18/12/2015 - 08:54

ملاحظات سريعة../ عوض عبد الفتاح

نحن لسنا السود في أمريكا، وتشبيه قضيتنا بقصتهم هو اختزال لمأساتنا وظلم لشعبنا ولقصته

ملاحظات سريعة../ عوض عبد الفتاح

بات المرء يتردد في كتابة الكلام، وينتابه شعور أن كلاماً كثيراً، كُتِب، ويُكتب المزيد، فينتظر النتيجة. ولكنها لا تأتي. وإن أتت فإنها متأخرة، قد تأتي في نهاية سياق التراكمية التي تقود إلى الهدف. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، واستباحتها من كل حدب وصوب، ودخول الجاهل، والمتوسط، والمخدوع بذاته والمخوّن، إلى جانب العارف والمطلع والحريص، يُصبح المرء في حيرة شديدة سؤال 'ما العمل؟'.

 يزداد الارتباك والتردد عن مواصلة ولوج عالم الكلام خاصة، عندما ينطق الشعب ويدهشك ببركانه المتفجر ويشعرك أنك صغير. إن المتكلّس منا والمسترخي في قفص الروتين يرد: 'ما هذا الشغب'!  الصادق منا، يقول: أهلاً وسهلاً، ويُضيف: ليقودنا هؤلاء الشباب، إنهم طلائع الثورة والتغيير. والناضجون من هذه الطلائع يُصرّون على أن يكون الكبار، نعم معهم، لا ضدهم أو متفرجين. يحتاج هؤلاء الطلائعيون الشباب إلى توجيه، إلى رؤية، إلى قيادة تقودهم. إن تركهم لوحدهم هو خيانة للأمانة وتنصل من المسؤولية عن مصير الأبناء. هذا ما نراه في الضفة الغربية التي مزق الاستعمار أوصالها وباعد بين أهلها، في القدس المذبوحة، وفي غزة المحاصرة. هناك، لا زال الشباب المنغمسون في المواجهة ينتظرون تبلور قيادة شابة، بديلة، ينتظرون النجدة والسند. وحدهم يقودون المركب، ولكن المركب يحتاج إلى قبطان مُجرب. والقبطان عاجز، أو  وكيل للاحتلال، أو متوجس أو خائف من المجهول، أو خائف على مصالحه، أو راغب ولكن ليس بيديه حيلة. إن تبلور قيادة بديلة يحتاج إلى زمن، وقد تُهدر هذه الفرصة قبل أن تتبلور القيادة الجديدة.

أين فلسطينيو الـ48؟

داخل الخط الأخضر، في هذا الجزء الذي احتل عام 1948، تلاقت طلائع الجيل الجديد في الأسابيع الأولى لانفجار الموجة الانتفاضية الجديدة، تلبية لنداء الثوار الشباب، على مداخل عشرات المدن والقرى الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب.

 ليس هناك في الحقيقة سبب واحد للهدوء الذي خيّم علينا منذ المظاهرة الكبرى في سخنين. ليس السبب الوحيد تدخل أقطاب سلطة رام الله الذين خافوا من التصعيد، فحسب، بل أيضاً وجود أقطاب مشابهة في العقلية والنهج داخل صفوفنا، داخل الخط الأخضر. إن الحرص على الشعب أمرٌ مطلوب، ولكن هذا ليس حرصاً. بل هو ضعفا وعجز... وعناد ضد التغيير... وتقوقع في أسر التقليد.

على مدار 67 عامًا، يواجهنا داخل الخط الأخضر مشروع كولونيالي وفصل عنصري قبل وصوله إلى الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، والجولان السوري وسيناء المصرية.  منذ اليوم الأول، وبعد نجاة 150 ألف فلسطيني داخل حدود إسرائيل لعام 1948، تجدد المشروع الاستعماري بكل قوة، فارضاً حكماً عسكرياً، فاصلاً  اللاجئين المطرودين عن وطنهم، بل أيضاً من فرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية، عن بعضهم البعض. كان هذا نظام أبارتهايد أشد وحشية من نظام الأبارتهايد البائد في جنوب أفريقيا، ولكن في عُرف الغرب الاستعماري كان هذا يُسمى واحة النور الوحيدة في الشرق الأوسط.

أحد المفكرين الفلسطينيين، القاطنين في الولايات المتحدة، إيليا زريق، سمى هذا النظام بالاستعمار الداخلي (Internal  colonialism). لم يكن هذا النظام مكشوفاً للرأي العام العالمي في الخمسينيات والستينيات. فقط قلة وأصوات جريئة، إسرائيلية وغربية، كانت تكتب بصراحة وبرصانة أكاديمية عن هذه الحقيقة السياسية المغيبة عمداً، أو جهلاً. اليوم، النظام الصهيوني مكشوف أكثر. كانت هبة القدس والأقصى عام 2000 مفجراً للغضب المتراكم، ومبددة لهذه الصورة المضللة. في الأيام الأولى من المواجهات كتبت صحيفة 'نيويورك تايمز' الأميركية آنذاك 'أن عرب إسرائيل هم مشكلة إسرائيل القادمة'.

 نعم، في هذا الحدث الكبير اكتشف فلسطينيو الداخل ذاتهم، وقدراتهم، أكثر من أي وقت مضى.

أذكر آنذاك، جاءت صحفية كندية متابعة للشأن الفلسطيني. تسألني عما يجري ونحن في داخل المواجهات الكبيرة في مدينة الناصرة، ثم سألت: كم عمرك؟ فلاحظت دهشتي من هذا السؤال. فسارعت في تفسير سؤالها قائلة بأنها ترى في الهبة تعبيراً عن نشوء جيل قيادي جديد يقود المرحلة.

هدم البيت في طمرة

لم يعد يجوز وضع عمليات هدم البيوت التي يسكنها الفلسطينيون داخل مناطق 48 في إسرائيل، في سياق سياسات التمييز. يجب أن توضع في سياق الجرائم الاستعمارية التي ينفذها نظام الأبارتهايد الكولونيالي منذ وطئت قدماه وطننا. إن دخول المئات من قوات الشرطة الإسرائيلية إلى إحدى أكبر المدن العربية في الداخل، وهدم بيت في وضع النهار، هو جزء من عملية السطو على الوطن المستمر.

نحن لسنا السود في أميركا، وتشبيه قضيتنا بقصتهم هي اختزال لمأساتنا وظلم لشعبنا ولقصته. وهذه المقارنة نابعة من جهل أو تجاهل، أو من ذهنية سطحية طالها التشوه. نعم تعرض السود لظلم كبير، وأميركا دولة قامت على أنقاض الشعوب الأصلية وجلبت السود من أفريقيا عبيداً. ولكن واقع الحال اليوم، هو أن قضيتهم مدنية... في دولة لا تعرف نفسها على أنها دولة مسيحية كاثوليكية أو بروتستانتية على خلاف إسرائيل التي تعرف نفسها على أنها دولة اليهود في إسرائيل والعالم. قضيتنا قضية كولونيالية كلاسيكية، مثل جنوب أفريقيا والجزائر وغيرها.

وبالتالي فإن خطابنا مختلف، وحيثيات نضالنا مختلفة، ومن يريد أن يخوض معركة ضد خصم عليه أن يطابق خطابه السياسي والفكري مع طبيعة الصراع القائم، وأن يكشف للعالم الحقيقة، عبر خطاب إنساني وحضاري متماسك. وكما هو معروف فإن النشاط الإعلامي الذي قام به نشطاء، كبار وشباب، وقادة من فلسطينيي الـ48 على مدار العشرين سنة الماضية ساهم في وصول الحقيقة إلى قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي عن مأساة فلسطين الـ48. وفي السنوات الأخيرة لعبت حملة BDS دوراً مهماً في هذا المجال، عندما أصبح مطلب/ هدف، تحقيق المساواة لفلسطيني الـ 48 وتفكيك نظام الفصل العنصري الشعار الثالث الثابت في برنامجها.

 نحن جزء من شعب فلسطين، وجزء من قضيته الوطنية، وليس فقط  جزء من تاريخه. من يتخلى عن التاريخ، يتخلى عن السياسة.. ويتخلى عن الحاضر والمستقبل.. بل يتوه في دهاليز السلطة، والخطاب المشوّه، بوعي أو بغير وعي.

وإذا كان ظرفنا الخاص، المتمثل في العيش في ظروف المواطنة الإسرائيلية، وتحكُم نضالنا محاذير عديدة، وبالتالي يستدعي مقاربة مختلفة لكيفية تغيير واقعنا، فلنفتح نقاشاً حقيقياً حول ذلك. وإذا كان هذا الواقع ولقيوده ومحاذيره سبباً في كوننا نعيش الآن حالة من الخمول والسكوت إزاء ما يجري من جرائم احتلالية وإعدامات ميدانية في الضفة والقطاع واستيطان ونهب، لنبادر إلى العمل على بلورة إستراتيجية فاعلة تخص كفاحنا ضد النظام الكولونيالي داخل الخط الأخضر.

في الضفة والقطاع والقدس يخوض إخواننا نضالاً جسوراً ضد المشروع الكولونيالي، بالوسائل التي يسمح بها القانون الدولي. ونحن هنا نستطيع، كما فعلنا في عدة محطات تاريخية، خوض نضال شعبي مدني مدروس ومحسوب يراعي خصوصيتنا. وهكذا نكون، كشعب، يخوض كل تجمع منه معركته المرتبطة بالمعركة الكلية.

وإذا كنا عاجزين عن الالتحام بنضال عارم تأييداً ومساندة لنضال الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 67، لأن واقعنا مختلف، إذاً لندافع عن أنفسنا وعن وجودنا هنا بصورة أفضل. لندافع عن حقنا في السكن على أرضنا، وفي بناء مسكن لأبنائنا، وفي حماية أنفسنا من سطوة القمع والملاحقة. لنعتصم بالساحات والميادين، لنعتصم في الشوارع، ونواجه قوات القمع بصدورنا العارية وفق خطة إستراتيجية مدروسة يستطيع المواطنون العرب تحمّل تبعاتها. لا أحد في الخارج على الأقل سيتهمنا بالتطرف. فما نطرحه هو تطوير ورفع مستوى ما اعتمده الفلسطينيون في إسرائيل من وسائل وإستراتيجيات نضال شعبي مدني. إن آخر مثال على المقاومة الشعبية المدنية الناجحة تجربة مقاومة مخطط برافر.

 ولكن الحقيقة التي يجب أن تُقال، إن الذهنية التي تحكم معظمنا في الهيئات الحزبية والتمثيلية العربية، غير مبنية للنضال الشعبي المنظم والمتقدم. فالتوجس والخوف غير المبرر يشلان القدرة على الإبداع، ويفرملان روح الإقدام.

 يجب أن نقول إن فرض نموذج مقاومة مخطط 'برافر' كقرار داخل لجنة المتابعة، أي الاعتصام في الشوارع، لم يكن سهلاً. وقد ووجه بمعارضة، وبعدها بتحفظ، وبعدها بقبول خجول لأوساط قيادية في لجنة المتابعة العليا. وبعد تجربة مقاومة برافر (التي لم تكتمل)، جرى تمجيدها من قبل من اعترضوا عليها. والتمجيد هذا لم يكن صادقاً أو نابعاً من قناعة حقيقية لأنه لو كان صادقاَ، لأسرعت القيادات إلى تطوير هذا النموذج والنزول إلى الناس، إلى البلدات العربية، وأحيائها، وحاراتها، للمساعدة في تنظيم لجانها الشعبية المقاومة للهدف ونهب الأرض. ومنذ تجميد المخطط، لم تتوقف جرائم الهدم في النقب، لأنه لا توجد مقاومة شعبية منظمة.

 نحن الأن نواجه طغمة متطرفة ذات ميول فاشية تحكم إسرائيل، ولا تتورع عن الإفصاح عن عنصريتها وطبيعتها الكولونيالية ونزعتها العدوانية. قامت هذه الطغمة بحظر الحركة الإسلامية. وهي حركة سياسية تمارس نشاطها ضمن القانون الإسرائيلي. وتقوم المؤسسة الإسرائيلية الآن بحملة تحريض غير مسبوقة ضد التجمع فيما يبدو أنه إعداد العدة للقيام بخطوة خطوة أو خطوات قمعية ضدّه، واستمرار للحملات التي لم تتوقف ضده منذ أن أطلق مشروعه الثوري في مواجهة منهجية للبنية العنصرية والكولونيالية لإسرائيل.

ليست الأحزاب هي المستهدفة في الأساس، إنما الإنسان الفلسطيني الذي يزداد وعيًا بواقعه، ووعيًا بواجبه. حين تستهدف المؤسسة الصهيونية الأحزاب فإنها تستهدف صوت هذا الإنسان، وتستهدف تشبّثه في الحياة، تستهدف مقاومته المتجدّدة. تريد أن تمضي بمشروعها الكولونيالي بدون ثمن وبدون ضجيج.

إذًا ألا نحتاج إلى ثورة، تبدأ من فوق، أو نحتاج إلى ثورة من تحت تطيح بنا جميعاً إذا احتاج الأمر، فينفتح الباب أمام المزيد من الطاقات الجديدة؟

التعليقات