10/05/2016 - 18:38

مبروك لستر... ولكن!

نلاحظ مثلا تكريس الإعلام في الولايات المتحدة لقصص النّجاح الشّخصية، فتستقبل أوبرا وينفري قلّة قليلة من أبناء الطبقات المستضعفة، كالسّود أو المهاجرين في الولايات المتحدة، وتعرض قصصهم الشّخصية كأنها تمثّل فرص أبناء طبقاتهم

مبروك لستر... ولكن!

احتفل فريق 'لستر سيتي' يوم السّبت الماضي بشكل رسمي بإنجاز هائل، واستلم درع بطولة الدّوري الإنجليزي 'البريمير ليج'، وذلك بعد أن كانت التّكهنات قبل انطلاق الدّوري لهذا الموسم تشير إلى أنّ لستر سيصارع من أجل البقاء في الدّوري وعدم الهبوط للدّوري الثّاني 'التشامبيونشيب' كما في العام الماضي. لذا كان من الطّبيعي أن تكون فرصه في قنص اللّقب تقارب الصّفر (١ على ٥٠٠٠، أيّ ٠،٠٢٪).

من لم يهلّل بعد لهذا الإنجاز سيفعل ذلك في الأيام القريبة: غالبيّة عشّاق الكرّة، صحافيّين، معلّقين رياضيّين، فنانين، وسنرى الكثير من السّياسيّين بالطّبع، ربما الملكة بجلالتها وعظمتها ستقوم بذلك.

لستر حتمًا خطف الأنظار، وحبس الأنفاس، وهو يستحق الكثير الكثير من الاحترام حيث استطاع هذا الفريق ذو الميزانيات المتواضعة جدًا، نسبة لفرق أخرى، التّفوق على الفرق الكبيرة ذات التّاريخ الحافل مثل 'مانشستر يونايتد'، 'تشيلسي' و'آرسنال' أو فريق بموارد ميلياريّة كـ'مانشستر سيتي'.

مفاجأة من هذا العيار تزيدنا لهفة لرياضة جميلة جدًا.

طبعًا هنالك أسباب تشرح هذا النّجاح، ولا تقلّل من أهميته، مثل غياب الفرق الكبيرة عن صورة المنافسة لأسباب مختلفة، فمانشستر وليفربول يمرّان بمرحلة انتقاليّة، تشيلسي شهد موسما غريبا جدا بعد أن فاز بالبطولة العام المنصرم، لم يعدّ نفسه كما يجب، وشهد هبوطا حادا بالمستوى عند الكثير من اللاعبين الأساسيّين، وآرسنال ومانشستر سيتي كانا بعيدين عن الثّبات في الأداء.

عامل آخر لعب لصالح لستر هذا العام كان الثّبات في تشكيلته الأساسيّة (فقط ١٨ لاعبا من لستر شاركوا في مباريات الدّوري) وغياب الإصابات الجّديّة من صفوف لاعبيه الأساسيّين الّذين كان لديهم حيّز كبير 'من الراحة' حيث انشغلت فيه الفرق الأخرى بمباريات أوروبيّة صعبة جدًا تحتاج لتركيز ولياقة بدنية عالية.

ليس من المبالغة الادعاء أن لستر دغدغ عشرات الملايين من متابعي كرّة القدم في العالم، واعتقد انّه من المجدي البحث في السّبب الّذي جعل مشجعي الكرة يرغبون بفوز لستر حتّى أكثر من الفرق الّتي يشجعونها! هل هو إعطاؤنا الأمل في أنّنا نستطيع تحقيق أيّ شيء؟ حتّى لو كانت نسبة نجاحنا فيه لا تتعدى النّصف بالمئة؟

ولكن!

لم نكد نحتفي بهذه الدّراما الرّائعة بعنوان 'كل شيء ممكن، حتى بشحّ الموارد' حتى أغرقتنا الرّأسماليّة بماديّتها واستغلالها لهذا الحدث لغاياتها. فلم تتريّث لاقتناص الفرصة والاستفادة منها ماديًا حتّى قبل التّأكّد من أن لستر ستظفر بلقب أفضل دوري أوروبي محلي. فباشرت هوليوود بالبدء بالتّحضير لفيلم عن الفريق والنّجم جيمي فاردي، الّذي لم يكبر في قسم شباب فريق كبير، وبعد النّبش في ماضيه تبيّن انّه كان تحت اعتقال منزلي لفترة في شبابه، وفقط قبل ٤ سنوات تبناه لستر كمهاجم غير محترف ليصل هذا العام لإنجازات فردية رائعة إلى جانب الإنجاز الجّماعي مع زملائه، فقد استطاع كسر الرّقم القياسي لرود فان نستلروي في تسجيل أهداف في ١١ مباراة متتالية في البريمير ليج، وأصبح المهاجم المركزي للمنتخب الإنجليزي. هل هنالك أنسب من هذه القصة لهوليوود؟!

ليست المشكلة هوليوود وصناعة الفيلم، والذي يجب أن ننتظر تصويره وعرضه لنحكم بقدر أكبر من الموضوعية، ولكن هنالك حتمًا مشكلة في استثمار هذا الإنجاز لترسيخ فكرة أن 'الجّميع يستطيع إذا توفّرت الإرادة'. هذه الفكرة صحيحة إلى حدٍ ما، ولكن الخطر في استثمارها يكمن في الغائب لفظيًا من الجّملة والحاضر في التّداعي، أيّ تغيّيب فكرة أن الفرق أساسًا غير متساوية بسبب الفوارق الماديّة الهائلة بينها.

المشكلة الأساسيّة لا تكمن هنا أيضًا: فعالم الرّياضة عامة، وفي كرة القدم في هذا الصّدد أصبحت منذ فترة طويلة رأسماليّة بأقبح أشكالها، فنرى على سبيل المثال فتى لم يبلغ ال٢٣ عام بعد أصبح بحوزته ثروة لا يمكن لعامل كادح، مهني محترف أو حتّى 'رأسمالي صغير' أن يحلم بتجميعها كلّ حياته.

مثال آخر على القباحة هو 'شراء اللاعبين'، حيث نلاحظ أن المبالغ لانتقال نجم من فريق لآخر خياليّة بكل المقاييس، فأصبح شراء خدمات لاعب أغلى من طائرات كبيرة، وحتّى استعمال المصطلح الدّارج 'شراء لاعب' يسلّع الانسان، فاللاعب 'يُعرَض' للبيع، ويقوم من يرغب بضمّه بالمزاودة في السّعر حتى 'يشتريه' بمبالغ خياليّة. (هل تذكّركم هذه المصطلحات بتجارة قديمة؟)

إذًا، تكمن المشكلة الأساسيّة في استغلال العنوان 'كل شيء ممكن حتى بشحّ الموارد' من أجل تكريس الفوارق الطبقيّة، فيصبح الفرق بين الطّبقات مرتبط بالإرادة، وكأنّ فرص الطّبقات المهيمنة والطّبقات المستضعفة في 'النّجاح' متساوية. فكأنّ ابن الطّبقات المفقّرة متساوٍ بفرصه مع ابن الغني أو الطّبقة المتوسطة الّذي يتلقى دروسا خصوصيّة في المدرسة ومساقات تعليميّة بعد الدوام، وفي بعض الدّول يتمكن من الالتحاق بتعليم أكاديمي في المعاهد العاليّة لأنّه يستطيع تحمّل أعباء الأقساط الخياليّة، وبعدها يجد عملا بمساعدة العائلة إلخ…

نلاحظ مثلا تكريس الإعلام في الولايات المتحدة لقصص النّجاح الشّخصية، فتستقبل أوبرا وينفري قلّة قليلة من أبناء الطبقات المستضعفة، كالسّود أو المهاجرين في الولايات المتحدة، وتعرض قصصهم الشّخصية كأنها تمثّل فرص أبناء طبقاتهم. هذه البرامج ترسّخ بعقول النّاس أنّهم جميعًا قادرون على تحقيق أهدافهم بينما الحقيقة غير ذلك، فما هي نسبة أبناء هذه الطبقات في الأماكن الآمنة اجتماعيًا واقتصاديّا؟ وما هو احتمال اعتقال أسود مقابل أبيض في الولايات المتحدة؟ هل نعزو أسباب الفروقات الطبقيّة للإرادة والإيمان بالذات أم لسياسات الأنظمة؟

عندما ننحني احتراما للستر سيتي أو اتليتيكو مدريد يجب ألاّ تغيب عن أذهاننا حقيقة أن الفكر الرّأسمالي لا ينتقص منه قيد أنملة كون هذه الفرق تفوّقت على من هم أفحش منها مالا، بل على العكس، هي توظّف هذه النّماذج كي توهم عامة الشّعب بأنهم جزء متساوٍ في لعبتهم الّتي تدرّ عليهم بالفوائد.

تداعيات فكرة 'يمكن تحقيق أي شيء' لا تطال الطّبقات المستضعفة فحسب، بل المهنيّين والأكاديميّين أيضًا. تشير بعض أبحاث علم النّفس الحديث على الضّغط النّاجم عن فكرة أنّ المرء بمقدوره تحقيق 'ايّ شيء' مما يسبّب تراجعا في الإنجاز، باسم الإنجاز.

اتحاد الدّوري الإنجليزي وشركات التّلفاز صاحبة ملكيّة بثّ مباريات الدّوري الإنجليزي والفيفا، وجهات أخرى قالت مبروك للستر على طريقتها. ووفق الاتفاقيات ستدفع مجتمعة ما يقارب ال ١٧٠ مليون جنيه استرليني لإدارة الفريق. أمّا نحن، كعشاق للكرّة القدم فنكتفي بالقول مبروك للستر ولا نبارك لمن ينتهز الإنجاز الكبير لتعزيز ماديّته المتوحشة.

التعليقات