25/12/2015 - 17:32

مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني/ عوض عبد الفتاح

ورقة مقدمة لمؤتمر 'مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني' التي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يومي 14 و15 تشرين الثاني / نوفمبر 2015 في الدوحة

مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني/ عوض عبد الفتاح

ما من شك أن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، لا تزال في أوجها. فالنخب الممسكة بالقرار لا  تزال تسبح في بحر عجزها، بل توغل في التحايل على هذا العجز عوضًا عن مواجهته بجرأة وبمسؤولية. وموقفها من الهبة الشعبية الراهنة خير دليل على ذلك. فبدل أن ترى السلطة الفلسطينية في الموجة الانتفاضية الراهنة ذات الخصائص الجديدة منقذًا ورافعة للمشروع الوطني فإن هذه الموجة تثير الخوف والتوجس لديها وهي مرتبكة بين الحاجة إلى ما يجعل إسرائيل تدرك أنها لا تستطيع الحفاظ على الأمر الواقع، وبين خوفها من أن تتحول إلى انتفاضة عارمة يصعب السيطرة عليها. إن هذه السلطة ليست مؤهلة بنيويًا ولا سياسيًا، وليس لديها الرغبة والإرادة لقيادتها. هي أرخت الحبل قليلًا لهذا الحراك الجديد الذي انطلق بدون استئذان من أحد، استجابة لحاجات آنية، أو تكتيكية إذ تريد أن ترسل رسالة بأن الوضع القائم لا يمكن أن يستمر وحتى يشكل هذا الحراك الشعبي المحدود حتى الآن، ولكن النوعي، ضغطًا واستدعاء للعالم ليقوم بالضغط على إسرائيل بالعودة للمفاوضات بشروط أفضل. لا تتجرأ السلطة على الإقدام على قمع الهبة  لأن الوضع الشعبي الغاضب لا يسمح بذلك ولأنه يتعارض مع رغبة أوساط فتحاوية واسعة تريد أن تُغيّر الوضع جذرياً. ولكنها تمنع تنظيمها بصورة منهجية لأنها تريد لهذه الانتفاضة أن تموت من تلقاء نفسها بعد تحقيق هدفها المحدود، وحتى لا تتحمل المسؤولية عن إجهاضها. غير أن الموت لن يحصل. من المرجح أن تشهد الهبة هدوءًا مؤقتًا لتعود وتتجلى في موجات متتالية أو متقطعة. نحن الآن أمام مزاج شعبي مختلف.

أما حركة حماس التي تدعمها وتحرض عليها بدون تحفظ أو توجس، فإنها لا تقدم أفقًا سياسيًا لهذه الموجات الانتفاضية ولا خطة مبلورة تتدرج من مرحلة إلى أخرى.وحماس تعيش أزمة الحصار، وأزمة البديل، وأزمة السلطة. إن استمرار الانقسام والصراع مع فتح ناهيك عن تربص الاحتلال لها وملاحقة كوادرها ولقياداتها في الضفة والقدس. كل ذلك يجعل إمكانية مشاركتها في قيادتها أمرًا صعبًا. وتكتفي حاليًا بالتحريض عليها من بعيد.

مع كل ما ذكر أعلاه، هناك إقرار عام أننا أمام واقع جديد، يُبشر بمرحلة جديدة من الفعل الوطني التحرري. لكن لا نستطيع استشراف مستقبلها ووتيرتها وحجمها، وخصائصها. ذلك أن لا السلطة الفلسطينية معنية باستمرارها وتوسعها، ولا الفصائل الفلسطينية الأخرى مهيأة وقادرة على قيادتها. وتكتفي كوادر الفصائل بالمشاركة أسوة بالمتظاهرين الآخرين. يذكر أن أعدادًا ليست قليلة من كوادر الفصائل واليسار في المعتقلات الإسرائيلية.

أين وصل الوضع بالمشروع الوطني الفلسطيني؟

في الأصل كان التحرر الوطني هو الهدف وهو الشعار؛ تحرير الوطن وعودة اللاجئين إلى وطنهم. كان ذلك بقيادة حركة وطنية تتجدد بعد أكثر من عقد على النكبة، تجتمع فيها وتتحالف حركات وفصائل مقاتلة عديدة في بيت معنوي عريض هو منظمة التحرير الفلسطينية. تلتقي كلها حول هذا الهدف وهذا الشعار، وتصبح المنظمة القائدة لشعب فلسطين والممثلة له في جميع أماكن تواجدهوتبني تحالفاتها العربية والعالمية بناءً على هذا الهدف الإستراتيجي والواضح. وتطلق الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة نضالاً تحرريًا أسوة بحركات التحرر العالمية الوطنية والاجتماعية، في سياق علاقات أممية في مواجهة الإمبريالية والاستعمار والأنظمة المتحالفة معها وتعتبر التعاون مع الاحتلال خيانة وطنية عظمى. يُنتج نشاطها الفدائي والتحرري أدبًا عن المقاومة والتضحية وقيمًا وطنية وإنسانية يسعى الناس إلى التمسك بها وتحقيقها. مع مرور الزمن، تُصبح هذه القيم جزءًا من ثقافة الشعب، والمعيار الذي يُقاس فيها الالتزام بمهمة التحرر والحرية. كما يُصبح التمسّك بها معيارًا لنقد الفساد أو الانحراف الذي يطال، في مراحل معينة، بُنى حركات التحرر بهدف المراجعة وإعادة تصويب المسار.

وقد طالت هذا الجسم الفلسطيني الوطني الأعلى، م. ت. ف، هذه الأمراض بصورة مبكرة. فالاتهامات بالانحراف، وبالفساد والإفساد، خاصة ضد قيادات التيار المركزي الذي قاد منظمة التحرير الفلسطينية، كانت رائجة.. بل أنها كانت أحد أسباب الانشقاق الدموي الذي جرى داخل حركة فتح عام 1983 في لبنان.

منذ بدايات السبعينيات بدأ المشروع الوطني الفلسطيني يمرّ بعملية تحول من التحرير والدولة الواحدة إلى الدولة المرحلية، بهدف تحقيق القبول الدولي لمنظمة التحرير.

ثم تتويج ذلك في النقاط العشر عام 1974 في جلسة المجلس الوطني الفلسطيني. كما كانت القضية الفلسطينية قد بدأت تتحول من قضية عربية إلى قضية فلسطينية، ورفع شعار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. مع أن اليسار الفلسطيني كان يرفع شعار 'الوحدة العربية هو الطريق إلى تحرير فلسطين'.ولكن ذلك ظل شعاراً لا أكثر.

كانت نتائج الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 كارثية بالنسبة للثورة الفلسطينية ولحركتها الوطنية. فقد فقدت معقلها الرئيسي الذي منحها القدرة على القرار المستقل وكانت بمثابة دولة داخل دولة، وتشتت قياداتها في المنافي، ودخلت في مأزق عميق. ولكن بسبب هذا الخروج القسري من بيروت تحوّل مركز الثقل الحركة الوطنية الى الداخل، وتحديداً داخل الأراضي المحتلة عام 1967. وقد مارست الفصائل الفلسطينية في الضفة والقطاع عملاً تنظيميًا مكثفًا خلال الثمانينيات. وقد جاءت الانتفاضة الفلسطينية لعام 1987، لتعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي والهيبة للحركة الوطنية وقياداتها. غير أن الاستثمار المتسرع لهذه الانتفاضة والظروف الدولية المتمثلة بانهيار الاتحاد السوفييتي وحالة الانكسار العربي بعد حرب الخليج الأولى عام 1991، أدى إلى خمود الانتفاضة. كل ذلك ساهم في وضع قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية أمام أزمة اشد من سابقاتها.

أوسلو استثمار إسرائيلي

كانت هذه الظروف المريحة لإسرائيل ولحلفائها الغربيين،  فرصة لحزب العمل الإسرائيلي الحاكم، للوصول إلى تسوية تمثل في اتفاقية (أوسلو).وشكلت هذه الاتفاقيةنصرًا ساحقًا للحركة الصهيونية. كما عبر عنها شمعون بيرس. لأن الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة التيار المركزي، منحت إسرائيل اعترافاً فلسطينياً رسمياً، وكان هذا الاتفاق مدفوعًا بالرغبة والحاجة الإسرائيلية للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي المتجه نحو المزيد من العولمة. وبسبب توصل قيادة حزب العمل الصهيوني إلى استحالة القضاء على القضية الفلسطينية.

وبغض النظر عن نوايا القيادة الفلسطينية، التي توصلت إلى اتفاق أوسلو من وراء المؤسسات التمثيلية للمنظمة. فإن هذا الاتفاق وجه ضربة كبيرة لمشروع النضال الوطني الفلسطيني والتحرري. وتبيّن مع مرور الوقت أنه بمثابة مأسسة لنظام الأبارتهايدالكولونيالي. فالاتفاق كرس تجزئة القضية الفلسطينية، جغرافيًا وديموغرافيًا، وجرى تجريم النضال الفلسطيني باعتباره إرهابًا. وتبع ذلك تعديل الميثاق الفلسطيني وبنوده المتعلقة بإعادة تعريف الحقوق الفلسطينية والنضال الفلسطيني من نضال تحرري إلى نشاط إرهابي. ما معناه أن الاتفاق لم يتوقف عند السياسة وما تطلبه أحيانًا من مساومات تكتيكية، بل طال التاريخ والحقوق والهوية.. هذا أخطر ما في الاتفاق.

ولسنوات بعد أوسلو ظن العالم أن القضية الفلسطينية في طريقها إلى الحل، في حين كان يجري تفكيكها إلى ملفات وتفاصيل ويتواصل الاستيطان مما أكد للفلسطينيين عدم جدوى مواصلة التمسك به. ومضافًا إلى النتائج الكارثية أيضًا، فإن 'أوسلو' فتح الطريق أمام إسرائيل نحو دول لم تكن لها علاقات معها. كما أن حركة التضامن العالمية تراجعت، فلم يعد لديها مبرر لمواصلة الحملة ضد إسرائيل كدولة محتلة، في حين يرتبط أصحاب القضية أنفسهم باتفاق معها، ناهيك عن تهافت أنظمة عربية أخرى على إسرائيل بعيد هو اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل.

هكذا غاب الفلسطيني الثائر، الساعي إلى التحرر من الاحتلال وجرائمه، ليحل معه الفلسطيني الذي يتصالح مع إسرائيل التي حوّلها أوسلو إلى دولة طبيعية في المنطقة موجودة في حالة نزاع عبر حدود دولة فلسطينية افتراضية.

الانتفاضة الثانية، استئناف على أوسلو ولكن دون نتيجة

عشية الانتفاضة الثانية، كان الشعور بالخديعة لدى القيادة الفلسطينية والشارع هائلاً. كان اشتعال الوضع يحتاج فقط إلى عود ثقاب. وقد وفره أريئيل شارون بدخوله الاستفزازي إلى ساحة الأقصى. فأشعل انتفاضة شعبية عارمة، التي كانت أكبر وأشرس مواجهة تدور ضد إسرائيل داخل فلسطين.. كل فلسطين التاريخية منذ النكبة.

كان من المفترض أن تؤدي التضحيات الجسام التي قدمها شعب فلسطين، بما فيها الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، والخسائر غير المسبوقة التي ألحقتها الانتفاضة بالعدو الإسرائيلي، إلى قلب المعادلة، ويعود الفلسطينيون إلى مشروعهم الأصلي. غير أن الإدارة السيئة وتعدد الاستراتيجيات وغياب القيادة الموحدة حال دون قطف ثمارها. والأخطر هو الشكل الذي اتخذته الانتفاضة، حيث ظهر الصراع وكأنه صراع يدور بين جيشين. لهذا لجأت إسرائيل إلى سحق الانتفاضة عبر اعتماد الطائرات والدبابات، متوجة ذلك باغتيال عرفات بعد 4 سنوات على انطلاقها عقابًا له على الاستئناف على أوسلو، بأوامر من قيادة شارون الذي لم يعترف بأوسلو، وكان يسعى لإلغائه في الأصل. وكان هذا الاغتيال وتغييب قائد الحركة الوطنية التاريخي، إيذانًا بانتهاء الانتفاضة، ودخول الحركة الوطنية، نفقًا اشد ظلمة تحت قيادة، يمثلها محمود عباس (أبو مازن) فرضتها التحالفات الدولية والإقليمية وفي صلبها الإدارة الأمريكية. وحتى لا تتكرر تجربة عرفات، فقد باشرت إلى إعادة تأهيل السلطة والأجهزة الأمنية وترسيخها كمقاول ثانوي للاحتلال تحت قيادة الجنرال الأمريكي كيث دايتون. وتمثلت العقيدة الأمنية الجديدة بتدريب وتنشئة الكوادر الفلسطينية الأمنية على الحفاظ على الأمن الداخلي وقمع أي نشاط مقاوم. وصبّت الدول المانحة (الأمريكية والغربية) أموالاً كثيرة في خزينة السلطة للحفاظ على دورها الوظيفي المتمثل في الحفاظ على أمن الاحتلال، وفي رفد الإعلام الذي يسوّغ هذا المسار الارتدادي. وحتى يجعله راسخًا وغير قابل للإصلاح. كان قبول السلطة الفلسطينية شرط الأهلية لبناء الدولة، كشرط لمنحها الاستقلال خطأ جسيماً. لأن حصول أي شعب تحت الاستعمار على إستقلاله ليس مشروطاً بإثبات الأهلية.

على مدار العشر سنوات الماضية، خاضت السلطة الفلسطينية، مفاوضات عبثية، برعاية أمريكية، في إطار ما يُسمى بعملية السلام. وتمسك رئيسها بموقف صارم ضد مبدأ المقاومة. ولم يلاحق المقاومين واعتقالهم فحسب، ضمن اتفاق التنسيق الأمني مع الاحتلال، بل عمل وواظب على قمع أي محاولة للاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي في المدن الكبيرة.

كان لهذا النهج نتائج كارثية ولا تزال مفاعيلها التدميرية قائمة. وأخطرها الانقسام واللجوء الى السلاح لحسم الخلافات الداخلية، بين حركة فتح وحماس. لا يمكن عزل هذا الانقسام عن مفاعيل اتفاق أوسلو والاستمرار بالتمسك بشروطه وقيوده المذلة. وقد سهل هذا الانقسام على إسرائيل شنّ ثلاث حروب دموية خلال أقل من عقد من الزمان على قطاع غزة المحاصرة دون أن يؤدي إلى ثورة فلسطينية، ودون أن يؤدي إلى موقف عالمي صارم ضد العدوان. وقد وجد القطاع وأهله أنفسهم يواجهون الآلة الوحشية لوحدهم بدون الضفة. ويمكن القول أن هذه الحروب العدوانية رغم المقاومة البطولية لحركة حماس والجهاد والفصائل المختلفة، والتضحيات الجسام، إلا أنها كشفت عن المأزق الذي وصل إليه خيار المقاومة في غياب الوحدة الوطنية وغياب الإستراتيجية السياسية الموحدة والاتفاق على وسائل وتكتيكات النضال.

وعلى المستوى السياسي أو على مستوى المشروع الوطني الفلسطيني، فقد غاب عند حماس كما غاب من قبل عند حركة فتح ماهية المشروع الوطني الفلسطيني الذي نعرفه في الأصل. خاصة بعد أن بدا أن حماس لحقت بحركة فتح عبر قبولها بالدولة في الضفة والقطاع، وهدنة طويلة الأمد، متجاوزة ما كان مطلوب منها، أي تجديد وتعريف برنامج تحرير كل فلسطين. فقد ظل شعارها ينادي بتحرير فلسطين باعتبارها وقف إسلامي دون أن تحدد ماهية وجوهر هذا المشروع.

ماذا طرأ على المشروع الوطني الفلسطيني

من اللافت للنظر، هو التحولات المتناقضة التي طرأت في بنية وسلوك طرفي الصراع؛ النظام الكولونيالي، والحركة الوطنية الفلسطينية.

ففي العشرين عامًا الماضية، وفي ظل اتفاق أوسلو وما انطوى عليه من تنازلات هائلة وغير مسبوقة في تاريخ أي حركة تحر وطني، واظبت القيادة على 'اعتدالها' المطلوب من  قبل الغرب، بل جاهدت بلا كلل من أجل إثبات اعتدالها وأهليتها للحكم، سواء في ممارستها الميدانية، أو في لغتها السياسية. وكان هذا خطاً بديلاً عن النضال والمواجهة مع نظام الأبارتهايدالكولونيالي الإسرائيلي. وكان الإخفاق مزدوجًا: إخفاق داخلي (البناء والتنمية) وإخفاق خارجي، في مواجهة الاحتلال.

في المقابل، وبالضد من ذلك، قابلت النخبة الإسرائيلية الحاكمة بنهج مُغالٍ بالتطرف والعدوان عبر شن حروبها الدموية على الفلسطينيين، ومواصلة تعميق المشروع الكولونيالي، وتمزيق القدس والضفة وصولاً إلى ترسيخ نظام الأبارتهايد الصارخ. كما أوغل المجتمع الإسرائيلي في مستنقع التطرف والجنون والفاشية. وقد يُعتمد ردّ الدولة والمجتمع الإسرائيليين العدواني على 'اعتدال' السلطة الفلسطينية، المغاليفي التهافت، والموجه لقلوب الإسرائيليين، معيارًا لقياس حجم التطرف الذي وصل إليه هذا المجتمع والدولة.

إن المتغيرات العميقة التي أحدثها عشرون عامًا من صناعة السلام، في بنية السلطة والنخبة المحيطة والذهنية التي أنتجتها والاستخفاف بالمقاومة، وثقافة المواجهة والتضحية، كل ذلك شكل المعين الذي أعاد تغذية وإنتاج نهج السلطة الراهن.

 لقد جرى ترويض أوساط واسعة من النخب والطبقة الوسطى، عبر ربطها بمطالب المعيشة وبنظام نيوليبرالي الذي فرض أو تم اختياره بديلاً عن التنمية الشعبية والبناء الاقتصادي المستقل.

في ظل 'عملية السلام'، والمفاوضات العبثية، واختزال الصراع من كفاح شعب من أجل التحرّر من نظام كولونيالي إلى نزاع على  22% من الأرض الفلسطينية، تبدلت اللغة والمفردات وكادت الرواية الأصلية تضيع في ثنايا غبار عملية التسوية التي منحت إسرائيل وقتًا كبيرًا لاستباحة كل المنطقة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة!

يقظة جزئية

طرأ على السلطة الفلسطينية يقظة جزئية منذ قبل الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية لعام 2013، حين أعيد انتخاب بنيامين نتنياهو، حيث تمّ تعليق المفاوضات.. وقد جرى ذلك تحت ضغط حملة النقد الشعبي. واختارت السلطة أن تمضي باستراتيجية 'تأزيم الصراع' مع إسرائيل عبر التدويل بدل إعادة النظر جذريًا بمسيرة التسوية والمباشرة بالإيفاء بمتطلبات المراجعة وما يترتب عليها من خطوات أولها تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.

إن اعتماد التدويل، وهو تكيتك مطلوب، لم يتسم بالحزم بل بالتردد، والتباطؤ، والتأجيل، تحسبًا من ردود فعل أمريكية وإسرائيلية.

لا شك أن لهذا التأزيم دور، إلى جانب أدوار لقوى خارج الأطر الرسمية، في جعل العالم يستفيق من تجاهله للقضية الفلسطينية. غير أن الوتيرة المتسارعة للمشروع الكولونيالي الإسرائيلي في الأرض المحتلة عام 67، واستمرار الحصار الإجرامي وتكرار الحروب الإسرائيلية الوحشية ضد أهالي قطاع غزة، ومخططات التهويد والتطهير العرقي في مدينة القدس والاعتداءات المتواصلة على الأقصى من قبل عصابات المستوطنين، وفي قرى ومخيمات الضفة الغربية، يقتضي استراتيجية مقاومة شعبية إلى جانب اللجوء إلى التدويل. لقد مارست السلطة سياسة التدويل عوضًا عن استراتيجية المقاومة الشعبية الشاملة.

العودة إلى الأصل

منذ أكثر من عشر سنوات تنشغل مراكز فلسطينية بحثية ومثقفون، وسياسيون، في مبادرات لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، ويشمل إعادة صياغة الخطاب الوطني الشامل. وجاء ذلك في ظل وصول التسوية إلى مأزق حاد، وبدأ يظهر للكثيرين أن إمكانية تحقيق الدولة في الضفة والقطاع غير واقعية.. بل لا تقل طوباوية عن خيار الدولة الواحدة.

وفي السنوات الأخيرة، بدأ العديد من النخب الفلسطينية ممن كان مغشيًا عليهم، بالاستيقاظ من الوهم، أنهم لم يصلوا إلى الدولة فحسب، بل فقدوا الثورة وكادوا يبددون أداة الثورة والتحرير.. ومعها قيم التحرر ووحدة الهوية والحقوق التاريخية. وأصبح، في نظرهم، من العبث التمسك بالوهم بدولة افتراضية في حين نظام الأبارتهايدالكولونيالي يتعاطى مع الواقع، ويُغيّره جذريًا لصالح مشروعه. وفي الوقت ذاته يواصل حملة التضليل، بعجز وبتواطؤ عالمي، أنه يريد السلام. وظل رئيس حكومته يكرر لفظيًا تمسكه بشعار الدولتين حتى عشية الانتخابات البرلمانية لعام 2015، حين جهر بموقفه الحقيقي ألا وهو رفضه لأي سيادة فلسطينية في أي جزء من الضفة الغربية. 

عقدت مؤسسات بحثية، وأكاديميون، ونشطاء سياسيون؛ مؤتمرات وندوات، وكتبت أبحاث وأوراق، هامة تطرح مخارج للأزمة؛ أزمة المشروع، أزمة الحركة الوطنية، والانقسام، أزمة القيادة، وطروحات بإلغاء السلطة الفلسطينية، أو تغيير وظائفها، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن كل ذلك لم يصل إلى مواقع اتخاذ القرار. ولم يُحدث أي تغيير جدي في وجهة السياسة الفلسطينية الرسمية. وكل مبادرات لإنهاء الانقسام وتوحيد شطري الأرض المحتلة عام 67، وتحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، التي انتهت بالفشل عمقت حالة الإحباط، وصبت المزيد من الملح على الجرح. وبدل أن يشكل كل عدوان صهيوني على قطاع غزة، حيث تجلت وحدة المقاومة البطولية، فرصة سانحة لتحقيق الوحدة، باعدت المسافة بين الطرفين، وتأكد عمق رسوخ المصالح لدى السلطتين.

 ويوم بعد آخر تأكد عدم جدوى المناشدات أو مبادرات الإصلاح دون مخاطبة هذه المصالح التي يجب أن تكون منسجمة مع المصلحة الوطنية الشاملة، ودون اعتماد ومقاربة جديدة تخاطب الشعب، وأطره الشعبية ومثقفيها وطلابها.

 وبالتوازي، مع هذه المبادرات البحثية، التي تطرح بدائل استراتيجية، سواء بالنسبة للدبلوماسية الدولية، أو بالنسبة للحلول السياسية، ظهرت مبادرات عملية ساهمت وتساهم في ما يمكن اعتباره عملية إعادة صياغة مسار فلسطيني بديل، يصب في إزالة الركام الذي نزل على الخطاب الوطني الفلسطيني التاريخي، بفعل اتفاق أوسلو.

ويمكن القول أن مبادرات أطر حق العودة التي بدأت تتحرك مجدداً في أواخر التسعينات من القرن الماضي بعد شعورها بميل القيادة الفلسطينية إلى المساومة على هذا الحق، كانت من أولى المبادرات السياسية التي تصدت لخطر التفريط.. لوقف التدهور. أما مبادرة اللجنة الوطنية للمقاطعة التي انطلقت من رام الله عام 2004، والتي تجاهلها لفترة طويلة أصحاب القرار (السلطة الفلسطينية)، تمكنت من إعادة ربط لجان التضامن العالمية بالقضية الفلسطينية ولتستأنف حملتها المقاطعة لإسرائيل بقوة أكبر لتصبح في السنوات القليلة الماضية مصدر قلق حقيقي لإسرائيل التي تتهمها بالعمل على نزع الشرعية عن وجودها.

المشروع الوطني يعاد بناؤه من تحت

باعتقادي أن الوحدة الوطنية،  والمشروع الوطني الفلسطيني يُعاد الآن بناؤهما من تحت. أي من القواعد الشعبية، ومن خارج الإطار الرسمي القيادي، أو النخب المرتبطة مباشرة أو غير مباشرة بجهاز السلطة الفلسطينية الحاكم. هو مسار يتطور موضوعيًا ربما نحو تشكيل القوة الثالثة التي يطرحها البعض منذ سنوات بعد التأكد من عدم جدوى جهود المصالحة بين فتح وحماس.

 ويمكن القول أن ما يجري في السنوات الأربع الماضية، أي تحول مدينة القدس الشرقية، وأحيائها إلى بؤر للمواجهات ضد قوات الاحتلال، وصولا إلى انتفاضة شعفاط صيف 2014 التي استمرت لأيام بعد جريمة خطف وحرق الفتى محمد أبو خضير، شكلت وتُشكل بروفة الموجة الانتفاضية الحالية. إنهاً ترجمة عفوية وموضوعية للمطلب الوطني الشامل الممثل في إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني، ولثقافة النضال والمقاومة ضد الاحتلال والاستيطان والعدوان.

كما أن النشاطات الاحتجاجية والتضامنية، المتفرقة، وإن ظلت محدودة، دعماً للأسرى المضربين عن الطعام والتي شارك فيها الحراك الشبابي داخل منطقة 48 بصورة نشطة ولافتة، تشكل إسهاماً في التحولات التدريجية الموضوعية نحو إعادة بلورة المسيرة الوطنية الفلسطينية الكفاحية.

أما العنصر الآخر الذي أصبح يشكل جزءاً من المشهد الفكري- والسياسي الفلسطيني، هو عودة النقاش إلى خيار الدولة الديمقراطية الواحدة. لقد اتسع هذا النقاش، ويشمل أيضًا سياسيين ومثقفين، كانوا متحفظين من ولوجه. ولم يعد أحد يجرؤ على نعت التداول بهذا الخيار بأوصاف مثل الطوباوية، والتحشيش الفكري وغيرها التي تهدف إلى تبخيسه وإظهار عدم جدواه. 

 إن أهمية عودة النقاش بشأن هذا الخيار السياسي الاستراتيجي، والذي لا يزال حتى الآن محصوراً في الدوائر الأكاديمية وفي أوساط ناشطة، تكمن في كونه يُعيد تعريف الصراع وإعادته إلى جذوره الكولونيالية، وينسف مجدداً الفرضية أن صراعاً يدور بين حركتين قوميتين متساويتين في الحق. وتنبع قوته من كونه أيضاً يطرح حلاً إنسانياً يقوم على مبادئ العدل الكونية كالمساواة بين البشر وتحقيق العيش الآمن بدون هيمنة فئة على أخرى على أساس عرقي أو قومي أو ديني. ويجري، في خصم النقاش، استخصار واستلهام تجربة جنوب أفريقيا، كنموذج للحياة المشتركة القائمة على أنقاض الفصل العنصري والاستبداد الكولونيالي. وهو نموذج اكتسب في حينه قوة جذب واسعة لأخلاقيته وسهولة تسويقه في الغرب.

 أما على المستوى الفلسطيني، فإنه على النقيض لصفقة أوسلو التجزيئية التفريطية، فهو يوفر قوة تجميعية لكل الشعب الفلسطيني. إن خيار الدولة الواحدة يُنصف كل تجمعات الشعب الفلسطيني، خاصة اللاجئين وفلسطينيي ال 48 الذين تم إقصائهم في إطار خيار التقسيم، وحل الدولتين. 

 يدرك غالبية المنادين بهذا الخيار أنه ليس مطروحاً للتفاوض، ولا يقل صعوبة تحقيقه عن صعوبة خيار الدولتين، إذ يتطلب تضحيات كبيرة، بل هو مطروح لإعادة وضع النقاط على الحروف، ولكونه يشكل على المدى المتوسط اليه تعبئة الشعب الفلسطيني حول روايته وحقوقه التاريخية، وهويته الوطنية الجامعة. فضلاً عن أنه ينطوي على قوة أخلاقية للعالم.. في مواجهة لا أخلاقية الفكرة الصهيونية القائمة على التطهير العرقي والاقصاء والاقتلاع.

 مكانة دور فلسطيني 48 في المشروع الوطني

باعتقادي، ما كان للوعي الجمعي الفلسطيني الأخذ في التشكل مجدداً، أن يكتسب هذ القدر من الأهمية بدون نجاح فلسطينيي أل 48 في فرض أنفسهم على خارطة الصراع.. ابتداءً من عام 2000، تاريخ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وامتدادها إلى داخل الخط الأخضر واستمرارهم في التفاعل مع القضية الفلسطينية حتى اليوم. لقد كادت أوسلو أن ترسم الوطن الفلسطيني، والشعب الفلسطيني نهائياً في الوعي الجمعي، والعالمي في أراضي الضفة وقطاع غزة. لكن انخراط هذا الجزء من الشعب الفلسطيني في هبة شعبية عارمة دعماً للانتفاضة الثانية وانضمامهم إلى، جبهة المواجهة ضد نظام الأبارتهايدالكولونيالي، وسقوط الشهداء والجرحى، كشف للجميع حجم الظلم الواقع عليهم. وكما كشف القوة السياسية الكامنة فيهم. لقد رأى العديد من المراقبين ومنهم الإسرائيليين، أن أحد الدوافع الرئيسية لهذا الانفجار الشعبي لفلسطينيي الـ48 والالتحام الكفاحي مع نضال أخوتهم  في الأراضي المحتلة عام 67، هو عوامل سياسات النهب والتهويد والتمييز، ونمو الوعي الوطني العام. أما على صعيد دور القوى السياسية، فقد رأت جهات أكاديمية إسرائيلية، بظهور التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995، عاملاً تعبوياً وتحشيدياً لفلسطيني الداخل ضد سياسات الدولة العبرية، وأيدلوجيتها العرقية، على المستوى الفكري- الثقافي والشعبي. كما يرى آخرون أن للحركة الإسلامية دوراً في التعبئة ضد النظام الإسرائيلي ومن منطلقات دينية، وعبر مهرجاناتها الحاشدة والتعبوية في أم الفحم، والمرابطة  في المسجد الأقصى، دفاعًا عن الأقصى. ويذكر أن المخابرات الإسرائيلية أصدرت بياناً رسمياً، وهو أمر غير مألوف أن تصدر بيانًا ضد أحزاب، تُحمّل التجمع والحركة الإسلامية المسؤولية عن المواجهات عام 2000، وذكرت في بيانها أن قادة التجمع، تحديدًا، شوهدوا في كافة المواجهات.

لم تكن الحملة التحريضية، وسلسلة القوانين العنصرية، ومخططات التهويد الجديدة، التي تواصل الحكومة الإسرائيلية تنفيذها ضد فلسطينيي أل 48، دافعها الوحيد مشاركتهم في النضال الوطني.. بل كانت استمرارً وتصعيداً لحملة بدأت منذ أواسط التسعينات، وعلى أثر تصاعد قوة اليمين الإسرائيلي، واليمين المتطرف.

إن حكومة اليمين واليمين المتطرف، التي أعيد انتخابها، لم تعد معنية 'بأرض إسرائيل' الكاملة فقط، بل بدأت في السنوات الأخيرة توجه جل جهدها نحو فلسطينيي أل 48. لقد بات خطاب الترانسفير شرعياً، والقوانين العنصرية السافرة ضدهم باتت تمر دون اعتراض جدي مما يسمى اليسار الليبرالي. لقد قادت هذه القوانين العنصرية، وحملات التحريض على المواطنين العرب وحركاتهم السياسية وقادتهم إلى اعتداءات دموية عليهم في الشوارع والحافلات كما حصل أثناء العدوان على غزة صيف عام 2014. وكما يحصل في هذه الأيام منذ انفجار الموجة الانتفاضية الحالية.

إن الحروب العدوانية على شعبنا، وتفاقم سياسات النهب والتمييز والحرمان والإفقار، واعتماد وسائل قمع شديدة جعلت أوساط واسعة من هذا الجزء من الشعب الفلسطيني تُدرك أن واقع فلسطين الـ48 يخضعون لنفس منظومة القهر التي يقع تحت نيرها كل شعبنا الفلسطيني. وقد اضطر الفلسطينيون في إسرائيل على مدار عامي 2012 و 2013 لخوض نضالات جماهيرية ومواجهات مع قوات القمع الإسرائيلية وإغلاق شوارع داخل المدن وخارجها، لإسقاط مخطط اقتلاعي كبير ضد الفلسطينيين في النقب المعروف بمخطط برافر. واعتبر إسقاط المخطط إنجازًا كبيرًا ودليلاً على الإمكانات الكامنة في هذا الجزء من الشعب إذا ما أحسن تنظيم صفوفه ونضالاته.

آفاق هذا الدور والمحاذير التي تحكمه

لم يعد بالإمكان، ولا يجوز، تجاهل دور هذا الجزء من شعب فلسطين في المشروع الوطني الفلسطيني. ولكن أيضًا لا يصح توقع دور أو مساهمة أو مشاركة جدية في إعادة بناء المشروع، أو الانخراط الفاعل في النضال الفلسطيني العام، دون معرفة خصوصية واقعه والمحاذير التي تحكم حياته اليومية والسياسية. ويجب فهم ذهنية أوساط واسعة لجزء من شعب، عاش وولدت أجيال منه، في واقع سياسي ومعيشي توفرت فيه حرية نسبية مقارنة مع واقع تجمعات الشعب الفلسطيني الأخرى. ناهيك عن ان المجتمع الدولي لا يعتبر قضية هذا الجزء من شعب فلسطين جزءًا فعليًا من الصراع وبالتالي ليس جزءًا من الحل.كما أن فصله عن أهداف المشروع الوطني الفلسطيني لا يجعله يشعر بالارتباط الفعلي بنضاله. ان أوساطًا غير قليلة غير مهيّأة لا ذهنياً ولا معنوياً، ولا سياسياً للمشاركة الفعلية. وحتى الآن شاركت غالبية القوى السياسية من باب التضامن والمساندة لأخوة يسعون لدحر الاحتلال وإقامة دولتهم على 22% من فلسطين. وحتى الذين يطلقون شعارات ويرفعون مطالب وطنية طموحة في النهاية محكومون بمحاذير يقتضيها العيش في دولة يهودية صهيونية مُعترف بها عالميًا وتعتبر نفسها تخوض حربًا وجودية.

رغم كل هذه المحاذير، فإن وعياً وطنياً خاصة بين أوساط ليست قليلة من الأجيال الجديدة، يتسع ، كما أن الإحساس بالارتباط التاريخي بالشعب الفلسطيني يتعمق ويتحول لدى مجموعات شبابية عديدة إلى مبادرات لنشاطات مشتركة في فلسطين التاريخية ودول اللجوء والشتات.وهذا التحوّل النوعي في الوعي تعود بداية مرحلته إلى عام 2000 تاريخ تفجر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وامتدادها إلى داخل الخط الأخضر لحوالي ثمانية أيام سقط خلالها الشهداء والجرحى.

ما هو مطلوب من فلسطينيي 48، وماذا يستطيعون فعله، وكيف ومن يحدد دورهم ومكانهم في المشروع الفلسطيني؟

لم ينتظر هؤلاء الفلسطينيون صدور توجيه، أو تصور لموقعهم ودورهم، من القيادة الفلسطينية. إن قيادة الحركة الوطنية، وخاصة قيادة التيار المركزي لم تقدم أي تصور استراتيجي لدور هذا الجزء. بل أن نظرة التيار المركزي الذي يقود منظمة التحرير الفلسطينية، اتخذ الطابع الاستخدامي لدعم توجهاته السلامية تجاه المجتمع الإسرائيلي ويعزز ذلك وجود لجنة تسمى 'لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي' ولا تفرق في اتصالاتها التنسيقية بين اليهود الإسرائيليين والمواطنين العرب الفلسطينيين.

مصادر قوة فلسطينيي 48

أولاً: إن مجرد وجودهم في وطنهم، وفي كونهم يخضعون لتمييز عنصري بنيوي، ولمخططات نهب أراضيهم، رغم كونهم يحملون المواطنة الإسرائيلية، يُشكل أهمية استراتيجية، ضمن حملة نزع الشرعية عن نظام الأبارتهايد الصهيوني. وهذا يصب مباشرة في صالح النضال الفلسطيني العام. ويأتي هذا الدور في ضوءتطور تجربتهم السياسية ونظرتهم الأيدلوجية والسياسية إلى موقعهم في المعادلة الإسرائيلية. فبعد أن كان التحدي الأيدلوجي ليهودية إسرائيل معطلاً ومُغفلاً عنه لعقود، تحول منذ العقدين الماضيين إلى عامل مساعد على كشف طبيعة هذا الكيان، و أيضًا عامل مساعد لإزالة الوهم لدى أوساط واسعة من المواطنين الفلسطينيين في أنه يمكن تحقيق المساواة عبر التخلي عن هويتهم الوطنية وعن نضال شعبهم. فضلاً عن قوته التعبويةوالتحشيدية ضد النظام العنصري.

ثانياً: القوة الكامنة في عددهم وفي تفعيل هذا العدد في نضالات شعبية صدامية، مثل إغلاق شوارع رئيسية، لإجبار الدولة على التراجع عن مخططات عدائية. وقدّم الفلسطينيون في مقاومة مخطط برافرالإقتلاعي وإسقاطه عام 2013، نموذجاً في القدرة على خوض نضال شعبي ناجح.

ثالثاً: وحدة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. إن نجاح الأحزاب التي تخوض انتخابات الكنيست في خوض الانتخابات الأخيرة في قائمة واحدة للمرة الأولى في تاريخهم، ساهم في رفع وزنهم السياسي، ليس لدى المؤسسة الإسرائيلية، بل لدى جمهورهم الفلسطيني، ولا يقل أهمية لدى المجتمع الدولي. فمنذ نجاح تشكيل القائمة، لا تنقطع اللقاءات مع سفراء الدول الأوروبية وغيرها في تل أبيب، التي تساهم في كشف المزيد من جوانب الظلم الذي يتعرضون له فيما يضع هذه الدول أمام مسؤوليتها تجاههم.طبعاًليست القائمة المشتركة الإطار الممثل لكل الفلسطينيين، إذ هناك حركات لا تخوض الانتخابات. فالإطار الأوسع الذي من المفترض أن يمثلهم الآن إلى حدّ كبير، هو 'لجنة المتابعة العليا للجماهير الفلسطينية في إسرائيل' التي لن تتحول إلى قيادة وطنية حقيقية إلا بعد انتخابها مباشرة. كما أن تجربة القائمة المشتركة لا تزال حديثة ويدور فيها نقاشات سياسية وأيدلوجية ليست سهلة.

رابعاً:الإمكانية الكامنة البعيدة، في التأثير على أوساط المجتمع الإسرائيلي. صحيح أن المجتمع الاستيطاني مشحون أكثر من أي وقت مضى بالكراهية والحقد العنصريين ضد كل ما هو فلسطيني وعربي. ويُصبح أكثر فاشية وعدوانية. وليس العمل العربي- اليهودي المشترك المعمول به من قبل الحزب الشيوعي الإسرائيلي منذ عقود ما سيغيّر ذهنية وعقيدة هذا المجتمع، إنما النضال الوطني التحرري من جانب عموم الشعب الفلسطيني. مع ذلك يمكن، ويجب، أن يشكل المواطنون العرب جبهة عربية- يهودية ذات رسالة إنسانية وأخلاقية مناهضة لنظام الأبارتهايدوالكولونيالية كبديل عن الفاشية والتطرف والاستعمار.

كيف نستطيع القيام بهذه الأدوار

يستطيع الفلسطينيون، داخل الخط الأخضر، القيام بدور مهم، كما قاموا من قبل، حتى في ظل وضعهم التنظيمي ووضعيتهم الاقتصادية والاجتماعية في الواقع الإسرائيلي. ولكن الارتقاء بدورهم يحتاج، أكثر من أي وقت مضى إلى التسريع في تنظيم مؤسساتهم الوطنية الجامعة، وإقامة الأطر الشعبية والمهنية، وتعزيز القائم منها، المؤهلة للتصدي للمخاطر المباشرة وللتجاوب مع حاجات الناس اليومية.

ليس واقعيًا توقع انتفاضة، أو هبة شعبية طويلة سواء لدعم نضالهم أو نضال الفلسطينيين في الضفة والقطاع. فهم معتمدون بصورة شبه كلية على الاقتصاد الإسرائيلي، وفقدوا غالبية موارد رزقهم التقليدية وتم احتجاز تطورهم الاقتصادي والصناعي بفعل سياسة مرسومة منذ إقامة إسرائيل. لكن هناك مهام وخطوات ضرورية للنهوض بوضعهم وحاجاتهم اليومية وحقوقهم الوطنية، أهمها حسم مسألة تنظيم أنفسهم كجماعة قومية تحقق نوعاً من الاعتماد على الذات، وهذه المهمة مؤجلة منذ عشرين عاماً.

ما أصبح ناجزاً وثابتاً، هو اتساع الأوساط الواعية، بين المثقفين والسياسيين، والأكاديميين الشباب، بأهمية أن يكون هذا الجزء من شعب فلسطين جزءاً من المشروع الوطني الفلسطيني، أما ضمن دولة ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية مدنية في فلسطين التاريخية.

أيضًا يستطيع الفلسطينيون، خاصة النخب، المساهمة في النشاط البحثي والأكاديمي والسياسي في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، والخطاب الوطني الفلسطيني. ومن المعروف فإن مثقفين وسياسيين عديدين من داخل الخط الأخضر يشاركون ويساهمون بجدية في هذا الجهد الفكري والبحث الساعي إلى تقديم مخارج بديلة للخيارات القديمة التي استهلكت وتشكل هذه المشاركة من مثقفي الـ 48 في الجهد البحثي، ورسم التصورات النظرية والعملية، تعويضاً عن تغييبهم من جانب القيادات الفلسطينية الرسمية.

الوضع الفلسطيني الراهن، ما العمل؟

ويبقى السؤال، أو الأسئلة الملحة التالية، المطلوب الإجابة عليها عاجلاً، والتي ربما تجري حالياً جهود ومبادرات للإجابة عليها في الميدان هي:

 كيف، نحن الفلسطينيين، نستقبل هذه المرحلة الآخذة بالتشكل. كيف نضمن إدارة صحيحة ومسؤولة وجريئة للنضال ضد الاحتلال. وكيف نُمرحلمسيرة الكفاح الشعبي، ونضمن تدرجها واستمراريتها ومراعاة قدرات الناس على تحمل تبعاتها.  وكيف يتم لجم التوحش الإسرائيلي، وردعه عن ممارسته القتل الجماعي. أمام الفصائل والقوى السياسية فرصة تاريخية جديدة في التأثير على سيرورة وشكل المواجهات والحراك، عبر اختيار أساليب النضال الملائمة، وعبر توسيعه وإشراك الجماهير العريضة، في المسيرات والمظاهرات وعبر التقيد بقواعد يتم الاتفاق عليها.

ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر لكي تتطور هذه الهبة إلى مرحلة نضالية جديدة؟

أولاً: تحديد شعار المرحلة: وهو التحرر الوطني.

إن الشعب الفلسطيني يخوض معركة تحرر وطني من مستعمر كولونيالي عنصري ولا يخوض صراعاً على حدود. ليس الموضوع دولة. بل حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني بكافة تجمعاته: إزالة الاحتلال والاستيطان في الأراضي المحتلة عام 67، حق العودة، وتحقيق الحقوق القومية والمدنية الكاملة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر عبر تفكيك النظام الصهيوني العنصري.

ثانياً: تشكيل قيادة وطنية موحدة عليا، وقيادات ميدانية موحدة مدركة لحجم المسؤولية التاريخية، وقادرة على تجاوز الحساسيات والصراعات الفئوية المتراكمة. ويفضل أن يوجه هذا الجهد نحو بلورة قوة ثالثة، تقود وتضغط على حركة فتح وحماس لإنهاء الانقسام.

ثالثاً: خلق اجماع وطني على نموذج المقاومة الشعبية، المستند إلى تجربة الانتفاضة الأولى الذي أظهر فيها شعبنا البطل تفوقاً أخلاقياً على المستعمر الصهيوني. لا يجوز العودة إلى أخطاء الانتفاضة الثانية، وإن كان شعبنا قدّم فيها تضحيات هائلة، وكبدت المحتل خسائر كبيرة. لا يجوز أن يكون كثرة الشهداء مقياس النصر، بل تكبيل أيدي العدّو ولجمها عن القتل.. وحصاره محلياً وعالمياً.. وصولاً إلى قبوله مبدأ العدالة.

رابعاً: توفير الآليات المناسبة للتنسيق بين كافة التجمعات الفلسطينية، في فلسطين التاريخية، والشتات، والمهجر. وليشعر كل تجمع أنه شريك في النضال والهدف.

خامساً: تحقيق تكامل بين أشكال المقاومة: أشكال العمل الشعبي والسياسي والدبلوماسي والثقافي، وإعطاء اهتمام كبير للحركة المقاطعة العالمية، وضرورة توفير صندوق دعم حقيقي لهذه الحملة.

سادساً: الإستعانة بالقوى الإسرائيلية واليهودية العالمية المناهضة للاحتلال والصهيونية والكولونيالية في الحملة الإعلامية لصالح حق الشعب الفلسطيني، ولصالح الفكرة الأخلاقية- الإنسانية الشاملة والمساواة بين البشر.

سابعاً: إيجاد الآلية المناسبة للتنسيق مع القوى الوطنية الفلسطينية داخل 'منطقة 48 (الجليل والمثلث والنقب)'، بما يتسق مع حجم الطاقة الكامنة التي يحملها هذا الجزء من شعبنا، وما يلائم خصوصية واقعه. يستطيع هذا الجزء من الشعب الفلسطيني لعب دور فاعل ومؤثر في النضال الشعبي، وفي الحملات الإعلامية والأيدلوجية ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي.

ثامناً: بناء الأطر والمؤسسات التي تتحمل التبعيات المادية، وتوفير أسباب الصمود والدعم للناس.

خلاصة

منذ أكثر من أربع سنوات تعيش الساحة الفلسطينية مُخاض ولادة جديدة، عودة تدريجية تراكمية إلى الوعي الوطني الشامل، إلى الرواية. وهذا يُترجم في حراك فكري-ثقافي وميداني وشعبي. وكأننا نشهد عملية لإعادة بناء الجمأعةالوطنية الفلسطينية، بعدما مرّت بمرحلة من التمزق الجغرافي والسياسي والثقافي على مدار عشرين عامًا من صناعة التسوية.

 إن ما يجري، راهنًا، من فعل شعبي، ونشاط فدائي فردي، ضد الاحتلال والمستوطنين، في الأسابيع الأخيرة هو حلقة من حلقات التشكل السياسي والوطني الوحدوي الذي بدأ من تحت متجاوزاً الهياكل التمثيلية والفصائلية والحزبية. إنها ثورة، أو موجات انتفاضية متلاحقة، ليس من الصعب استشراف إمكانية تطورها واستمرارها.. وإن كان من الصعب استشراف أي شكل ستأخذ في مراحل لاحقة. ما يظهر بصورة واضحة، هو أن ثورة الأجيال الجديدة ضد الاحتلال هي أيضاً ثورة مُضمرة ضد البنى والهياكل القائمة التي عجزت عن إحداث التحول، وثابرت على العجز والتحايل عليه عبر اللجوء المتردد والمتوجّس إلى التدويل الذي لم يؤد إلى وقف جرائم الاحتلال والمستوطنين، ولم يأتِ بأي انجاز فعلي لهذه الأجيال. إن التدويل، رغم أهميتة وضرورته، لم يكن جزءاً من استراتيجية متكاملة العناصر أهمها المقاومة الشعبية وتبني حملة المقاطعة العالمية لنظام الأبارتهايدالكولونيالي، واعتماد التنمية الشعبية بدل نظام التبعية الاقتصادية الذي لم يجلب سوى الفساد والإفساد، وإشاعة ثقافة الاستهلاك والفردانية، وإفقار الناس، وإضعاف روح المقاومة.

إن طرح الخيارات الاستراتيجية والحلول البديلة، التي تعيد العمل والتأكيد على وحدة القضية الفلسطينية، والحقوق التاريخية، وتعيد تعريف القضية كقضية تحرر وطني وتعريف إسرائيل كنظام فصل عنصري كولونيالي يعيش ظلمه 12 مليون فلسطيني، في الوطن والشتات، يساهم في إخراج الشعب الفلسطيني من حالة التفكك والضياع والتيه.. نحو أفق أوسع وأكثر وضوحاً.. ونحو طريق التحرر الوطني الديمقراطي. ليس هذا كافيًا طبعًا، بل يجب أن يكون هناك هدفً واقعيًقابل للتحشيد حوله في المدى المنظور، كهدف وقف الاستيطان في القدس والضفة ورفع الحصار عن قطاع غزة.

 في هذا السياق، يُضيف إدماج الفلسطينيين داخل 'إسرائيل' في المشروع الوطني الفلسطيني، وفي النضال الوطني التحرري، بعداً ثقافياً، وبعداً استراتيجياً، ودفعاً لعملية إعادة البناء الوطني الشامل.

إن شرط نجاح هذا الدمج، وضمان عودته بالفائدة على صمودهم ونضالهم، هو قياس قدرتهم وطاقاتهم بصورة دقيقة وصحيحة. لا يجوز تحميلهم فوق طاقتهم، من ناحية، كما لا يجوز اختزال نشاطهم في التضامن مع نضال شعبهم من بعيد، من ناحية أخرى.

(ورقة مقدمة لمؤتمر 'مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني' التي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يومي 14 و15 تشرين الثاني / نوفمبر 2015 في الدوحة)

التعليقات