16/03/2016 - 11:08

لهذا قرّر بوتين الانسحاب/ مروان قبلان

اقع الأمر أنه يصعب فهم السلوك الروسي في سورية، إذا حاولنا ربطه بحيثيات الأزمة السورية وجدولها الزمني، وهو بحق لا يعد ممكناً إلا إذا عدنا إلى خطاب بوتين الشهير الذي ألقاه في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، وصرخ فيه، للمرة الأولى، في وجه الغرب،

لهذا قرّر بوتين الانسحاب/ مروان قبلان

فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم بقراره سحب الجزء الأكبر من قواته من سورية، تماماً كما فاجأه يوم قرّر التدخل عسكرياً فيها. وقع المفاجأة يزيده حضوراً عدم قدرة كثيرين، بمن فيهم الأميركان، على قراءة نيات الرئيس الروسي، والتنبؤ بسلوكه. وما يزيد الصورة تعقيداً بالنسبة إلى منطقتنا العربية عدم القدرة على تحديد أهداف السياسة الخارجية للرئيس بوتين وفهمها على وجه الدقة، لأننا نستمر، في محاولة قراءتها، من زاوية ما يعنينا منها (سورية تحديداً)، وليس من زاوية ما يعني روسيا ويهمها في بيئتها ومحيطها، وهي زاويةٌ، بالتأكيد، أوسع وأشمل، إذ تتضمن قضايا وملفات عديدة، لا صلة لنا بها. فوق ذلك، يبدو الرئيس بوتين مستمتعاً بمشاهدة الحيرة تعلو الوجوه حيال سياسته وتصرفاته. لذلك، تجده لا يفتأ يحاول ابتكار المزيد منها، حتى يزداد العالم حيرة، ويزداد هو إعجاباً بذاته وقدراته في ممارسة الدبلوماسية السرية، ومحاكاته رموزها وأبطالها (مترنيخ، أندروبوف، كيسنجر).

واقع الأمر أنه يصعب فهم السلوك الروسي في سورية، إذا حاولنا ربطه بحيثيات الأزمة السورية وجدولها الزمني، وهو بحق لا يعد ممكناً إلا إذا عدنا إلى خطاب بوتين الشهير الذي ألقاه في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، وصرخ فيه، للمرة الأولى، في وجه الغرب، وخصوصاً إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، احتجاجاً على مساعي تطويق روسيا بالثورات الملوّنة، التي بدأت في جورجيا عام 2003، وانتقلت إلى أوكرانيا عام 2004، ثم قرغيزيا في العام الذي يليه، فضلاً عن إعلان واشنطن نيتها إنشاء درع صاروخي في التشيك وبولندا، يجرّد روسيا من قدراتها الصاروخية الاستراتيجية. منذئذ، قرّر بوتين أن عليه أن يستغل فرصة انشغال واشنطن واستنزافها في العراق وأفغانستان للرد.

بدأ بوتين العمل من جورجيا، حيث غزاها في أغسطس/آب 2008، وسلخ عنها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، من دون أن تستطيع إدارة بوش أن تفعل شيئاً لإنقاذ حليفها الرئيس ساكاشفيلي من هزيمة نكراء. استكمل بوتين مخططه بالخطوة الأهم، وهي استعادة أوكرانيا من حضن الغرب، فتمكّن من خلال دعم حليفه، فيكتور يانوكوفيتش، في انتخابات عام 2010 من إطاحة النخبة الموالية للغرب، والتي ظل يضيّق عليها بقطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، كلما اشتدّ فيها برد الشتاء، حتى لفظها الناخب الأوكراني. ومستفيداً من الارتفاع الكبير في أسعار النفط، وبناء احتياطي كبير من العملات الصعبة، وبعد تأمين حدوده الجنوبية عبر إجهاض محاولات جورجيا الانضمام إلى "الناتو"، واستعادة أوكرانيا، قرّر بوتين أن أمامه نافذة تمتد إلى مطلع عام 2015 ليتمكّن من إنجاز مشروعه الأكبر (الاتحاد الأوراسي)، وذلك قبل أن تكمل واشنطن الانسحاب من أفغانستان، وتعود إلى التركيز بشكل كامل على أوراسيا.

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوراسي الذي تم التوقيع على اتفاقية إنشائه في 29 مايو/أيار 2014، يمكن أن يضم نظرياً كل دول الاتحاد السوفييتي السابق، إلا أن بوتين ركّز تحديداً على دولتين، هما كبرى جمهوريات آسيا الوسطى (كازاخستان) وكبرى جمهوريات أوروبا (أوكرانيا)، وتعد هاتان الدولتان بحق بمثابة الجناحين، الآسيوي والأوروبي، لقلب روسيا الأوراسي. لكن الأميركان الذين كانوا ينظرون، بقلقٍ شديد، إلى مخططات بوتين فيما يعتبره خبراء الجيوبوليتك الغربيين قلب العالم (أوراسيا) ما كانوا ليسمحوا له بتحقيق مراده. لذلك، وقبل أشهر فقط من التاريخ المحدّد لإعلان الاتحاد الأوراسي الذي كان يطمح بوتين أن يعيد، من خلاله، أمجاد روسيا ونفوذها على الساحة الدولية، تم اختطاف أوكرانيا منه. رد بوتين بغضب شديد، فالاتحاد الأوراسي لا يعود أوراسياً من دون أوكرانيا، وكان البديل غزو القرم وضمها، وكأن بوتين أراد أن يأخذ الجزء (القرم) تعويضاً عن خسارة الكل (أوكرانيا).

فرض الغرب، على الفور، عقوبات قاسية على موسكو، رفضها بوتين، من زاوية أنها توحي بمعاملته كما تعامل أي دولة عالمثالثية متمرّدة على الغرب. ولذلك، رد عليها بإلغاء خط غاز "السيل الجنوبي" الذي يمر عبر البحر الأسود إلى بلغاريا، ثم إلى أوروبا. وأعلن من أنقرة إنشاء خط "السيل التركي" عوضاً عنه، في مؤشرٍ إلى رغبته في تعزيز العلاقة مع تركيا، على الرغم من الخلاف بينهما حول سورية. لكن بوتين لم يكتف بذلك، بل ظل يتحيّن الفرص لردٍّ أكبر، يساعده في إثبات ذاته، وموقع بلاده دولةً عظمى على الساحة الدولية. وهنا، برزت سورية فرصةً سانحة للرد.

تدخل بوتين في سورية لأسباب عديدة، لبعضها علاقة بالصراع الدائر فيها، وأكثرها مرتبط بمصالح روسيا الكبرى، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، فقد أثاره التقارب التركي-السعودي الذي أخذ منحى جدياً، بعد تسلم الملك سلمان مقاليد الحكم، وإعلان تركيا دعمها التدخل السعودي في اليمن. وقد ظهرت نتائج التقارب السعودي-التركي جلية في سورية، مع تداعي قوات النظام سريعاً في مناطق مختلفة في شمال غرب البلاد وجنوبها أيضاً.

استغل بوتين التوسّل الإيراني له بالتدخل عسكرياً في سورية، باعتبار أنه يخدم غرضه في الرد على الغرب والسعودية التي اتهمها بالوقوف وراء انهيار أسعار النفط، السلعة الرئيسة التي تبيعها روسيا لتقتات منها. وعبر هذا التدخل أيضاً، لاحت لبوتين فرصة إنشاء حزام من عدم الاستقرار، يقع خلف الحزام الذي يحاول الغرب تطويق روسيا به، واستخدام ذلك أداةً لمعاقبته على سلوكه غير "اللائق" في التعامل مع روسيا. وعليه، كان الهدف الروسي، في الأشهر الخمسة الماضية، ليس فقط إنقاذ نظام الأسد، بل تهجير وضخ أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين باتجاه تركيا، ومن ثم أوروبا، حتى كادت أزمة اللاجئين تعصف بالاتحاد الأوروبي الذي كاد يتفكك تحت ضغط الأزمة السورية.

خلاف ذلك، سارع بوتين إلى فتح مسار سياسيٍّ، حاول من خلاله جر الأميركان الذين طالما عاملوه باستخفافٍ بلغ حد الاحتقار (عندما وصف أوباما روسيا استصغاراً بأنها دولة إقليمية) إلى تفاهماتٍ مباشرة معه. وهكذا، انطلقت مسيرة فيينا بعد شهر تماماً على التدخل الروسي، وتمكّن بوتين خلالها من إقناع الأميركان باستبدال العمل في إطار مجموعة دعم سورية المؤلفة من 17 دولة بالعمل في إطار ثنائي. وبذلك، يكون بوتين قد حقق بعض أهم أهداف تدخله في سورية، وفي مقدمتها تأكيد مكانة بلاده باعتبارها دولة كبرى فاعلة وذات وزن، كما نجح في جرّ الأميركان إلى تفاهماتٍ ثنائيةٍ معه ذات علاقة بسورية وغيرها، بعد أن داوموا على رفض الحديث معه، منذ أزمة أوكرانيا. ويبدو أيضاً أن روسيا في طريقها إلى تحقيق تفاهماتٍ مع السعودية بشأن أسعار النفط، وقد تجلى ذلك في اتفاق الدوحة الذي ضم، إلى جانب الدولة الراعية، كلاً من السعودية وروسيا وفنزويلا، وقرّر تجميد إنتاج النفط، وفق معدلات شهر يناير/كانون الثاني الماضي، ما استدعى ارتفاعاً في الأسعار تجاوز 40% من أدنى مستوى لها عند حدود 27 دولاراً إلى حدود 40 دولاراً للبرميل الواحد، وقد ساعد على ذلك خروج كثير من الحفّارات من العمل في الولايات المتحدة بسبب انهيار الأسعار.

هل يعني تحقيق هذه الأهداف أن بوتين قد قرّر سحب كل استثماراته العسكرية والسياسية والاقتصادية في سورية؟ الأرجح أنه لم يفعل، فمن جهةٍ، لم تعلن روسيا نيتها سحب كامل قواتها، بل قرّرت الاحتفاظ بوجود عسكري في قاعدة حميميم وميناء طرطوس. ومن جهة أخرى، يبدو أن روسيا غير مستعدة للتخلي عن التنسيق الذي بدأ، الآن، بين الجيشين الروسي والأميركي في سورية لمواجهة تنظيم الدولة، وهو مطلب ألحّ الروس عليه طويلاً، وظلت ترفضه واشنطن قبل أن توافق عليه أخيراً. لكن الأهم من ذلك كله أن بوتين سيستمر في محاولة البرهنة للعالم أنه الوحيد القادر على اجتراح معجزة الحل في سورية. هذا الأمر سوف يؤدي على الأرجح إلى اتساع الخلافات مع نظام الأسد حول مقتضيات التسوية التي تسعى إليها موسكو وفق التفاهمات والأثمان التي تم التوافق عليها مع واشنطن. والأرجح أن بوتين يقول للأسد في إعلانه "الدراماتيكي" عن الانسحاب أنه ربما حان الوقت لكي يعيد إجراء حساباته، فموسكو لم تأت لإنقاذه، بل جاءت لإنقاذ نفسها ومصالحها، وهي لن تسمح لأحد بإعاقتها. 

اقرأ/ي أيضًا | طقوس التحريض وفشل نموذج "الاعتدال"/ سليمان أبو إرشيد

(العربي  الجديد)

 

التعليقات