09/12/2015 - 08:41

تَحوّلات الصِراع في اليمن.../ سلمان العماري

لم يتوقف الأمر، بالنسبة لقوى النفوذ الإقليمية والدولية في اليمن، عند احتواء الثورة الشعبية السلمية، بل تعدّاه إلى اختطاف القرار السياسي، والسيطرة على المشهد في اليمن برمّته

تَحوّلات الصِراع في اليمن.../ سلمان العماري

ليس ثَّمة جديد يعَتمل في الساحة اليمنية، فالثابت فيها تعاظم وتبدل حالة الصراع الداخلي وتجّنحاته حيث يتقاطع ويتوازى في الواقع طردياً مع صراع النفوذ والهيمنة الإقليمي والدولي، طبقاً لمجريات الصراع وعوامله ومؤثراته التي لا تقف عند تفسير معين وحالة واحدة.

فقد أضحى اليمن، في الحقبة الأخيرة، ساحة تنافس محموم لقوى النفوذ والهيمنة والصراع الإقليمي والدولي، ورَشَحت إلى السطح، في موازاة ذلك، أنماط مختلفة ومتعددة من الصراعات في الداخل التي تنوّعت بين السياسيّ الحزبيّ والسياسي العقائديّ، والاجتماعي الطبقيّ، والجغرافي المناطقيّ، والطائفي المذهبيّ، وصراع المصالح والنفوذ.

وعلى الرغم من تعدد حالة الصراع الداخلي وتنوعها، وتباين معطيات هذا الصراع ومساراته، إلا أنّ الإطار السياسي لها ظل الناظم والمؤثر الأبرز في المشهد. ولذلك فإنّ أول مُحرّك من محرّكات الصراع الداخلي هو الذي احتدم بين حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، الذي يتزعمه الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وتكتل أحزاب اللقاء المشترك، الذي يضم في توليفته خليطا من المكونات والأحزاب، من مختلف التوجهات والتيارات الإسلامية السنية والشيعية والقومية واليسارية.

وكان لافتاً في مجريات الصراع السياسي الذي تنامى بين حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وتكتل أحزاب المعارضة 'اللقاء المشترك' دورانه في مجمله حول توريث الرئيس السابق صالح الحكم لنجله، قائد الحرس الجمهوري أحمد علي الذي حالت دونه ثورات الربيع العربي، وانتفاضة الشعب اليمني السلمية في فبراير/شباط 2011 التي لم يكتب لها النجاح، نتيجة اصطدامها برغبات قوى النفوذ والصراع الإقليمي والدولي في اليمن.

وشَكلَّ المسار السياسي الذي آلت إليه الثورة الشعبية السلمية في اليمن، التي أطاحت الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، الخيار الأمثل لنفوذ القوى الدولية والإقليمية، والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي دعمت ورعت، منذ ثلاث سنوات ونيف، 'المبادرة الخليجية ' لاحتواء الانتفاضة الشعبية التي شكّلت النموذج الوحيد بين بلدان 'الربيع العربي'، وحظي بإجماع الدول الكبرى ودعمها، إلى حدّ وضع الحالة اليمنية تحت الفصل السابع، في خطوةٍ فسّرها مراقبون على أنّها تحالف لحماية المصالح.

ولم يتوقف الأمر، بالنسبة لقوى النفوذ الإقليمية والدولية في اليمن، عند احتواء الثورة الشعبية السلمية، بل تعدّاه إلى اختطاف القرار السياسي، والسيطرة على المشهد في اليمن برمّته، والتَحرّك والعمل تحت غطاء ورداء رعاية الدول العشر للمرحلة الانتقالية، وتنفيذ المبادرة الخليجية، والإشراف على مجريات الحوار الوطني، بهدف تمرير حزمة من الأجندة والأهداف وتنفيذها، ليتكشف الأمر، في نهاية المطاف، عن حالة تَغوّل للنفوذ الإقليمي والدولي في اليمن.

وتحت كنف الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية، في غضون الفترة الانتقالية، التي لم يعد يدور الحديث بشأنها وحولها، تم القضاء على ما تبقى من هامش للدولة في اليمن، وإشعال وتغذية الحرب الأهلية، وتصفية الثورة الشعبية السلمية، واستهداف رموزها ومكوناتها، وتهجير السلفيين من مركز دار الحديث في دمّاج، وتصعيد جماعة الحوثي التي استدعت بدورها إيران للمشهد.

وكان لافتاً منذ تولّى الرئيس اليمني الجديد، عبد ربه منصور هادي، مقاليد الحكم والسلطة في البلاد رئيساً توافقياً في فبراير/شباط 2012، مهاجمته التدخل الإيراني في الشأن اليمني، متّهماً إيران بدعم جماعة الحوثي والحركات الانفصالية في الجنوب. لكن، لم يكن ذلك كله ليحدث، إلا في ظلّ الرعاية الأممية والدولية، الذي كشفت عنه أحداث (ومسرحية) سقوط العاصمة صنعاء في يد الحوثيين. فقد انهالت وتركزت التصريحات، يومها، من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي والدول الراعية للمبادرة الخليجية، عقب دخول الحوثيين صنعاء، واستلام مخازن الأسلحة حول دعوة الأحزاب السياسية في اليمن، إلى التوقيع على ما سمي اتفاق السلم والشراكة؛ وكأن صنعاء لم تسقط، وما حصل مجرد خلاف بين أطراف سياسية متكافئة.

بعد ذلك، دخل اليمن في أتون صراعٍ إقليميّ شديد، منذ سقوط العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014 في يد الحوثيّين، ووصل فيه الوضع السياسيّ إلى أفق مسدود، باستقالة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في يناير/كانون الثاني 2015، تحوّل اليمن، إثر ذلك، إلى ساحة عمليّات عسكريّة لدول التحالف العربي الذي تَشَّكل من دول الخليج، ما عدا سلطنة عمان، إضافة إلى الأردن ومصر والسودان والمغرب ومعها باكستان، ما كشف عن حجم القلق من التمدّد الإيرانيّ.

ولعل ما فاقم من حالة القلق من التمدد الإيراني، وبروزه إلى السطح، لدى دول الخليج وبعض الدول العربية، هو خفّة الحوثيين المستهترة في التعامل مع المملكة العربية السعوديّة ومصالحها في اليمن، حيث لم يعمل الحوثيون على طمأنة مخاوفها، متجاوزين ذلك بتمكين إيران من أمور حيويّة في اليمن، مثل تسليم ميناء الحديدة في 13 مارس/آذار 2015، أكبر ميناء في اليمن، إلى شركة إيرانيّة.

وانتقل الحوثيون في اليمن، بعدها، إلى مرحلة الاستفزاز، من خلال مناوراتهم العسكريّة على حدود المملكة العربية السعوديّة، وتصريحات قيادات الصفّ الأوّل المعادية للسعوديّة إلى درجة هزليّة، مثل الحديث عن اجتياح الرياض واسترداد الأراضي اليمنية المغتصبة حد قولهم، فضلاً عن إغلاق نافذة الحوار، ورفض دعوات إقامته في الرياض، ثم الدوحة.

وقد عزّز من حالة تنامي القلق والصراع الإيراني السعودي في اليمن خطأ الحسابات الإيرانيّة

'تعرّض الإيرانيّون إلى عمليّة تضليل واسعة من حلفائهم الذين قالوا لهم إنّ الإمامة الزيديّة حكمت اليمن ألف عام، ولها إرث سياسيّ طويل، يمكن إحياؤه' التي اعتمدت على حليفٍ جامح وصعوده المفاجئ، ولكونه مفاجئاً، فهو ليس دليلاً على قوّته الحقيقيّة، بل على ظروف سياسيّة وقتيّة، ومرتبطة في شكل كبير بالتحالف المؤقّت مع الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، وحزبه المؤتمر الشعبي العام. عدا أن إيران لم تعمل على تهدئة جموح الحوثيين، وتنامي صعودهم العسكريّ، وتصوّرت واهمة أنّ هناك إمكانيّة لفرض سلطتهم على اليمنيّين بقوة السلاح، وبدا ذلك جليّاً في تعليقات المحلّلين والسياسيّين الإيرانيّين، وأنّ هناك جهلاً واضحاً لحجم تعقيدات الوضع السياسيّ والاجتماعيّ في اليمن.

وتعرّض الإيرانيّون إلى عمليّة تضليل واسعة من حلفائهم الذين قالوا لهم إنّ الإمامة الزيديّة حكمت اليمن ألف عام، ولها إرث سياسيّ طويل، يمكن إحياؤه، وهذه معلومة تاريخيّة شائعة، لكنّها ليست صحيحة، كما أنّ هناك حقائق حيويّة، مثل سقوط النظام الإماميّ في الستينيّات، الذي خلّف وراءه ثاراتٍ تاريخيّةً، تتذكّرها المجتمعات المحليّة التي تخشى من أيّ امتدادات لهذا النظام.

كما أنّ الثورة الشعبية السلمية التي انطلقت في فبراير/شباط 2011 قامت لإسقاط نظام استبدادي جهوي لليمنيّين، نتيجة خلفيّته المناطقيّة المرتبطة بشمال صنعاء، وهي المناطق الزيديّة نفسها، ويفسّر ذلك الحراك الشعبيّ الواسع الذي شهدته المحافظات اليمنيّة ضدّ الحوثيّين، منذ سقوط العاصمة في سبتمبر/أيلول 2014، وشمل محافظات زيديّة أصيلة، مثل ذمار.

وعلى الرغم من حالة الفرز المُعلن، والصراع القائم، اليوم، في اليمن حالياً بين من يعتبره بين إيران والسعودية من جهة، ومن يقدره بين 'الانقلاب' و'الشرعية' من جهة أخرى، فإن عوامل الصراع ومؤثراته لا تقف عند حالة معينة، نظراً لكثرة المدخلات التي برزت إلى السطح وتعددها، بفعل حالة الاحتكاك وعوامل الارتداد التاريخية والمؤثرات الثقافية والفكرية والسياسية، وموجة الصراع والأحداث التي شهدها اليمن في غضون الفترة الانتقالية، وهي الأحداث التي أماطت اللثام في اليمن عن حالة مُتكلسّة من الصراع السياسيّ الحزبيّ والعقائديّ والطبقيّ والجهويّ المناطقيّ والجغرافيّ، والسلاليّ العنصريّ، ولكل واحدٍ من عناوين الصراع الداخلي الذي يتقاطع مع صراع النفوذ الإقليمي والدولي شواهده في الحالة اليمنية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وتهاوي الأنظمة الوظيفية، وما سبقها وأعقبها من أحداث مفصلية في اليمن والمنطقة العربية.

كذلك أظهرت دورة الصراع عند بعض الأطراف والمكونات المتلفعة برداء الحوثية في بعض صورها وأجزائها عن حالةٍ من الصراع الطبقي الاجتماعي بين مجموع الشعب اليمني، وأسرة عنصرية طبقية ذات صلة بالإمامة التي ثار عليها اليمنيون قبل أكثر من 50 عاماً، ويطلق على مجموعها 'الهاشميون' الذين ينتسبون للشّيعة الزيدية في اليمن، ووجدوا في الرئيس السابق صالح وإيران والحوثيين ضاّلتهم، وحاجتهم في التَصدّر للمشهد، والصُدور عن قوس واحدة.

وممّا كشفته دورة الأحداث والصراع في اليمن، تخلّق صراع من نوع آخر، يمكن أن يطلق عليه صراع إثبات وجود، تحاوله القاعدة بفرض الأمر الواقع في بعض المناطق والمدن، الذي تتخلّله حالة من الكمون والتراخي والاندفاع بشراسة في المشهد، عن طريق عمليات عسكرية خاطفة، وإصدار بيانات وتصريحات، ونشر مقاطع وأفلام وفيديوهات مسجلة في نطاق الشبكة العنكبوتية.

وكشفت وقائع الصراع في الداخل، وحالة حرب التحالف العربي، أن العمليات العسكرية في أجواء اليمن تجاوزت، في بعض حالاتها، الرئيس السابق صالح والحوثيين، لتطاول الأطراف المحسوبة على الشرعية والمقاومة الشعبية، في غير ما حادثة وموطن، كما أنها، في إطارها السياسي، تقف في المنطقة الرمادية، وتتخفى تحت ستارها الحرب على ما يسمى الإرهاب والإسلام السياسي.

وفي الجملة، يصعب تفسير حاصل ما يجري في اليمن وحصره في سياق ومعطى معين، نتيجة كثرة المدخلات والمؤثرات، ويصح أن يقال عنها إنها عدة حروب في حرب؛ فثمّة حروب وصراعات غير مرئية، وحرب ظاهرة معلنة، هي حرب التحالف العربي والسلطة الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية ضد معسكر الانقلابيين (صالح والحوثيين) وحليفهم الإقليمي الإيراني، غير أنها حرب تستبطن، في مجموعها، صراعات متعددة في الداخل، مختلفة سياسياً ومتداخلة اجتماعياً وعقائدياً وجهوياً، بين الشعب اليمني وفئةٍ تعمل لصالح أسرة طبقية بعينها، وبين حزب الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، والصراع بين الرئيس صالح والحوثيين، والصراع بين الحوثيين وأهل السنة من مختلف المكونات، من إخوان مسلمين وسلفيين وغيرهما، والصراع بين الحراك الجنوبي الانفصالي ضد مؤيدي الوحدة من كل الأطراف السياسية والمجتمعية.

يتوازى هذا الصراع ويتقاطع، في الداخل اليمني، مع صراع النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي للقوى الغربية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، فيما بينها، وصراع بعض الدول العربية الشقيقة ضد ما يسمى الإسلام السياسي.

على أن العنوان الأبرز في المحصلة، هو ما يحيط بهذه الصراعات وهذه الحرب كلها: الحرب العالمية على الإرهاب المزعوم، والذي تنسق له غرف العمليات الأميركية في عواصم المنطقة، ويحاول الجميع إثبات جدارته، بالمشاركة فيها بأشكال وصور شتى، حتى ولو كانت فاتورتها باهظة من عقيدة الأمة ودماء الشعوب.

(العربي الجديد)

التعليقات