26/11/2015 - 10:55

لنا أنوارنا، ولكم شريعتكم!/ دلال البزري

لنا أنوارنا، ولكم شريعتكم!/ دلال البزري

الفيلسوف الفرنسي الأشهر، الأكثر ذيوعًا، ميشال أونفري، يعلنها صراحة على شاشات التلفزيون، من أنه هو العلماني الملحد الجمهوري، ليس له أي شأن بالشعوب البعيدة التي تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، على يد تنظيمات إرهابية. لا يريد أن يفرض قانونه على الآخرين. المسلمون في ديارهم لهم الحق بتطبيق شريعتهم، إنهم أحرار. هذا الكلام لفيلسوف "يساري، اشتراكي"، كما يصف نفسه، تكرّر مؤخرًا بعد عمليتَي باريس الإرهابيتيَن. وهو ينطلق من ذريعة تنويرية بامتياز، أي حرية الشعوب بتقرير مصيرها، لينزع عن هذه الفكرة صفتها الكونية، ويحيلها إلى هوية ضيقة خائفة، ولسانه حاله يقول: "لنا أنوارنا، ولكم شريعتكم!".

ميشال أونفري ليس وحده في هذا التيار، التعبيرات عن نهاية إرث الأنوار والنهضة الأوروبييَن، عن نفي كونيته، ليست حكرًا عليه. ولا هي جديدة على هذا الإرث، الذي كان له، في داخل أوروبا نفسها، خصومه الأقوياء والضعفاء. ولكن، ولا مرة، منذ نهاية الحرب الباردة، كان هذا الميل قويا، متسللا إلى مختلف المجالات الفكرية والروائية وحتى السياسية، عبر الأحزاب المختلفة.

انتهت حقبة المثقفين الفرنسيين (والأوروبيين) الذين كانوا يلهموننا بتحليلاتهم ورؤاهم وفنونهم التعبيرية. انتهى عهد جان بول ساتر وسيمون دي بفوار، وألبير كامو (الناقد اللاذع لهذا الإرث على كل حال)، ولوي التوسير وماكسيم رودنسون الخ؛ وقبله عهد ماركس وأنجلس وتروتسكي؛ المثقفون الذين أناروا عقولنا، أو اعتقدنا ذلك، طوال الحرب الباردة، وأمدونا بأدوات الفهم والمقاربة الموضوعية، صاروا من الماضي. صرنا الآن نكتفي بنعوم تشومسكي، ونحتفي بتكرار نقده للإمبريالية الاميركية، التي تطرب له آذان بقايا يساريينا؛ أو نتسقّط أحكام مراكز "العصف الفكري" على أوضاعنا، لعلّنا نفهمها قليلاً.

 كذلك انتهى الانقسام السياسي التقليدي بين يمين فرنسي عنصري، ومعزول عن بقية الفرنسيين، ويسار متنور عادل مدني منفتح الخ. السياسات الليبرالية التي اعتمدها اليسار (آخرها وأقصاها اليسار اليوناني) محتْ تدريجيا الحدود الاقتصادية القائمة بين الطرفين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ورسا الخلاف بينهما على قضايا اجتماعية من نوع ارتداء الحجاب، زواج المثليين، الحمل عن الغير، نظريات "الجندر"، الموت الرحيم الخ. وبات المثقفون الكبار، مع حفظ درجات قربهم من "الخط اليساري" يرْثون الإرث التنويري، كلٌ على طريقته وبأسلوبه، سواء كانوا فلاسفة مثل أونفري، أو روائيين، مثل ميشال أولبكْ، أو اختصاصيي إحصاء مثل امانويل تود الخ. ولا حاجة للقول، هنا أيضًا، بأن أحدا منهم لم يخرج شعاع تأثيره عن الدائرة الفرنسية، وربما الأوروبية، ولم يبلغنا منه شيء يشبه ذاك الذي كنا نتلقاه أيام الثقة الغربية العارمة بمستقبل تنويري للبشرية جمعاء.

وإذا أخذنا بالاعتبار الصعود القوي لليمين المتطرّف، ومدى الانسجام، غير المرغوب فيه ربما، بين مقولات أولئك المثقفين الكبار، وتلك التي يروج لها هذا اليمين، يمكننا القول ان الفكر الأوروبي سائر نحو عكس ما سلكه أيام ازدهار الأنوار.

وكأن الأنوار ما كان يمكن لها أن تنتشر إلا بالحروب الاستعمارية، بعضهم أخذها حجة، وقال بـ"حرية" الشعوب في التفكير كما تشاء. كأنهم بذلك يقولون لغير الداعشيين الإسلاميين من أبناء هذه المنطقة: "دبروا أموركم الفكرية بأياديكم!". وهذا خبر غير سار لنا، نحن الغارقين في عتْمة ليْلنا الطويل. ولكنه قد يكون خبرًا محفزًا على كسر عادة التسليم الفكري بكل ما أتى من مصدر الأنوار هذا، ومعاملته بصفته أرفع درجات الآفاق المستقبلية؛ فيما هو الآن، ينبذه "أصحابه"، يخافون على هويتهم، يتقوقعون على أنفسهم، يغذون هويتهم "الأصلية" ضد الهويات "الوافدة" الخطيرة.

هذا التخلّي فرصة لنا، بأن لا نعتمد إلا على أنفسنا، فكريًا: بأن نبحث عن مفاتيح وصفنا وفهمنا وتسميتنا لما يحصل الآن في بلادنا، ومن دون مساعدة "خارجية" تذكر، إلا تلك التي تعتبر أن التجارب الإنسانية واحدة، وأن ميراث "الأنوار"، مثله مثل كل المواريث، هو ملكنا جميعًا. 

(المدن)

التعليقات