13/06/2016 - 19:02

ثورة متلصص من قوقعة

القوقعة رواية للكاتب السوري مصطفى خليفة، يحكي فيها تفاصيل اعتقاله لثلاثة عشر عامًا في معتقلات حزب البعث السوري في ثمانينيات القرن الماضي، بتهمة انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين.في الزنزانة التي قضى فيها معظم فترة محكوميته، وعلى بطانية..

ثورة متلصص من قوقعة

القوقعة رواية للكاتب السوري مصطفى خليفة، يحكي فيها تفاصيل اعتقاله لثلاثة عشر عامًا في معتقلات حزب البعث السوري في ثمانينيات القرن الماضي، بتهمة انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين. خليفة، المسيحي، عاش تلك الفترة بين مطرقة السجان وسندان الجماعات الإسلامية المتشددة، التي اعتبرته كافرا وأرادت أن تقتله في كل فرصة سانحة لكونه ليس مسلما ولأنه إعترف بأنه ملحد أمام جميع المعتقلين، الذين كانو يذوقون أبشع أساليب التعذيب على يد من وصفهم بالمرضى النفسيين وأصحاب العقد.

في الزنزانة التي قضى فيها معظم فترة محكوميته، وعلى بطانية يثنيها على طاقين، وفي نفس الملابس التي كان يلبسها لحظة اعتقاله،  بانتظار اللاشيء، يلف بطانيته حول نفسه ويتلصص من تحتها يتعلم من باقي الأسرى عاداتهم الإسلامية، نقاشاتهم السياسية وغير السياسية، يتدرب على تقنية التسجيل وتوثيق الأحداث بدون ورقة أو قلم، يعيش حالة من الرعب الدائم، ولكنه يتلصص، و من خلال فتحة صغيرة في الحائط الذي يقع مباشرة خلف ظهره يشهد كل ما يحصل في الساحة الخارجية للزنازين، يشهد أنواعا مبتكرة من التعذيب، يتابع المحاكمات الدقيقة التي تنتهي بإعدام كل من يحضرها، إحتفالات السجانين والضباط في رأس السنة، وغيرها من المشاهد الحية التي كانت تملأ عليه وحدته الدائمة، فقد قضى 13 عامًا متلصصًا وأبكمًا، لا يكلم أحدًا ولا أحدًا يكلمه أو يجرؤ على الاقتراب منه، فمنهم من اعتبره نجسًا ومنهم من كان يتحاشاه لألا يكون جاسوسًا للنظام مدسوسًا بينهم.

ليس لهذا فقط قد تثور ثائرة شعب بأكمله، بدأت شعلة الثورة السورية بتأثر 15 طفلا بما رؤوه عبر وسائل الإعلام عن الثورات العربية في الدول المحيطة، وببراءة الأطفال عبرو عما يدور داخلهم، ولكن ما لبثت هذه الحادثة حتى تحولت إلى الشرارة التي انطلقت منها الثورة التي استمرت لوقت قصير سلمية، حتى بدأت قوات النظام بقمع التظاهرات وإيقاع القتلى والجرى واعتقال الأطفال والكبار والنساء، وانقسمت سورية بين موال لنظام البعث وبين من عاش استبداد هذا النظام في ظل حكم الأب ليرفض مجددًا العيش في ظل استبداد الابن، ليس من الغريب أن تنتفض الشعوب، فقيادتهم التي كانت تستلم زمام الحكم بنسبة أصوات تبلغ 100%، لا تبالي الآن أكثر، فقد بدأت بدورها تتشيع في خطوة مفادها أن لا تنازل أمام مطالب الشعب، بل وسيكون هناك من يحل محله في حال تحولت الثورة إلى حرب أهلية، ومن داخل الجيش إنطلقت تشيعات جديدة تناهض النظام بإسم التحرر والكرامة والرغبة بإنهاء سنوات الاستبداد. لم يكن استبدادًا على المستوى السياسي وقمع الحريات فحسب، بل وعلى مستوى التجهيل والتجويع وهما أبشع أنواع الاستبداد.

 في العام 2006 دعيت لحضور دورة في أم الدنيا، تحت عنوان التكنولوجيا ووسائل الإعلام، وكان محور الدورة حول استخدام الحاسوب والإنترنيت، وكنا صحافيين من مختلف الدول العربية، تفاجأت كثيرًا بذلك الموظف اللطيف الرصين الذي جلس في مقعده خجولاً إلى جانبي، كنا نتقدم في التدريب وهو ينظر إلي وإلى ما أفعل، حتى سألته 'هل تحتاج إلى مساعدة؟، وهو رجل في الأربعين من عمره، فأجابني 'أنا لا أعلم كيف أستخدم الحاسوب'، والمصييبة الأكبر أنه احد العاملين في وزارة الثقافة السورية، كانت صدمة بالنسبة لي، فقد بدأنا استخدام الحاسوب منذ ما يزيد على عشرة أعوام، ولا تخلو دائرة حكومية من النظام الإلكتروني في العمل فكيف لهؤلاء أن يستمرو بدون تكنولوجيا، ولماذا هذا التجهيل.

لطالما سمعت من والدي أن التعليم في سورية هو من أقوى نظم التعليم على مستوى الوطن العربي، وعلى الرغم من ذلك فإن النسبة الأكثر من طلاب المدارس أخذت تترك التعليم في سبيل توفير لقمة العيش أو السفر إلى خارج البلاد بسبب الفقر المتقع الذي عانى منه ما يقارب 41% من الشعب السوري آنذاك، فما زرع حزب البعث من تجهيل وتجويع حصد ملايين الأرواح حتى بالحظة التي يكتب بها هذا المقال، وبصورة أكثر شراسة من تلك التي سمعنا عنها في عهد الأب، فقد تجاوز الابن كل الحدود الشرعية والإنسانية في سبيل الحفاظ على القيادة.

أما حال الشباب السوري اليوم فهو أيضًا يقضي حياته يتلصص من تحت قوقعته، فهو يعيش في سجن أكثر اتساعًا وأكثر رعبًا، فإما أنه يتلصص من تحت قوقعته ليجد سبيلاً ويجهد فيه للحصول على لقمة العيش وتأمين حياة بعيدة عن الموت والدمار، أو يتلصص ليجد الفرصة السانحة ليترك كل هذا خلفه ويبحث عن ملجأ في رحلة هدفها البحث عن الأمن والاستقرار في بلد غريب، أو أنه في ميادين القتال يتلصص ليجد مساحة من الأمان أو ليتجنب طلقة مباشرة في الرأس أو سكينا حادًا يقطع شرايين عنقه كما الشاه، أو يبحث عن وسيلة تخرجه من الجحيم الذي تحولت إليه حياته بعد إعتقاله من قبل قوات النظام.

أهيب (23 عامًا) استطاع أن يهاجر إلى ألمانيا، فهو ممن عاشوا الثورة حتى قبل قيامها،  يتلصص من هناك،  يشهد ما بحدث على أرض بلاده سورية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، اعتقل والده  بتهمة سياسية، اضطر لترك المدرسة وللعمل في مزرعة تابعة للعائلة لتأمين لقمة العيش لأسرته، نجح، وهو ابن الثالثة عشر في ذلك الوقت، في إنتاج المحصول وبيعه وسداد ديون تراكمت بعد أن اعتقل والده، واستطاع أيضًا أن يدخر مليون بشنتة أي ما يعادل 23 ألف دولار في ذلك الوقت، وخاض رحلة البحث عن والده، يرشو هذا وذاك ليصل إلى والده القابع في معتقل إسمه 'فلسطين'، وهناك تعرض للضرب مرارا لكي يذهب بعيدا عن المعتقل، إلا أنه وببراءة الأطفال، تمسك بموقفه بأنه يود أن يقابل الضابط فلان الفلاني، فقد علم ممن أرسلوه إلى هنا أن في يد هذا الضابط إعادة والده إليه، بعد محاولاته المتكررة أدخله الحراس إلى الضابط المنشود، وهذا بعض ما دار من حوار:

أهيب: أنا معي هالمليون خدوهن وأعطوني أبي.

الضابط: إنت بتعرف إنه بسبب تصرفك هذا ممكن أقتل أبوك.

أهيب: أقتلني معه.

أحضر الضابط والد أهيب ودار بينهما حديث مختصر جدًا، أنهاه الضابط بأن قال لأبي أهيب: يلي بربي هيك ترباي مش لازم يكون عنا.

خرجا معًا، سأل أهيب والده إلى أين تحب أن تذهب، أجابه الوالد عالجزماتية حيث يبتغي وجبة طعام حقيقي بعيدًا عن قذارة السجن وطعم الظلم، ومن ثم شقا طريقهما إلى درعا، ليشهد أهيب بعد ذلك بعشرة أعوام انطلاق الثورة من جديد، حيث سُلب الآباء الأبناء، وبدأت من جديد رحلة الآباء لإيجاد أبنائهم الذين تحرروا لاحقًا، ولا زال المشهد يتكرر، ولا زال الآباء والأبناء يتلصصون من تحت القوقعة، كل وراء مبتغاه، ولا تزال الرقة تذبح بصمت، وحلب تحترق، ودرعا تحت القصف، ولا زال الشباب السوري يتلصص فلماذا الثورة؟ وهل سيأتي اليوم الذي يحرر فيه كل أهيب أبيه، وأن تكون الصورة أكثر إشراقًا.

اقرأ/ي أيضًا للكاتبة | توجيهي بنكهة القهوة والشومر

التعليقات