12/05/2016 - 19:41

محاربة العنف لا تأتي من أهل العنف

ظاهرة العنف والجريمة بأشكالها ودوافعها ليست وليدة الصدفة أو ظرفية فحسب، بل ظاهرة تزحف كحالة مستديمة مهيمنة على حياتنا اليومية وكأسلوب ثابت لدى فئات واسعة لمعالجة الخلافات والمشكلات، بل تتجاوز كل المسميات بعد أن تضافرت جملة من العوامل والأ

محاربة العنف لا تأتي من أهل العنف

بين  الذاتي والموضوعي وبين الداخلي والخارجي من العوامل والأسباب، فإن العنف الاجتماعي الداخلي بصلته الوثيقة بالسياسي والاقتصادي والقصور الثقافي والتربوي، بات حالة سيكيولوجية تنتجها حالة طردية من إحباطات بعض شرائح وفئات اجتماعية مهمشة أنتجتها الحالة العامة، وأصبحت تفرض إيقاعها على المجتمع بأسره في حالة من العدوانية والعنف المرتد على الذات بتغول غير مسبوق، مع عدم إعفاء مؤسسة القهر والقمع العنصرية، وأصبحت ظاهرة خارجة عن السيطرة بعد أن نخرت عظام المجتمع لتطرح مئة علامة سؤال وسؤال عن مستقبل هذا المجتمع وأبنائه، وكل الاجتهادات العاطفية وآليات المواجهة المتبعة التي تعاملت بردود فعل وليس بالفعل المبادر باتت قاصرة وخائبة أمام هذا الجنوح والجموح المجنون، الذي يقض مضاجع مجتمع بأسره، وتأخرنا كمجتمع ومؤسسات في مواجهته ومعالجته من القيادات والمؤسسات المجتمعية، التي ربما لم تخصص لهذا الملف الحارق ما يستحق من الاهتمام وتوقع تداعياته منذ البداية، ما يقتضي المراجعة الجريئة والموضوعية.

وبطبيعة الحال، فإن ظاهرة العنف والجريمة بأشكالها ودوافعها ليست وليدة الصدفة أو ظرفية فحسب، بل ظاهرة تزحف كحالة مستديمة مهيمنة على حياتنا اليومية وكأسلوب ثابت لدى فئات واسعة لمعالجة الخلافات والمشكلات، بل تتجاوز كل المسميات بعد أن تضافرت جملة من العوامل والأسباب مع غياب آليات الردع القانونية والمجتمعية والقيمية وغياب المرجعيات الرادعة والضابطة، لتتحول إلى حالة مرعبة تنذر بما هو أفظع، وهذا يتعلق أولا بالعامل الذاتي الداخلي ودورنا كمجتمع وقوى مجتمعية بعد أن نتمكن من نفض غبار بل وحل وترسبات الماضي من الأنا  الفردية والفئوية، والاعتراف بأمراضنا المزمنة التي تستوجب ثورة على الذات من رأس الهرم لأسفله، ولا مبرر لأحد من القيادات من إلقاء اللوم على الشرطة التي تنفذ سياسة عليا في تعاملها معنا كأعداء.

متى انتشرت الأسلحة النجسة؟

للتذكير، فإن ظاهرة انتشار الأسلحة النجسة في البلدات العربية بكميات هائلة تزامنت بعد قراءات الأجهزة الاسرائيلية لنتائج هبة القدس والأقصى عام 2000، وفي أهم نتائجها فشل الرهان على تشويه هويته وعلى عملية التدجين وأسرلة الأجيال الشابة من فلسطينيي الداخل وانتقاله إلى حالة التنظيم السياسي والثقافي في أعلى مراتبه الذي مثله التجمع الوطني الديمقراطي وعزمي بشارة بندية صادمة ومثيرة وانعكاسه على المشهد السياسي العام وفي أوساط التنظيمات السياسية، وبالتزامن مع طرح الخدمة المدنية وإقامة مراكز للشرطة الجماهيرية في البلدات العربية لاحتواء هذا الفشل الذي تكشف لدى السلطات الإسرائيلية وانعكس على تعاملها مع المجتمع العربي بعد الهبة مقابل تقاعس فاضح لدى جزء كبير من  قيادات المجتمع العربي وعدم فهمها للمقروء والتي انهمكت بالصراعات الفئوية الداخلية والمنافسات،  والقصور الفاضح في قراءة النتائج والاستعانة بالباحثين والمختصين لتحديد آليات وإستراتيجيات المواجهة في ظل الوضع الناشئ بعد أكتوبر، ناهيك عن منطق وآليات التعاطي مع انتخابات السلطات المحلية التي حملت في طياتها كل بذور التوتر و العنف على حساب الصراع الأساسي، لكن المسألة اليوم لم تعد مسألة فردية أو بين مجموعات مهمشة ومجموعات منظمة في المركز، بل حالة تهدد المجتمع بأسره و كينونته الاجتماعية الإنسانية والقومية في ظل  تغول الاحتراب والعنف الداخلي والجريمة في وتيرة كمية ونوعية ربما غير مسبوقة، ما يثير القلق وتزايد التوتر بين الأهالي وخشيتهم أكثر من الآتي، وقلق القوى السياسية والوطنية على التكوين والنسيج الاجتماعي وخشيتها من استنزاف دورها السياسي والوطني وحرف مهمتها الأساسية إلى الانشغال بهذا الملف الحارق والنازف الذي يهدد بنيان المجتمع وسيرورة حياته غير الطبيعية أصلا، وزجه في نفق مظلم في حالة من التآكل الداخلي يصعب الخروج منه على حساب المهمة الكبرى في النضال الوطني كأقلية قومية تعاني كل أصناف التمييز العنصري.

حملة على الشرطة

لا شك أن مهمة مواجهة هذه الآفة القاتلة التي تقزم كل الاجتهادات والوسائل المتبعة لمحاصرتها تستوجب إعادة النظر  بالخطاب والأدوات التي اتبعت لمحاربتها، وابتكار أساليب وآليات أكثر فاعلية ونجاعة، وقد تكون المهام المطروحة حاليًا وبالمدى المنظور هي الأصعب من المهام الإستراتيجية،  إذ يستوجب الأمر من القيادات السياسية والسلطات المحلية وكافة الفعاليات لفتح المعركة بكل قوة لتفعيل دور القانون وتحميل الشرطة كامل المسؤولية عن أمن المواطن وإثارة هذه العاصفة ضمن حالة احتجاجية عارمة لفضح هذه السياسة وهذا الإهمال المقصود.

في الوقت نفسه، على المؤسسات التمثيلية والقوى الوطنية أن تسارع في إعادة بناء مؤسساتها وهيكلتها بما يضمن استعادة ثقة الجمهور بها وتوفير الشرط الأساسي لأن تكون مرجعية مؤثرة ذات صلاحيات وتأثير ضمن حالة إجماع وطني ومعايير أخلاقية اجتماعية وطنية يتم العمل عليها لتصبح مع الزمن معيارا اجتماعيا اخلاقيا للفرد داخل المجتمع،  تمثلها وتعمل بها لجان شعبية محلية من مختلف الجهات والقوى الفاعلة في كل بلدة وبلدة وفرض الحرمان الاجتماعي على كل من يتجاوز الإجماع ومقاطعته في حال مارس العنف أو من حملة السلاح أو استخدام المفرقعات والسلاح في الأفراح ومقاطعتها. إلى جانب ذلك،  مطالبة العائلات في كل بلدة وبلدة والاتفاق في ما بينها أن كل فرد يقوم بفعل عنيف أو اعتداء وإجرام أن يكون الفاعل هو المسؤول عن فعلته وليست العائلة، وأن تعالج المسألة كقضية بلد ومجتمع وليست حمائلية، وعلى كل عائلة أن تنبذ مثل هؤلاء إذا وجدوا بينهم.

غياب دور المؤسسات

أما على مستوى المؤسسات التعليمية والثقافية، على اللجان الشعبية بعد إعادة تأسيسها من شخصيات ذات ثقافة وأخلاق عالية ومؤثرة، أن تشبك عملها ضمن برنامج مباشر وبعيد المدى في التنسيق الكامل مع لجان أولياء أمور الطلاب والهيئات التدريسية من المدراء والمستشارين التربويين بالاستعانة بالأخصائيين لفرض مناخ تربوي وليس تعليميا فقط، بعد توفير كافة الشروط الأساسية لهذه المهمة مع التأكيد على أهمية تعزيز مهمة المعلم التربوية وهي غير متوفرة بكثرة، على أن يتم إعداده تربويا كي لا يسقط إحباطاته على طلابه.

رجال الدين بين الموعظة والعمل..

على رجال الدين الشرفاء من مختلف الطوائف والمنابر أن لا يتم اقتصار دورهم بالموعظة الحسنة، بل يجب ان يتم تنسيق الخطاب سواء الموعظة أو العمل الميداني بالتعاون مع اللجان الشعبية  في ما بينهم و بين الناس، والتنسيق مع مختلف القوى والجهات في البلدة بين الديني والدنيوي، المتدين والعلماني، لطرح برامج تؤكد على القيم الإنسانية ومكانة الإنسان ضمن برامج مستديمة ومدروسة، مع العمل على تكريس قيم التسامح وثقافة الحوار والأساليب السلمية لحل المشاكل وتحريم اللجوء للعنف الذي يطال كل فرد من أبنائنا ومستقبلهم، والدعوة إلى فرض العقاب والحرمان على كل من يتجاوز الإجماع بسلوكيات مؤذية لبلده ومجتمعه والبحث واستكشاف البؤر المنتجة للظواهر ومتابعتها، والبحث الجاد لإيجاد العلاج المناسب لها مع توفير صندوق مالي من أهل المدينة والبلدة لنصرة الأسر الضعيفة والتي أبنائها عرضة للجنوح  للعنف لأسباب اقتصادية واجتماعية.

الاستهلاك وغياب الأهل والتربية السوية

أما دور الأهل، فعلينا أن نقر كأهل أن طبيعة العصر وحياة الاستهلاك القاتلة وانشغالات الحياة أضعفت أواصر وروح العلاقات بيننا وبين أبنائنا، وليس فقط بين أفراد المجتمع، كما أننا نكرس ثقافة الاستهلاك في شكليات وكماليات بذهنية ووعي أبنائنا وانعكاس ذلك كسلوك وممارسة  على حساب الاهتمام بالجوهر لخلق معنى مختلف لعلاقاتنا ولحياتنا وحياة أبنائنا، إلى جانب ضعف الحوار والمراقبة الواعية لأبنائنا مع غياب القدرة في اكتشاف مواهب ومهارات أبنائنا وميولهم. ولا أظن وجود طفل دون ميول أو موهبة يجب رعايتها وتطويرها، وحتى عندما نستكشف هذه المواهب والمهارات لا نعي استحقاقاتها ولا نتقن دائما رعايتها ومتابعتها بنفس طويل، ناهيك عن ضعف مؤسسات التربية اللا منهجية التي في الغالب تفتقر للمهنية وتنحى إلى برامج الترفيه وتتعاطى مع أوقات الفراغ على حساب المضامين مع غياب الرؤى والإستراتيجيات وغياب المسؤولية أيضا، لتصبح هذه الأطر شبه غائبة فعليا إذ على القوى المحلية أن تشكل أيضا جهاز رقابة واستشارة من ذوي الخبرات في مجالات التثقيف والتربية والتجارب الناجحة بالتنسيق والتعاون مع السلطة المحلية.

انتخابات السلطات المحلية كمصدر للعنف

أما السلطات المحلية، فهي تحتاج إلى مساحة كبيرة من المراجعة والبحث وأدعو المختصين للبحث لفهم أحد الجوانب الهامة في هذا الملف المركب الذي واكبته بعض الصحافة الميدانية دون أن تتمكن من الإفصاح عن تفاصيله، ليس خشية من أحد بل حرصا على السلم الأهلي  والمسؤولية الوطنية بما حملت من تناقضات ومفارقات غذت ظاهرة العنف لحد كان على أغلبية الرؤساء لو تمتعوا بشيء من الخجل والمسؤولية  بأن تستحي وتتنحى جانبا حفاظا على سلامة أبنائنا مما بثته تلك الحملات والصراعات المحلية في سبيل كرسي الرئاسة الخاوية، وعند الحديث عن ملف العنف لا يمكن إغفال ما تنتجه السلطات المحلية من مناخ متوتر وإحترابات مؤذية و غير صحية خلال المنافسات الحمائلية والفئوية وزج بلداتنا في أتون معركة تبدأ ولا تنتهي في الدورة الانتخابية القادمة لتتحول إلى حالة مستديمة، لنقول بالتالي إن من يخوض الانتخابات المحلية عبر تنافس عنيف فهو غير مؤهل لمحاربة العنف وهذا ما ينطبق على بعض كوادر وقيادات العمل السياسي، الذي يؤثر على المناخ العام على حساب لغة الحوار وأدب الاختلاف، وبالتالي من يبحث منا على الحلول عليه ألا يغفل أشكال العنف ومصادرها وأن عدم اعتراف المسؤولين بأخطائهم لا يعني أنها حلقة مفقودة من ذهن المواطن بل قد تعطي للكثيرين شرعية لممارسة مختلف أشكال العنف الذي بات لغة يومية تستوجب إنقلابا ثوريا جريئا على ذواتنا.

الإجرام المنظم

الإجرام المنظم لم يعد يقتصر على المدن اليهودية الكبرى وخاصة في المركز، بل امتد بأذرعه إلى مختلف البلدات والمدن العربية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال وهو لا يقتصر على صراعات هذه التنظيمات في ما بينها رغم تعامل الشرطة المركب مع هذه العصابات، الذي قد يحتاج إلى تحقيقات جريئة ومكثفة محايدة للكشف عن سر النفوذ الكبير لعائلات الإجرام ودور الشرطة في محاربتها ومعلوم ان هذه المجموعات تدير ورشات اقتصادية في المدن وبعض القرى ولديها جنود مستخدمين ومنها ما يسمى بالسوق السوداء والقروض في ظل أوضاع اقتصادية متداعية ومزرية، ما يدفع أعداد كبيرة من المواطنين التورط بديون بالغة إلى التصفيات وإثارة حالة العنف والإجرام، ولا يخفى علينا أن بعض المتنفذين في المجتمع العربي ورؤوس الأموال يستعينون بتلك العصابات لحماية أنفسهم وتصفية حسابات وفرض سلتطهم على حساب المال العام، ولا يجرؤ أحد على مواجهتهم.

اقرأ/ي أيضًا للكاتب | أربعينية يوم الأرض: محطة للمراجعة واستعادة الثقة

 وفي الختام علينا وعلى القيادات ألا تستخف بالمواطن وعليها أن تعلم أن محاربة العنف والجريمة يستوجب الجرأة والشجاعة لطرح هذه الجزئيات بتفاصيلها أمام الشرطة وأمام المجتمع بكل صراحة.

 

 

 

التعليقات