21/06/2016 - 18:58

إفطارات رمضان بين موائد الرحمن وموائد السلطة

وعودة إلى مثلنا الشعبي، الذي لم يترك شيئا إلّا وقاله، فقد قال "التلم الأعوج من .... الكبير" والكبير في حالتنا هو الزعيم وليس أي شيء آخر، والكبير هو كبير القعدة لذي منح موقعه وحضوره الشرعية الضرورية للإفطار الجماعي، الذي أقيم على شرف

إفطارات رمضان بين موائد الرحمن وموائد السلطة

على مر العصور والدول التي تعاقبت على المنطقة العربية وفلسطين، جرى توظيف المناسبات والطقوس الدينية، وخاصة أيام وليالي شهر رمضان الفضيل، لاسترضاء الفئات الشعبية وتخفيف نقمتها على الدولة/ السلطة وكسب ودها، نزولا عند مأثرة مثلنا الشعبي "اطعم الثم بتستحي العين". وفي هذا الإطار، يندرج استغلال "موائد الرحمن"، التي تحولت مع الزمن إلى إفطارات جماعية، ابتعدت عن مضامين الرحمة والتراحم قدر بقدر ابتعادها عن التسمية، جرى استثمارها لتحقيق هذا الغرض.

 في السياق التاريخي "فقد روي أن أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، هو أول من أمر بدعوة أغنياء وحكام الأقاليم في أول يوم من رمضان، ووزعهم على موائد الفقراء والمحتاجين كي ينفقوا عليها، لأنه رأى في الشهر الكريم استثمارا للفضائل والإخاء بين الأغنياء والفقراء. وفي العصر الفاطمي عرفت "موائد الرحمن" اسم "السماط"، ويروى أن آلاف الموائد كانت تمتد إلى الصائمين غير القادرين، وعابري السبيل، وكان الخليفة العزيز بالله ومن بعده المستنصر بالله يهتمان بموائد الإفطار التي تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة، وكذلك التي تقام في المساجد للفقراء والمساكين. أما في العصر المملوكي، فكان الأمراء الأغنياء يقومون بتجهيز الموائد وإرسالها إلى الفقراء، حيث كانوا يفتحون أبواب التكايا والحانات لاستقبال الفقراء وعابري السبيل، فضلا عن صرف رواتب إضافية للموظفين وطلاب العلم والأيتام، كما ضاعفوا من حصة السكر لزيادة استهلاكه خلال شهر رمضان".

وتوالى هذا الاستثمار السياسي للشهر الفضيل من خلال توزيع المنح والمكرمات، إن كان ذلك على شكل طعام وشراب أو عطايا مالية وإعفاءات ضريبية ومنح عفو عام أو جزئي عن سجناء، وفي عهد الاحتلال الإسرائيلي، عرفت هذه المزايا ببوادر حسن النية تبغي تجميل وجه الاحتلال البشع أو استرضاء السلطة الفلسطينية وامتصاص غضبها على حنث الاحتلال بتعهداته الموقعة معها، فكانت سلطات الاحتلال تستغل حساسية الشهر الكريم لتفرج عن بضعة عشرات أو مئات من الأسرى التي قاربت فترة محكوميتهم على الانتهاء، أو إزالة بضعة حواجز طيارة، أو منح المزيد من تصاريح الدخول إلى داخل الخط الأخضر، ومؤخرًا، التزمت حكومة نتنياهو مثلا بإعادة جثامين شهداء القدس، ليتسنى دفنهم قبل بداية رمضان وحنثت بوعدها.

وفي عهد حكومات سابقة وعهود ماضية، قامت إسرائيل بمثل هذه البادرات تجاه العرب في إسرائيل، أو هي حاولت مواءمة مزايا سلطوية معينة مع حلول الشهر الفضيل وعرضها وكأنها احترام لقدسيته وبركة من بركاته، علما أن هذه المزايا تكاد تقتصر، اليوم، على تحويل مخصصات التأمين الوطني قبل العيد، بعد مطالبات متكررة من النواب العرب.

ما أردنا قوله إن التاريخ الماضي والحاضر يعلمنا أن الدولة، بقطع النظر إن كانت دولة شرعية أو دولة احتلال، هي التي تستثمر شهر رمضان وما يترافق معه من طقوس بغية "إصلاح وضعها مع الرعايا" ولو كان ذلك في أغلب الحالات "ضحكًا على الذقون"، أما أن تستغل الناس الواقعة تحت الحكم/ الظلم أيام وليالي هذا الشهر البيضاء لـ"إصلاح وضعها" مع دولة الظلم أو الاحتلال، فهو سابقة، ليس فقط لا تتفق مع فلسفة هذه الطقوس الرمضانية، بل ولا تستقيم مع المنطق السليم، أيضًا.

وإن كانت الإفطارات الجماعية الاستعراضية ابتعدت بـ"موائد الرحمن" عن المضامين الدينية التراحمية وحولتها إلى مجال للاستثمار البخس من قبل الطبقات والدولة الظالمة أو المحتلة، فإن "الإفطارات التي يقيمها "عرب إسرائيل" لقباطنة دولة الاحتلال وزعماء أحزابها الصهيونية قلبت المفاهيم رأسًا على عقب، عبر تحويلها هذه الإفطارات إلى مسرح لتزلف وتملق المحكومين الواقعين تحت سطوة الظلم والغبن والتمييز لظالميهم وجلاديهم ومكافأتهم على ظلمهم واستكبارهم، فمثلا على ماذا يتم تكريم وزيرة القضاء الإسرائيلية، أييلت شكيد، بإفطار جماعي سيقام غدا أو بعد غد على "شرفها" في وادي عارة، على "قانون الإرهاب الجديد" أم على تجديد "قانون منع لم الشمل" أم على قانون الجمعيات" أم على اقتراح قانون الضم العملي لمناطق "جـ" التي تشكل 60% من الضفة الغربية إلى إسرائيل.

وعلى ماذا نكرم الوزير الليكودي أوفير إكونيس، الذي لم يكلف خاطره حتى حضور الإفطار الذي أقيم على "شرفه"، على تحريضه السافر على رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أم على تدشين مركز الأبحاث والتطوير، الذي افتتحه حديثا في الجولان المحتل. الأمر ذاته ينسحب على زعيم المعسكر الصهيوني، يتسحاق هرتسوغ، الذي حظي، هو الآخر، بإفطار جماعي على "شرفه" في كفر قرع، أسابيع فقط من عودته خائبا بعد أن ذهب زاحفا للانضمام إلى حكومة المستوطنين التي يرأسها نتنياهو، وإعلان براءته من "تهمة حب حزب العمل للعرب".

 (في سياق منفصل تمامًا، أعلن أن ما يسمى بمجلس الإفتاء في الداخل الفلسطيني، أصدر فتوى بتحريم سفر النساء إلى المسجد الأقصى بدون محرم).

وعودة إلى مثلنا الشعبي، الذي لم يترك شيئا إلّا وقاله، فقد قال "التلم الأعوج من .... الكبير" والكبير في حالتنا هو الزعيم وليس أي شيء آخر، والكبير هو كبير القعدة لذي منح موقعه وحضوره الشرعية الضرورية للإفطار الجماعي، الذي أقيم على شرف رئيس دولة إسرائيل، رؤوفين ريفلين، في سخنين، وأقصد رئيس لجنة المتابعة، محمد بركة، ولن تشفع في مثل هكذا مناسبات تصريحات على غرار "محدودية صلاحية رئيس الدولة"، فهو يستطيع منح العفو العام، مثلا، عن عشرات أسرى الداخل، الذين يمضون عشرات السنين في السجون الإسرائيلية منذ ما قبل اتفاق أوسلو، ولن يفعل. ولم يجرؤ مضيفيه حتى على عرض مثل هذا الطلب عليه.

أما ذريعة طلب مساعدة ريفلين في تحرير أموال ما يسمى بـ "خطة تطوير الوسط العربي"، فهي عذر أقبح من ذنب، لأنهم يعرفون، سلفًا، محدودية تأثيره في هذا المجال، ناهيك عن أن الخطة هي منذ البداية كذبة كبيرة، ولا نعلم سبب إغداق مضيفه، مازن غنايم، مديح الظل العالي عليه وعلى "رحمة والده"، بينما لم يدخر هو (ريفلين) جهدًا في ربط النضال الفلسطيني بالإرهاب العالمي، مستغلا عملية أورلاندو التي وقعت في ذات اليوم.

كذلك لا تنفع محاولة إمساك العصا من الطرفين والتظاهر بتأييد المتظاهرين ضد زيارة ريفلين والتصريح لوسائل الإعلام بـ"أنهم يقومون بواجبهم الوطني، ... وأنه من الضروري أن يعرف رئيس الدولة بأن هنالك قطاعات معينة في مجتمعنا لا توافق على مواقفه ومواقف الحكومة حول ما يحدث تجاه المواطنين العرب، وتجاه الشعب الفلسطيني"، فعلى القيادة الوطنية أن تحدد موقعها "بدون تأتأة أو تلعثم"، أما العناق والجلوس إلى جانب ريفلين أو الوقوف إلى جانب المتظاهرين ضده.

التعليقات