نكون كذلك'. هنا تكمن المواجهة بين ما تمليه المفاهيم الاجتماعية والتقاليد وما يقتضي واقع الاحتلال من صمود في وجه الظلم، وبين ما ترغبه النفس البشرية من تفجع وألم وبكاء. وإن أتت هذه المفاهيم لتعزز الفخر وتدعم الصمود والثبات على التضحية في سبيل الحرية، كيف يمكن أن نطلب من أب أو أم شهيد تلقي النظرات الأخيرة على ابنها أن تكف عن بكائه؟ وأي عزاء هذا في عبارة 'نياله مات أحسن موتة' قبال لوعة أخت غافلها الموت وهي ترتب أحلامها؟ 

انطلاقا من هنا أرغب في أن أثير تساؤل حول مدى التقاء وتقاطع الخطاب الفلسطيني الذي ينطوي على هذه الرموز التي ذكرتها مع ما هو كوني وإنساني؟

إن خطابنا الفلسطيني أكثر تعبيرًا عن عناصر الموت منه عناصر البقاء، حيث يغلب الوجه المأساوي للواقع الفلسطيني على الوجه الإنساني. في مسعانا إلى التحرر أنتجنا خطابا هدفه النهائي الاستقلال وتحرير بقعة جغرافية ما، ويقاس النضال من أجل هذا الهدف بمنسوب التضحية بالنفس. وبهذا تحولت رموز النضال والحرية في ثقافتنا إلى أدوات تنتج وعيا منقادا يستوجب تقديم أكبر عدد من الشهداء، ويغيّب المعنى الحقيقي للشهادة المتمثل بالوجه الإنساني والحضاري والتاريخي والذي بغيابه يصبح الشهيد مجرد ضحية أو قربان. ليس الشهداء ابطالا لأنهم تدافعوا إلى الموت بل إن عظمتهم تكمن في إنسانيتهم التي تتجسد بأحلامهم وتطلعاتهم، بارتباطهم بأرضهم، وبتمسكهم بالحياة في وجه الاحتلال والقهر. الشهداء لم يخلقوا كمشروع شهادة، بل كمشروع حياة. هم انتصروا للحياة من خلال التضحية بأنفسهم لأجلها.

واليوم، وبعد 15 عاما على الانتفاضة الثانية لا نزال نستذكر شهداءنا بالأرقام، ونغيّب الرسالة الإنسانية من خطابنا ومن مراسيم إحياء ذكرى الشهداء، ولا زلنا نغرس في نفوس وأذهان الأجيال الشابة التضحية بالنفس والصفات البطولية للشهداء. كم من الشباب الفلسطيني يعرف الوجه الإنساني للشهيد عماد غنايم مثلا الذي عُرف عنه حبه للأرض ومعاملته الإنسانية لرفاقه وأهله، والاهتمام الكبير الذي كان يبديه في مجال التطور والبناء في بلده، خاصة في مجال الرياضة؟ كم من الشباب يعرف الوجه الإنساني للشهيد رامي غرة والذي عبّرت عنه امه بقولها 'رامي كان لطيفا وحنونا، ما يحبش يِئْذي إنسان ولا حيوان'؟ رامي غرة لم يكن يحلم يومًا أن العنف سيحدد مصيره وحياته.

من المهم الوقوف عند هذه الرموز وتوظيفها في الخطاب الفلسطيني لما لها من أثر على الذاكرة والوعي الجمعيين، وعلى مفهومنا للنضال الفلسطيني وسبل خوضه الذي نقدمه كنموذج للأجيال القادمة. من أجل النهوض والارتقاء بالمشروع الإنساني التحرري يجب أن نسعى إلى استحضار الوجه الإنساني والوسائل الإنسانية التي غيبت عن خطابنا، ونجذر قيمة ومفهوم الإنسان والوطن كامتداد له.  وليس من الخطأ أن نطّلع على ثقافات الشعوب الأخرى ودور الرموز في نضالها ومكانة الشهداء ذات الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والثقافية.

 

Geertz, C. (1972). The Interpretation of Cultures [1]

Durkheim, E. (1912). The Elementary Forms of Religious Life [2]

Rocher, G. (1972). A General Introduction to Sociology [3]

* المقال مترجم عن موقع 972

التعليقات