07/03/2016 - 06:17

تبدل النخب الإسرائيلية: عودة لما قبل 1948

الحديث عن تبدل النخب المهيمنة في إسرائيل ليس تنجيما ولا أحاديث عن مؤامرات تحاك بالسر، وإنما نتيجة تحولات ديمغرافية عميقة في المجتمع الإسرائيلي

تبدل النخب الإسرائيلية: عودة لما قبل 1948

(أ ب)

كثر الحديث في الأعوام القليلة الماضية وزادت وتيرته بعد انتخابات الكنيست الأخيرة عن حصول تبدل في النخب المهيمنة في إسرائيل لصالح اليمين المتطرف أو ما يعرف بالتيار الصهيوني الديني الاستيطاني، وأصبح الأمر مسلمًا به من قبل ما تعرف بـ'النخب الليبرالية' أو التيار المركزي في الحركة الصهيونية وهي النخب العلمانية الليبرالية الأشكنازية، وتسيطر أجواء 'سوداوية' على خطاب 'النخب اليسارية' التي وجدت نفسها في الشهور الأخيرة تحت 'هجوم مباغت' من قبل اليمين، وليس أي يمين، بل اليمين الاستيطاني الإقصائي الحاكم المتمثل بوزراء حكومة بنيامين نتنياهو مثل وزيرة الثقافة ميري ريغيف ووزير التربية نفتالي بينيت ووزيرة القضاء أييليت شاكيد وغيرهم.

الحديث هنا عن تبدل نخب نتيجة تحولات ديمغرافية عميقة في المجتمع الإسرائيلي كنت قد تطرقت إليها في مقال سابق. وهي ليست مؤامرات سرية لأن قائد أحد أبرز التيارات اليمينية المتطرفة، نفتالي بينيت، صرح الصيف الماضي في مؤتمر بمناسبة مرور عقد على عملية فك الارتباط عن قطاع غزة أن 'هدف فك الارتباط كان وقف صعود نخب الجمهور الديني القومي، الذي راكم على مدار سنوات مواقع مؤثرة شرعية لكنها خطيرة بنظر رجال اليسار، فهم أحسوا بأن هناك من قام بتغيير القواعد لكن دون تبليغهم بذلك'. ويؤكد بينيت أن السنوات الأخيرة تشهد عملية واسعة لتبدل النخب في إسرائيل، والتي بدأت في العام ١٩٧٧ مع صعود مناحيم بيغين للحكم لأول مرة.

وبنظر قادة اليمين فإن التحولات تحصل على عدة أصعدة، تحول في النخب الإعلامية والنخب القضائية والنخب الأكاديمية والنخب الثقافية. لكن بنظر بينيت التحول الأهم يجب أن يكون في النخب السياسية الحاكمة (يبدو أنه ليس من قبيل الصدفة ألا يتحدث عن تبدل النخب العسكرية بشكل صريح ومباشر)، وذلك لوأد أي محاولة لتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية مستقبلا أو ما يسميه 'اقتلاع المستوطنين'، وذلك، بنظره، لا يتطلب هيمنة اليمين فقط، لأن فك الارتباط جرى في عهد حكم الليكود برئاسة أريئيل شارون، وإنما المطلوب هو يمين عقائدي قيمي، وفي صلب عقيديته السيطرة على كافة فلسطين التاريخية (ما عدا قطاع غزة) ليس لدواع ومبررات أمنية لأنها قد تزول أو تتبدل، وإنما بدافع قيمي عقائدي مع التشديد على ضرورة مخاطبة الرأي العام اليهودي، وتأكيد رسالة أن 'الصراع على أرض إسرائيل' ليس صراع المستوطنين وحدهم، وإنما صراع كل اليهود. ويخلص بينيت إلى القول إنه قرر، بعد فك الارتباط قبل أكثر من عقد، 'عدم الصمت' ومنع حصول إخلاء للمستوطنين مستقبلا وذلك من خلال السعي للوصول إلى الحكم.

ليست أقوال بينيت استنتاجات شخصية لسياسي متطرف، وإنما تعكس عقيدة منتشرة ومتجذرة في أوساط اليمين الاستيطاني ولها تبريرات 'بحثية وأكاديمية'. ففي العام ٢٠٠٨ نشر المحاضر في كلية أريئيل الاستيطانية، د. أودي ليبل، بحثا زعم فيه أن هدف خطة فك الارتباط هو عودة النخب 'الأشكنازية العلمانية الاشتراكية الحمائمية' إلى السلطة. وزعم ليبل أن الدافع لخطة فك الارتباط هو استعادة النخب التي هيمنت على الحكم في إسرائيل منذ تأسيس إسرائيل حتى الثمانينات لمواقعها المؤثرة في الحكم، بعدما اختارت هذه النخب، بحسب ليبل، ساحات أخرى في أعقاب حرب ١٩٦٧ وحرب لبنان الأولى في العام ١٩٨٢ لنشر خطابها وهي الساحات القضائية والإعلامية على حساب هيمنتها على الأمن والسياسة.

ويعزو ليبل رغبة هذه النخب استعادة مواقعها السابقة، وتحديدا في مجال الأمن، إلى اندلاع الانتفاضة الثانية وعودة الجيش لتأدية دور محوري في تخريج قيادات سياسية مستقبلا. أي أن النخب 'العلمانية اللبرالية' حاولت استعادة مواقعها بعد أفول ما يسمى 'عملية السلام' مع الفلسطينيين وصعود قوة اليمين، لكن هذه العودة كانت متأخرة، كما تبيّن لاحقا، إذ كانت هذه النخب هي من حرضت الرأي العام الإسرائيلي على الفلسطينيين والتسوية، وبالإمكان القول إن إيهود براك، آخر رئيس حكومة محسوب على هذه النخب، أطلق رصاصة الرحمة على حكم 'اليسار' أو التيار الليبرالي المركزي في الصهيونية، بتصريحه أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام مع إسرائيل، بالإضافة إلى إصداره تعليمات بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في البلدات العربية داخل إسرائيل في الأيام الأولى للانتفاضة الثانية، وبذلك يكون قد أطلق رصاصة الرحمة الثانية على ما كان طيلة عقود 'خزان الأصوات' لـ'معسكر السلام الإسرائيلي' أي أصوات الناخبين العرب. ومنذاك اليوم لم تقم قائمة لهذا المعسكر بعدما تبيّن أنه كان قائما على أصوات الناخبين العرب بعدما تراجعت شعبيته في أوساط اليهود.

لا يعني الحديث عن تبدل النخب المهيمنة في إسرائيل اندثار النخب السابقة، بل انها أصبحت غير مهيمنة وخسرت معركتها مع اليمين المتطرف، بعدما حاولت التستر عليها دوليا طيلة أكثر من عقد، فلم تتردد، على سبيل المثال لا الحصر، تسيبي ليفني المحسوبة على تلك النخب، في الدفاع عن إسرائيل في ظل حكم اليمين في الأعوام الأخيرة بقيادة نتنياهو وليبرمان. كذلك لم يتعب شمعون بيرس، المحسوب هو الآخر على النخب المهزومة، في الدفاع عن التطرف الحاصل في إسرائيل، وتجميل حكم اليمين دوليًا.

لكن هذا التوصيف المقتضب لا يفي الإجابة على السؤال الأهم، وهو إلى ماذا يسعى اليمين المتطرف، وعلى رأسه نتنياهو، من خلال محاولة فرض هيمنته على المؤسسات الإسرائيلية؟ أجاب بينيت على هذا التساؤل كما ذكرت أعلاه بأنه يريد أن يحبط أي محاولة لإخلاء المستوطنين مستقبلا.

الهدف أعمق بكثير ويعود بالصراع إلى ما قبل النكبة عام ١٩٤٨، أي إلى مرحلة 'الصهيوني الذي يسعى للاستيطان وفلاحة كل شبر' في فلسطين، وبلغة اليمين اليوم الاستيطان 'في أرض إسرائيل الكبرى'، هذا بالإضافة إلى محو أي صفة أو مطالب سياسية ودولية تعتبر الفلسطينيين مجموعة قومية لها حق تقرير المصير، بل ترى بالفلسطينيين سكانا لا حقوق سياسية قومية لهم. وهذا المسعى ليس جديدا وإنما هو متجذر في عقيدة اليمين التي رأت منذ ما قبل تأسيس إسرائيل الفلسطينيين في فلسطين سكانًا 'عربًا' لهم الحق بالعيش الرفيه في أرضهم، لكن دون حقوق سياسية أو طموحات قومية.

وأكثر ما يدلل على هذه العقلية هو تصريحات نائبة وزير الخارجية، تسيبي حوطوفيلي، من حزب الليكود، التي قالت فيها إن 'الاحتلال ليس احتلالا… حقيقة هي أن محكمتنا العليا لم تعرف في أي من قراراتها الأوضاع في المناطق (الفلسطينية المحتلة في العام ١٩٦٧) على أنها احتلال. سنقوم بتفكيك هذا المصطلح' ('هآرتس' ٢٢٢٢٠١٦).

لكن الأهم في تصريحات حوطوفيلي قولها إن نتنياهو يشدد خلال لقاءاته الدبلوماسية على نقطتين، حسب تعبيرها، الأولى أنه لا يمكن تخيل إسرائيل تقوم بخطوات أحادية الجانب؛ والثانية أنه يرى أن إخلاء المستوطنين هي عملية 'تطهير عرقي'.

الحديث عن تبدل النخب المهيمنة في إسرائيل ليس تنجيما ولا أحاديث عن مؤامرات تحاك بالسر وإنما بالعلن وهي عودة إلى المربع الأول في الصراع، الصراع على الأرض، فمثلما اعتبرت هجرة اليهود إلى فلسطين مطلع القرن الماضي 'عملا طلائعيا' وإنسانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بات المستوطنون يعتبرون أن الاستيطان هو 'عمل عبري طلائعي'.

(ينشر المقال في الموقع بالتوازي مع نشره في صحيفة 'العربي الجديد'، لكن مع تعديلات طفيفة هنا)

التعليقات